من تاريخ كنيستنا
- 152 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا كيرلس الرابع
البطريرك العاشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1852 - 1861م)
- 1-

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

لمحة تاريخية عن تعاقُب الرؤساء على مصر:

ظـلَّ محمد علي باشـا قابضاً على ناصية الأمـور الداخليـة في مصر في السنوات التالية لتسويـة المسألة المصريـة، وصدور فرمانـات الوراثة (قرارات بشأن إدارة مصر من السلطان العثماني في تركيا)، حتى أَنهَكَتْ الشيخوخة قُواه وساءت حالته الصحية عام 1848م(1). فتشكَّل في 9 أبريل مـن هـذا العام مجلس فوق العادة للاضطلاع بتبعـات حالة محمـد علي باشـا الصحية، وهو المجلس الذي ترأَّسه ابنه إبراهيم باشا. ومـن ذلك الحين بَدَأَت حكومة ”إبراهيم“. وفي مايو 1848م، أي بعد مُضيِّ بضعة أسابيع على استلام إبراهيم مقاليد الحُكْم، كَتَبَ القنصل الإنجليزي ”شارلس مري Murray“ إلى حكومته يقول: ”لأن لإبراهيم درايـة وخبرة عملية بشئون التجارة والمال تفـوق درايـة أبيـه وخبرتـه، مِا يحمل على الاعتقاد بـأنَّ حكومته سوف تكون أكثر تَدَبُّـراً في إنفـاق المـال مـن الحكومـة السابقة...“(2).

وقد أَقصَى حُكْم إبراهيم كثيرين مـن المالطيين وغيرهم مـن الأجانب، واستُبدِلَت بهم طائفة من المصريين لهم نفس القدرة والكفاءة.

كما كان أهم ما يشغل تفكير إبراهيم باشا المسألـة المصريـة، أي أن تتحـوَّل في عامَي 1840-1841م من مجرَّد ”باشويَّة“ أي ”ولاية بسيطة من ولايات الإمبراطورية العثمانية“، إلى ”باشويَّة وراثية ذات امتيازات تضمن لها شطراً مـن الاستقلال الداخلي في إدارة البلاد، وفرض الضـرائب ورسـوم الجمارك، وغيرهـا مـن الإصلاحات وممارسة شئون الحُكْم الداخلي أو الذاتي عمومـاً، حتى لا يصـير ارتباطها بتركيا سوى "مظاهر" التبعية لصاحب السيادة الشرعية عليها (أي السلطان العثماني)“.

ولم يكن سرّاً مكتوماً أنَّ السلطان العثماني لم يقبل هذه التسوية إلاَّ مُرغَماً. وقد اهتمَّت حكومة إبراهيم باشـا بـإنجاز التحصينات في الشاطئ الشمالي، وشَرَعَـتْ في تنظيم الجيش المصري، وأعادت التجنيد الإجباري. وقد قَصَدَ إبراهيم باشا إلى الأستانـة في يوليـو عـام 1848م لمقابلة السلطان والحصـول على ”فَرَمان“ (أي إعـلان دستوري) بـ ”الولاية“ (أي بتولِّي إبراهيم باشـا رئاسة مصر وتدبير أمورهـا). وفي 26 سبتمبر من نفس العام، نشرت جريدة الوقائع المصرية أنباء الاحتفال الذي أُقيم لقراءة الفرمان، وكان احتفالاً كبيراً حضره إبراهيم نفسه.

غير أن جميع هـذه الجهود التي بذلها إبراهيم باشا لجَعْل الوراثة من حقِّ ابنه الأكبر، لم تلبث أن ذهبت سُدًى ولم تُسفِر عن أية نتيجة، والسبب في ذلك هـو مَرَض إبـراهيم نفسه ثم وفاته يوم أول نوفمبر عام 1848م (في حياة أبيه محمد علي باشا). فتولَّى الحُكْم من بعده ابن أخيه ”طوسون“ وسُمِّيَ ”عباس الأول“. ولكن للأسف لم يكن له طموح محمد علي وأحلامه، فتخلَّى عن مشروعات جدِّه الباهظة التكاليف.

عباس الأول، يُعطِّل مشروعـات جدِّه (محمد علي): كان عباس الأول (1848-1854م) أقلَّ ميلاً لمشروعات محمد علي، كما كان ينظر بعين الاستياء إلى تدخُّـل الأجـانب في شئون البلاد، فسعى إلى التخلُّص من مثالب هذا النفوذ، إلاَّ أنَّ مساعيه بـاءت بالفشل بسبب التأييـد الذي ناله قناصل الدول الغربية مـن حكوماتهم، مِمَّا أَوْغَر صَدْره ضد الأجانب، ما حمله على إقصائهم من حاشيته ومن الخدمة في مرافق الدولة.

وكان لهذا التطوُّر الذي شعر به عباس نحو الأجانب الأَثَر الأكبر في تاريخ مصر في عهده. ولهذا، كان عهد عباس عهدَ جمود وركود، انطفأت فيه البقية الباقية من جَذْوَة النهضة السابقة.

وقد مات عباس الأول فجأة في 13 يوليو عام 1854م بقصره في بنها، إثر نوبـة مـن الصَّرَع، والتي اشتدَّت وطأتها على عباس في سنواته الأخيرة.

سعيد باشا يتولَّى الحُكْم:

كان ”سعيد“ عند وفاة أخيه ”إبراهيم باشا“ هو المرشَّح للوراثة بعد عباس الأول تبعاً لفرمانات الوراثة، ولكنَّ ”عباس الأول“ كان يسعى لضمان الوراثة لابنه الأكبر ”إلهامي“، ولكن كبار موظَّفي الحكومة كانوا يُعارضون ذلك. لذلك تمكَّن سعيد هذه المرَّة من اعتلاء الولاية، وذهب فوراً إلى القاهرة بعد وفاة عباس ببضعة أيام، في 20 يوليو عام 1854م، حيث استلم زمام الأمور.

وكان سعيد شديد الإعجاب بالحياة الغربية، ولـذلك لم تمرَّ شهور قليلة على وصوله إلى سُدَّة الحُكْم، حتى بَـدَأ في تغيير الأوضاع التي كـانت تُعرقل سير التجارة بين مُدن القُطر وأقاليمه، وتنازَل عن عبء الضرائب المتأخِّرة لكثير من المُزارعين. وأدَّى النهوض بمصلحة النقل وإنشاء الخط الحديدي بين القاهرة والإسكندرية، ثم بين القاهرة والسويس، ثم توسيع ميناء السـويس؛ مـا أدَّى إلى انتعاش حركـة العُمران في هـذا الميناء. كما اتَّخـذ مـن عطفـه على الفلاَّحين تقليلاً مـن سلطة المديريـن ومشايخ البلد، ثم إلغاءً لوظائف المديريـن، وأعمالاً أخرى كثيرة غيَّر بها الجو السياسي والشعبي.

سعيد باشا يلغي الجزية التي كانت مفروضة على الأقباط منذ غَـزْو العرب لمصر (في القرن السابع): ففي عهـده، ألغى سعيد باشـا حوالي سنة 1858م الجزية التي كانت مفروضة على الأقباط منـذ غـزو العـرب لمصر بـاعتبارهم ”ذميين“(3)!

وكأنَّ ذلك الموقف كـان مُقدِّمة إنشاء الدولة المدنية بعد ذلك.

وفي وسط هذه الأحداث السياسية والاجتماعية نشأ الراهب داود الأنطوني الذي صار فيما بعد:

البابا كيرلس الرابع البطريرك العاشر بعد المائة

كان القمص داود الأنطوني لا يزال غائباً عن أرض الوطن يوم نَعَى الناعي البابا بطرس الجاولي. ومع ذلك كان من بين الأساقفة والأراخنة مَـن اقتنع بوجوب اختياره، لِمَا عرفوه عنه مـن الجهاد في سبيل النهوض بالرهبان والأديرة.

سيرة حياة داود منذ ولادته:

وُلِدَ هذا الأب العظيم في بلدة تُدعَى ”الصوامعة الشرقية“ من أعمال جرجا في صعيد مصر، حوالي سنة 1531ش/ 1815م، من أبوين تقيَّين. ودُعِيَ اسمه ”داود“ على اسم جدِّه الأكبر أبي أبيه(4). وكان أبوه يُدعَى ”توماس بن بشوت بن داود“، وهو من عائلة مصرية صميمة في الوطنية المصرية، وكان مُزارعاً معروفاً بين قومـه بالسذاجة وسلامة النيَّة. وكان رجلاً أُمِّيّاً، إلاَّ أنه اعتنى بتربية ابنه، كما كان يتربَّى أقرانُه أبناء الأقباط في الكتاتيب القبطية، حيث دَرَجَ أولاد الأقباط على التعلُّم؛ ذلك أنَّ الكتاتيب كانت مُلحقة بالكنائس والأديرة، يتعلَّم فيها الأولاد حِفْظ المزامير والتسبحة (وهما أهـم كتابَيْن، بعد الإنجيل، كان يتعلَّمها أولاد الأقباط مـن صغرهم)، وكـذلك القـراءات الكنسـية التي تُتلى في القـدَّاس الإلهي؛ بالإضافة إلى العلوم المدنيَّة: الحساب، ومبادئ الأعداد وكسور الفدان، ومبادئ اللغة العربية.

وبعد أن أَتمَّ داود حِفْظ المزامير غيباً، انخرط وسط الفلاَّحين المُزارعين لمُعاضدة والده في أعماله الزراعية. فقد كان يقضي يومه بين المزارع والغياض والأعمال الخشنة، فنما جِسْمه، وقوِيَت عضلاتـه. وهـذا جعله يختلط بالعربان المجاوريـن للقريـة، فتعلَّم منهم ركـوب الخيل والإبل (الجِمَال) السريعة في الجري، حتى اشتهر أَمـره، وصار يُراكبهم ويُسابقهم ويُـرافقهم في أسفارهم في الجبال والصحاري(5).

توجُّهه إلى دير القديس أنبا أنطونيوس:

ولمَّا بلغ الثانية والعشرين من عمره، وفي سنة 1840م، خرج من دار أبيه تاركاً أهله، متوغِّلاً في الصحراء التي كان يقود الجِمَال فيها، وربما كان مُرشـده - مثل بـاقي سُكَّان الصحـاري وراكبي الإبـل - هو نجوم السماء مُسترشداً بالله وواضعاً كل حياته في يديه! وكـان هدفه دير القديس أنبا أنطونيوس كوكب البريَّة وأبي جميع الرهبان(6).

وقد حاول والده كثيراً إرجاعه عن عَزْمه، فلم يُفلِح في سَعْيه، لأن يـد الله قد حفظته، وكان يرعاه بعنايته.

وقـد قام برهبنته الراهب القس أثناسيوس القلوصني رئيس الدير في ذلك الوقت. وقد احتفظ باسمه ”داود“ في الرهبنة.

ولم يمرَّ الزمـن طويـلاً حتى ظهرت مواهبـه، واشتهر بين رفقائـه بالذكاء والوَرَع، ودماثـة الخُلُق، والهمَّـة والنشاط. وقـد اهتمَّ بالدَّرس، ومال قلبه إليه كثيراً، بعد أن هَجَره مدَّةً مـن الزمن؛ فاكتسب باجتهاده ما كان مُعيناً له على بثِّ روح الإصلاح الحقيقي(7).

وفي الوقت نفسه، فاض قلبه بحبِّ إخوته الرهبان. فكـان يجمعهم كلما سَنَحَت الفرصة ويقرأ لهم، ويشرح ما صعب عليهم فَهْمه، ويستحثُّهم على الدَّرس بأنفسهم. وانعكست محبته لهم بمحبتهم له. فوثق فيه رئيس الدير، فكان يأتمنه على الرهبان كلما اضطرت أمور رئاسته إلى ترك الدير لتفقُّد ”العزبة“ والرهبان المسئولين عنها.

الراهب داود يرأس الدير:

وبعد سنتين من رهبنته، انتقل رئيس الدير ”القس أثنـاسيوس القلـوصني(8)“ إلى مساكـن النور. فأَجْمَع الرهبان على انتخابـه رئيساً لهم. وحينما سمع البابـا بطرس الجـاولي في سنة 1842 بفضائله، والرغبة الجماعية مـن الرهبان على اختيار الراهب داود، استدعـاه ورَسَمه قسّاً باسمه. وبعد أن مَنَحَه البركـة، وزوَّده بالنصائح الأبويَّة؛ صرفه إلى الدير ليُباشر مهام رئاسته(9). وبعـد ذلك رسمه ”إيغومانساً“ (أي قُمُّصاً)(10)، ودعاه باسمه القمص داود، رغم حداثة سنِّه.

(يتبع)

(1) يُستَثنَى من ذلك فترة قصيرة من الزمن في غضون عام 1844م، مـا لبث حتى استأنف محمد علي نشاطـه بعدها؛ عـن: ”تاريخ مصر مـن خلال مخطوطة البطاركة لساويرس بـن المقفَّع“، إعداد وتحقيق: عبد العزيز جمال الدين، الجزء الرابع، المجلد 2، ص 2006،1326.
(2) نفس المرجع السابق.
(3) هـذا الجـزء الأول مـن المقال، عـن كتاب: = = ”تاريخ مصر مـن خلال مخطوطة البطاركة لساويرس بن المقفَّع“، إعداد وتحقيق: عبد العزيز جمال الدين، الجزء الرابع، المجلد 2، مكتبة مدبولي، ص 1226-1370.
(4) كتاب 15 تاريخ، ص 312 ”أ“، و”تاريخ كيرلس الرابع“، ص 24؛ عـن: ”سلسلة تاريخ البابوات بطاركة الكرسي الإسكندري“، كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، 1954، ص 179.
(5) كتاب 15 تاريخ، ص 312 ”أ“، و”تاريخ الأُمَّة القبطية“، ص 305-306؛ عـن: ”سلسلة تـاريخ البابوات...“، الحلقة الخامسة، 1954، ص 180.
(6) كتاب 15 تـاريخ، ص 312 ”أ“، و”تـاريخ كيرلس الرابـع“، ص 32؛ عن: ”قصية الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابـع، ص 306؛ عـن: ”سلسلة تاريخ البابوات...“، الحلقة 5، ص 180.
(7) عـن: ”سلسلة تاريخ البابوات...“، كامل صالح نخلة، الحلقة 5، ص 180.
(8) ”قلوصنا“ في محافظة المنيا، عـن: ”قصة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، نفس المرجع، ص 306.
(9) ”قصـة الكنيسة القبطية“، المرجـع السابق، ص 206، و”تاريـخ الأمـة القبطية“، ص 306؛ عـن: ”سلسلة تاريخ البابوات...“، الحلقة 5، ص 180.
(10) يُلاحَظ أنَّ درجة ”الإيغومانسية“ أو حسب نُطقها بالعربي الآن ”القُمُّصيَّة“، ليست ”ترقية“ بحسب المدَّة الزمنية للراهب في ديره، كما هو حادثٌ الآن!! وكذلك اسم الدرجة الكهنوتية ”قِسْ“ أي ”إبريزفيتيروس“ بـاللغة اليونانية، أي ”شيخ“ (وتُنطق الآن بـاللغة العربية ”قس“)، تُستخدَم الآن باعتبارهـا ”ترقية“ الراهب إلى درجة ”قس“! وقـد شاعت - للأسف - في كل الأديرة القبطية!! لكنها ”انتداب“ الراهب، حسـب لغـة كتـاب ”الرسامـات“، ليقـوم بوظيفـة ”تدبيريـة“ لتدبير حياة الرهبان في الدير، أو ليُقام رئيساً للدير فيُرسم ”قُمُّصاً“ أي ”مُدبِّراً“ بيد البابـا البطريرك ال‍مُعتَبَر في الطقس الكنسي أنه هو رئيس الأديرة القبطية كلها.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis