الافتتاحية



الطريق إلى ملكوت الله
- 26 -

«إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله»(1)

إنجيل يوم الجمعة من الأسبوع السادس من الصوم المقدس

- 1 -

المزمـور: «5نَظَرُوا إِلَيْهِ وَاسْتَنَارُوا، وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ. 4طَلَبْتُ إِلَى الرَّبِّ فَاسْتَجَابَ لِي» (مز 34: 4،5).

الإنجيل: «1كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. 2هذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَـالَ لَهُ: ”يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّماً، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ“. 3أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: ”الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ“. 4قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: ”كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟“ 5أَجَابَ يَسُوعُ: ”الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. 6اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. 7لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. 8اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ“. 9أَجَابَ نِيقُودِيمُوسُ وَقَالَ لَهُ: ”كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هذَا؟“ 10أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: ”أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هذَا! 11اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا، وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا. 12إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّـاتِ؟ 13وَلَيْسَ أَحَـدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِـنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ“» (يو 3: 1-13).

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القدَّاس:

كان إنجيل قدَّاس الخميس من الأسبوع السادس من الصوم الأربعيني المقدَّس عن الإفخارستيا؛ أمَّا إنجيل قدَّاس هذا اليوم (الجمعة من الأسبوع السادس من الصوم المقدَّس) فهو عن المعمودية.

إفخارستية إنجيل القديس يوحنا مشروحة، لأن هذا الإنجيل لم يتكلَّم عن الطقس، ولم يَقُل: ”بعد العشاء، أَخَذَ يسوع الخبز وبارَك وكسَّر وأعطى...“. فلم يذكر القديس يوحنا في إنجيله السرَّ المصنوع، ولكن شرح هذا السر!

وفي إنجيل هـذا اليوم أيضاً، إنجيل العماد، يشرح الإنجيل المعمودية روحيّاً، ولم يتعرَّض لطقسها.

آيتان ذُكِرَتا في هذا الإنجيل، أَظهرتا مفهوم المعمودية:

1. «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ».

2. «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ».

الآية الأولى:

”يُولَد مـن فوق“، والنتيجة أنـه ”يرى“؛ وإنْ ”لم يُولَد مـن فوق“، فالنتيجة أنه ”لا يرى“. وكلام نيقوديموس جعل الرب يُعدِّل له المعلومة، فقال له الرب ثانيةً: يُولَد ليس فقط من فوق، وإنما ”من الماء والروح“. والنتيجة أنَّ الرب لم يَقُل: ”يرى ملكوت الله“، وإنما ”يدخل ملكوت الله“.

المسيح في كلامه مع نيقوديموس يُقسِّم الوجود إلى دائرتين: دائرة ”من فوق“ ++ +++ +++ وهي التي جاء منها: «أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ»؛ ودائرة ”من أسفل“ ++ +++ ++++ التي يَعتبرها المسيح أن‍ها موطننا الذي نشأنا فيه: «أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ»، وهي الخاصة بالجسد (يو 8: 23). وعلى ضوء هذا التقسيم، ابتدأ المسيح يتكلَّم. وطبعاً لكلِّ دائرة من الدائرتين وجودها وحدودها وصفات‍ها الخاصة ب‍ها. وقـد أوضح المسيح ذلك عندما قال: «اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ».

فالمسيح هنا يُركِّز على كيفية العبور من العالم السُّفْلي (عالم الجسديَّات)، إلى العالم العلوي (عالم الروحيَّات). وهنا يصف المسيح العالم العلوي بملكوت الله. وهذه هي المرَّة الوحيدة التي ذَكَرَ فيها إنجيل القديس يوحنا ”ملكوت الله“. وعندما تكلَّم الرب يسوع مع بيلاطس، كان يُسمِّي ملكوت الله ”الحياة الأبدية“. وسنتكلَّم الآن عن الميلاد من فوق وعلاقته بالميلاد من الماء والروح.

الميلاد من فوق:

كلمة الميلاد مـن ”فوق“ +++، ستُفهَم على أن‍ها الميلاد ”ثانية“ ++++++، أو الميلاد ”مـن جديد“، أو الميلاد ”الفوقاني“. فعندما تكلَّم المسيح مع نيقوديموس عن الميلاد ”من فوق“، فهمها نيقوديموس على أن‍ها الميلاد ”ثانية“. فاللاهوتيون المصريون القدامى أخذوها على أن‍ها ”الميلاد ثانية“، بينما كثيرٌ مـن اللاهوتيين الآخرين أخذوها على أن‍ها ”الميلاد من فوق“. ولكن في هذا الإنجيل، سنرى أنَّ نيقوديموس فهمها على أن‍ها ”الميلاد الثاني“: «كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟».

هنا الكلام عن ”الميلاد الثاني“، هو الذي أَربك نيقوديموس. فكلمة ++++++ تعني ”الثاني“؛ ولكن نيقوديموس أَغفل كلمة ”يولَد“ بالمعنى الذي يقصده المسيح، فتعجَّب قائلاً: «أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟». لم ينتبه نيقوديموس أنَّ الإنسان لكي يُولَد ثانية لابد له أن يموت، سقط هذا من تفكيره مع أنه عالِمٌ من العلماء الكبار! لأن من الموت ستنبثق الحياة كما سنرى!

فقول نيقوديموس: «كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟»، أَظهَرَ أنـه وقـع في خطأ، إذ اعتَبَر أنَّ الميلاد الثاني يعتمـد على عمر الإنسان وقامتـه؛ ولم يفهم أنَّ ”الميلاد الثاني“ هـو عملٌ إلهي، لا يعتمد على الزمن، طـال أم قَصر؛ ولا على عمر الإنسان، كبر أم صغر!

الحقيقة أنني عندما تأمَّلتُ كلام نيقوديموس، أحسستُ أنه ليس كلاماً بسيطاً أو ساذجاً، ولكنه كـان يستصعب ميلاد الإنسان ثانيةً: «أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟». فميلاد الإنسان مرَّةً ثانية، أمرٌ صعبٌ وشاقٌّ جداً. ربما - كما تصوَّر نيقوديموس - أنَّ دخول الإنسان بطن أُمِّه ثانية، أسهل بكثير من ميلاده من فوق! لأنه في هذه اللحظة لابد للإنسان أن يموت أولاً؛ وبالتالي لابد أن تتغيَّر طبيعته، وتأخذ صفاتٍ جديدة، ومبادئ جديدة، وسلوكاً جديداً.

الآية الثانية:

لقد استطرد الرب يسوع في كلامه مع نيقوديموس، قائلاً: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ». وهنا وضَّح الرب لنيقوديموس أنَّ ”الميلاد من فوق“، هو ”الميلاد من الماء والروح“.

من ال‍مُلاحَظ أنَّ كثيرين من علماء الكتاب المقدَّس، أهملوا كلمة ”الماء“، واكتفوا فقط أنَّ الميلاد الثاني هـو ”من الروح“ فقط. ولكننا سنرى أن كلمة ”الماء“ هنا أساسية كما قـال الرب يسوع، لماذا؟

إنَّ الميلاد مـن الماء بمفهوم المعمودية، كما كان في ذلك الوقت محصوراً في ”معمودية يوحنا المعمدان“، هذا الميلاد وهذه المعمودية هي ”معمودية توبـة“. وما معنى ”التوبة“؟ هي أن يموت الإنسان عـن كلِّ الأعمال السالفة، وعـن كلِّ حياته السابقة بكل أعمالها. فوَضْع ”الماء“ هنا في هذه الآية، بمعنى أنه لابد أن يحدث موت عن الحياة السالفة بكلِّ ما فيها، لكي يقدر الإنسان أن يستمدَّ حياةً ثانية جديدة، بصفاتٍ جديدة، ومعاني جديدة، وقوَّةٍ جديدة!

نُلاحِظ أنَّ القديس يـوحنا كَتَب إنجيله حوالي سنة 95 ميلادية، أي أنَّ الكنيسة مارست المعمودية بكثرة، ومفهوم المعمودية في المسيحية هو أساساً موتٌ. ولكنني أقول أيضاً: إنَّ معمودية يوحنا المعمدان، أي معمودية التوبة، هي موتٌ أيضاً، موتٌ أدبي، موت بالنيَّة، موت عن حياة سالفة بأعمالها الرديئة.

ولكن في الحياة المسيحية، في المسيح يسوع ربنا، صارت المعمودية موتاً فائقاً، موتاً أقوى من الموت الجسدي بدون أن يموت ال‍مُعمَّد فعلاً بالجسد. ففي المعموديـة، نحن نُدفَن فيها مع المسيح ونموت، على أساس أننا نأخذ موت المسيح نفسه.

وأقول: إنـه لو ماتت البشرية كلها، بكلِّ مَن فيها، فلا يساوي موت‍ها هذا موت المسيح على الصليب. فموت المسيح أَمات الموت نفسه، ولكنه أحيا كل الموتى. إنـه موتٌ سامي القيمة جداً، وهذا هو الذي نأخذه في المعمودية!

(يتبع)

**************************************************************************************************

دير القديس أنبا مقار

صدر ت الطبعة الثانية 2018 (مزيدة) من كتاب:

الأسقف الشهيد والعالم

الأنبا إبيفانيوس

أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار

(إعداد: رهبان دير القديس أنبا مقار الكبير - وهو يحوي مقتطفات من حياته وكلمات التعزية)

296 صفحة (من القَطْع المتوسط) الثمن 65 جنيهاً

**************************************************************************************************

(1) هذه العظة هي عن إنجيل قداس يوم الجمعة من الأسبوع السادس من الصوم الأربعيني المقدس عام 1990. وهي رقم (26) من سلسلة العظات التي تُسمَّى ”الطريق إلى ملكوت الله“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis