عظة آبائية


حملان وسط ذئاب
للقديس يوحنا ذهبي الفم
(354-407م)

القديس يوحنا ذهبي الفم

+ «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسْطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ» (مت 10: 16).

نص العظة(1):

بعدمـا طمأن الرب تلاميذه على ضروريـات حياتهم في إرساليتهم، وبعدما سلَّحهم بقوة إجراء المعجزات؛ تكلَّم معهم عمَّا هو عتيدٌ أن يُصيبهم، هم ومَن سيأتي بعدهم على ممر العصور، وأعدَّهم منذ الابتداء للحرب ضد الشيطان مُسْبَقاً قبل أن يحدث ذلك بوقتٍ طويل، وبهذا حقَّق لهم عدة فوائد:

فأولاً، لقد أدرك التلاميذ قوَّة عِلْمه السابق؛ ثم إنه (ثانياً)، ثبَّتهم حتى لا يشكَّ أحدٌ أنه بسبب ضعف معلِّمهم أتت عليهم الشرور؛ وثالثاً، إنه شدَّدهم حتى لا يُصدَموا بهذه الأمور عند حدوثها كما لـو كانت غير متوقَّعة وعلى غير ما كانوا يظنون؛ وأخيراً فإنه أعدَّهم حتى لا يضطربوا عندما يسمعون عن الضيقات وعندما يتواجهون مع الصليب، لأنهم كانوا منزعجين حقّاً في ذلك الوقت حينما وبَّخهم قائلاً: «لأَنِّي قُلْتُ لَكُمْ هذَا قَدْ مَلأَ الْحُزْنُ قُلُوبَكُمْ... وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي أَيْنَ تَمْضِي» (يو 16: 5،6)!

ولنُلاحظ أنه حتى ذلك الحين لم يكن قد قال لهم شيئاً عن نفسه، مثل أنه سيُوثَق ويُقبَض عليه ويموت، وذلك حتى لا ينشغل بالهم؛ بل أعلن لهم فقط في ذلك الوقت ما يتعلَّق بأنفسهم هم.

وقد أراد الرب أن يُعلِّم تلاميذه أنهم بصدد مجالٍ جديد للنضال، وأن أسلوب استعدادهم لهذا المجال ليس مألوفـاً لديهم. فهـا هـو يُرسلهم مجرَّدين وبلا ثوب (إضافي) ولا أحذية ولا عصا ولا كيس ولا مذود، ويأمرهم أن يقبلوا أن يُعَالوا مِمَّن يقبلهم. وهو لم يُقصِر حديثه عند هذا الحدِّ، بل أوضح قوَّتـه التي لا يُعبَّر عنها بقوله لهم: ”وحينما تمضون هكذا، أَظهِروا وداعة الحملان رغم أنكم ذاهبون إلى ذئاب؛ ليس فقط ذاهبون إلى الذئاب، بل أيضاً ستعيشون وسطهم“.

إنه يأمرهم، ليس فقط بوداعة الحملان، بل أيضاً ببساطة الحمام. وكأني به يقول: ”لأني هكذا سأُظهِر قوَّتي كأعظم ما تكون، حينما تصبح الحملان أفضـل مـن الذئـاب حتى وهي وسط الذئاب وتتلقَّى منها آلاف النهشات والذئـاب أبعد من أن تلتهمهم؛ بل بالعكس فإن الحملان هي التي ستترك تأثيرها عليها، وهذا أمرٌ أعظم جداً وأكثر عجباً مـن أن تقتلها. فهي عتيدة أن تُغيِّر روحها وأن تُقوِّم عقلها، هذا مع كونهم اثني عشر رسولاً فقط وسط العالم كله وهو مليء بالذئاب“.

إذن، فليتنا نَخْزَى نحن الذين نفعل العكس، الذين ننطلق كـالذئاب على أعدائنا. ولكـن طالما نحن حملان فسوف نَغلب، حتى ولو كـان هناك عشرة آلاف ذئب يحومون حولنا، فنحن سنغلبهم بالخير والمحبة. أما إذا جعلنا أنفسنا ذئاباً فسوف نصير إلى حـالٍ أسوأ، لأن معونـة راعينا ستتخلَّى عنا، لأن الرب لا يعول الذئاب بـل الحملان. إنـه يتركنا ويعتزل لأننا لا نُعطيه الفرصة ليُظهِر قوَّته معنا. فإن وضعنا في اعتبارنا أنَّ كلَّ النصرة تأتي مـن لَدُنه، فإن أصابنا أيُّ سوء، فحينئذ سيُظهِر لُطفه معنا بقوَّةٍ. أما إن كنَّا نَرُدُّ على الضربات، فإننا نظهر بذلك أننا نتجاهَل نصرته.

ولكني أتوسَّل إليكم أن تسألوا أنفسكم: مَن كان أولئك الذين وُجِّهت إليهم هـذه الوصايا الصعبة والشاقَّـة؟ إنهـم أولئك الوَجلون الأُميُّون غير المتعلِّمين ولا المهذَّبـين، خاملو الذِّكْر مـن كل ناحية، الذين لم يتدربـوا قط على شرائع الأُمم، الذيـن لم يتهيَّأوا ليُقدِّمـوا أنفسهم في المواقـف العامة، الصيَّادون والعشَّارون، أُناسٌ ذوو ضعف شديد. لأنه إن كانت هـذه الصعوبات كافية لأن تُحبط الأكابر والعظماء، فكم بالأَوْلى تُثني وتُفشِل غير المدرَّبين في أيِّ ناحية، وعلى الأخص مَن لم يتمتعوا قط بأيَّة قـدرات ذهنية عظيمة؟ ومع ذلك فلم تثنِ هذه الضيقات عزمهم.

ورُبَّ مَن يقول: ”إن ذلك أمـرٌ طبيعي جداً، لأنـه أعطاهـم قـوَّةً لتطهير البُرْص وإخـراج الشياطين“. ولكني أُجيبه هكـذا: ”إنَّ نفس هـذا الأمر كان كافياً ليُحيِّرهم أكثر، لأنه بالرغم من إقامتهم الموتى كـان عليهم أن يجوزوا في تلك الشرور المُتعبة، عَبْر المُحاكمات والاضطهادات والحروب التي سيُثيرهـا الجميع ضدهم، فضلاً عن بُغضة العالم لهم بصفةٍ عامة، فكيف تُقابلهم كل هذه الفظائع وهم يُجرون كل هذه المعجزات؟ فماذا كانت، إذن، تعزيتهم عِوَض هـذه الضيقات جميعاً؟ إنها قوَّة ذاك الذي أرسلهم. لذا فهو يضع هذه الكلمات أمامهم قبل أي شيء آخر: «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ». وهذا يكفي لتشجيعكم حتى تأمنوا ولا تخشوا أحداً مِمَّن يعتدي عليكم“.

فهل أنت ترى سلطةً أو امتيازاً أو قوَّةً غير مقهورة؟ إنه يعني بها، كما يُفهَم مـن كلامه: ”أن لا تضطربـوا حينما آمـركم أن تكونـوا مثـل الحملان والحمام، وأنا أُرسلكم وسط الذئاب، لأني بـالحقيقة كنتُ أستطيع أن أفعل العكس، فأجعلكم لا تُقاسون أيَّـة أهـوال، ولا تتعرَّضون للذئاب. كنتُ أستطيع أن أجعلكم أقوى جداً من الأسود، ولكن كان من المناسب أن تكونوا هكذا، فإن هذا يُمجِّدكم أيضاً أكثر ويُعلن عن قوَّتي أكثر“.

لقد قال الرب هكذا لبولس (الرسول): «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ» (2كو 12: 9)، ولاحِظوا الآن أنني أنا الذي تسبَّبتُ في أن تكونوا هكذا، وهو يُشير إلى ذلك بقوله: «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ». فـلا تجزعـوا، إذن، لأني أعلم - يقيناً - أنه بهذه الوسيلة أكثر من أيِّ وسيلة أخرى ستكونون غير مقهورين من الجميع.

بعد ذلك، فإنْ كان هؤلاء الرسل ينسبون شيئاً لذواتهم، أو إن كانوا يتصوَّرون أن لا شيء يبدو أنه من عمل النعمة، أو كأنه بحكمتهم سوف يُكلَّلون؛ لذا قال: «كُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ».

ولكن رُبَّ سائل: هل إنَّ حكمتنا ستُلازمنا عند الأخطار الداهمة؟ لا؛ بل كيف سيُمكننا اقتناء الحكمة أساساً حينما تَطغَى علينا الأمواج الكثيرة؟ لأنـه دَعْ الحَمَل يكون وديعاً دائماً وهـو وسط الذئاب الكثيرة جداً، فماذا تراه يستطيع أن يفعل؟ ودَعْ الحمامـة تكون دائماً بسيطة، فماذا تراهـا ستنتفع حينمـا تُصـوَّب السهام لتقضي عليهـا؟ نجيبه: إن هـذا في الواقع لا يَصْدُق مطلقاً مـع العجماوات، أما معك فسيَصْدُق كثيراً وبلا شكٍّ.

ولكن دعنا نرى أيَّ نوع من الحكمة يتطلَّبها منَّا الرب، إنه يقول: ”حكمة الحية“، لأنه حتى وإن فَقَدَ هذا الحيوان كلَّ شيء، وإن كان يمكن أن يُقطع كل جسمه، فهذا لا يهمه كثيراً في سبيل أن تُنْقَذ رأسه. فالرب يقول: ”افعلْ أنت أيضاً هكذا“. فرِّط في كل شيء عدا الإيمان، فالممتلكات والجسد والحياة ذاتها يمكن أن تخضع لكلِّ هذا. أما الرأس فهي الأساس، وإن حُفِظَت لك الرأس (أي الإيمان)، رغم فقدانك كل شيء، فسوف تسترجع الكلَّ بوفرة؛ بل وبأعظم جدّاً مِمَّا كانت.

وعلى ذلك فهـو لم يأمـر أن يكون لنا القلب البسيط سليم النيَّة فقط، ولا مجرَّد الحكمة فقط، بل قد ربط بين الاثنين حتى مـا يصيرا معاً فضيلة. فنتخذ لنا حكمة الحيَّة حتى لا نُصاب في أكثر الأمـور حيويـة لدينا؛ وكذا تكون لنا بساطة وسلامة قلب الحمامة حتى لا نثأر من فاعلي الشر معنا، فلا ننتقم لأنفسنا مِمَّـن يتآمـرون علينا، حيث إنَّ الحكمـة لا تكون بذي جدوى إلاَّ إذا أُلحقت بها البساطة.

والآن لنتساءل: هـل هناك ما هو أقسى من هذه الوصايا؟ أَلاَ يكفي فقط احتمال الشرِّ؟ إنه يجيب: ”لا، لأني لا أسمح لكم قط أن تكونوا ساخطين، وهذه هي صفة "الحمامة". كما لو ألقى إنسانٌ قصبة في النار ويأمرها ألاَّ تحترق بالنار، بل بالحري أن تنطفئ“.

ومع ذلك فليتنا لا نضطرب. كلاَّ، لأن هـذه الأمور قـد حدثت فعلاً، وقـد تمَّت فعلاً، وقـد أُظهِرَت بالحقِّ تماماً، وقـد صـار الناس حكماء مثل الحيَّات وبسطاء مثل الحمام. وقد تمَّ هذا ليس لأنه قد صارت لهم طبيعة أخرى غير تلك التي لنا، لأنهم من نفس طبيعتنا فعلاً.

وليت لا يظنُّ أيُّ واحدٍ أنَّ هذه الوصايا غير عملية، لأن الرب يعرف طبيعة الأمور أكثر من جميع الآخرين. إنـه يعرف أنَّ العنف لا يُخمده العنف بل الكياسة. وإن كنتَ تريد أن ترى هـذه النتيجة مُنفَّذة فعلاً في أعمال الناس أيضاً، فاقرأ سفر أعمال الرسـل وسوف ترى كيف أنه كثيراً ما ثار اليهود ضد أولئك الرسل وصرُّوا بأسنانهم عليهم؛ أمـا هم فـإذ كانـوا يتشبَّهون بالحمامة فيُجيبون بوداعـة لائقـة أَذْهَبَتْ عـن الغاضبين غضبهـم، وأَخمـدت جنونهـم، وكسرت حـدَّة اندفـاعهم. كما حينما قالـوا لهم: «أَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَصِيَّةً أَنْ لاَ تُعَلِّمُوا بِهـذَا الاِسْمِ؟» (أع 5: 28). ورغم أنهم كانوا قادريـن على أن يجروا المزيد من المعجزات إلاَّ أنهم لم يقولوا ولم يفعلوا أي شيء بعنف؛ بل أجابوا عـن أنفسهم بكل وداعة قائلين: «إِنْ كَانَ حَقًّا أَمَامَ اللهِ أَنْ نَسْمَعَ لَكُمْ أَكْثَرَ مِنَ اللهِ، فَاحْكُمُوا» (أع 4: 19).

فهـلاَّ رأيتَ وداعة الحمامة؟ انظر جيداً إلى حكمة الحيَّة: «لأَنَّنَا نَحْنُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ نَتَكَلَّمَ بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا» (أع 4: 20). أَلاَ ترى كيف يجب أن نكـون نحـن كاملين في جميع الأمور حتى لا نصغر أمام الخطر فنثور من قبيل الغضب!

(1) NPNF, 1st Series, Vol. X; H. on Matthew, p. 219.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis