طعام الأقوياء
- 88 -


«احفظهم في اسمك الذين أعطيتني،
ليكونوا واحداً كما نحن»
(يو 17: 11)
- 3 -

«أبانا الذي في السموات»:

إنَّ أهم وأقوى ما يُوحِّدنا ويجمعنا جميعاً مع الله ومع بعضنا البعض، هو نداؤنا لله الآب، كما علَّمنا المسيح في الصلاة الربَّانية أن نقول: «أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ» (لو 11: 2). فالله هـو أبونا كلِّنا، بلا استثناء، أبو كل مَن قَبِلَ ابن الله الكلمة المُتجسِّد، وصار ابناً لله بالتبنِّي، فـ «كُلُّ الَّذِيـنَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. الَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِـنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِـنَ اللهِ» (يو 1: 13،12).

إذن، فقـد أَخذنا هـذا السلطان أن ندعو الله أبانا، من المسيح الذي أَمَرنا أن ندعو أباه الذي في السموات أباً لنا نحن الذين آمنَّا بـه ابناً لله، فصرنا نحن أولاد الله بالتبنِّي. فقـد وُلِدْنا ولادة روحية وليست جسدية البتَّة، فلا دخل للجسد أو الدم أو مشيئة الرجل فيها إطلاقاً، فهي ولادة من الله، ولادة من الروح القدس.

وحيث إنَّ هذه الولادة تتمُّ لنا ونحن في الجسد، لذلك صار الماء هو الواسطة المنظورة لحلول الروح القدس عليها، لكي نُولَد من الماء والروح. ولكنها تظلُّ ولادةً روحية من فوق، يحسُّ الإنسان بمفاعيلها في كلِّ كيانه، وتسري قوَّتها في كلِّ أعضائه، وتُجدِّد ذهنه؛ ولكنه لا يعلم كيف! كهبوب الريح التي لا يَعْلَم الإنسان من أين تأتي ولا إلى أين تذهب!

+ وفي هـذا يقـول القديـس أثناسـيوس الرسولي:

[يقول المسيح في بعض المواضع إنَّ (الله) أباه يُدعَى أباً لنا أيضاً، وذلك بسبب اشتراكه (أي المسيح) في جسدنـا، فإنـه لهذه الغاية قد صار جسداً، حتى أنه لكَوْن الكلمة هو الابن، فبحلول الابن فينا، يُدعَى أبوه أباً لنا أيضاً. ولذلك يقول الكتاب: «أَرْسَـلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُـوبِكُمْ صَارِخاً: ”يَـا أَبَا الآبُ“» (غـل 4: 6). إذن، حينما يكون الابن فينا، مُنادياً أباه الخاص من داخلنا، فإنه يجعله يُدعَى أباً لنا نحن أيضاً](1).

+ كما يقول أيضاً القديس كيرلس الكبير في نفس هذا الصدد:

[فقـال لهم (للتلاميذ): «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَـا الَّـذِي فِي السَّمَوَاتِ» (لـو 11: 2). يا للإحسان الفائق! يا للُّطف المنقطع النظير واللائق بـه وحده! إنـه يخلع علينا مجده الخاص! إنه يرفع العبيد إلى كرامة الأحرار! إنـه يسمح أن ندعو الله أباً لنا بصفتنا قـد ارتقينا إلى طقس البنين. فمِنه هو قد قبلنا هذا الإحسان أيضاً مع بقية ما نلناه... فقـد تغيَّر شكلنا بمـا يُناسب التبنِّي، بـالميلاد الروحي، «لاَ مِـنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَـلْ... بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ» (1بط 1: 23)... وهو نفسه قد صار لنا الطريق والباب والوسيلة لمثل هذه النعمة الفاخرة والمُشتهاة لمَّا تنازَل إلى وَضْع مُشابه لنا. فقد أَخَذَ شكل العبد مع كونه حُرّاً باعتباره إلهاً، وذلك لكي يمنحنا الـذي لـه. والحكيم بولس خادم أسراره يشهد بأنه أَخَذَ لنفسه الذي لنا تدبيريّاً، وأعطانا الذي له، إذ يكتب قائلاً: «... أَنَّهُ مِـنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُـوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2كـو 8: 9). لأن الذي لنا - أي أمورنـا البشرية - يُعتَبَر فقراً لله الكلمة، بينما يُعتَبَر غِنًى للطبيعة البشريـة أن ننال الذي له](2).

«... الذي في السموات»:

لماذا طلب منَّا الرب يسوع أن نُخاطِب الله الآب: ”أبانا الذي في السموات“؟

+ يُجيب الأب متى المسكين قائلاً:

[لأول مرَّة في تاريخ الإنسان يُنادي الإنسان، وهو على الأرض، الله كآب في السماء... لقد صرنا ونحن بشرٌ على الأرض داخل دائـرة المجـد الإلهـي، وأُعطِـيَتْ لنا الصلاحيـة والسلطان أن نُنادي الله في السماء كآب. لقد زالـت الفوارق التي بين الجسد والروح لمَّا أُعطِيَ للـروح أن تصـرخ لتُنادي الله في السماء قائلة: ”أبانا“، لأن ابن الله الوحيد صار كواحدٍ منَّا. لم ترتفع الأرض إلى السماء، بل السماء هي التي تطأطأت ونـزل ابـن العليِّ ليأخذ صورة إنسان. فكما صار هـو صورةً منَّا والأرض موطئاً لقدميه، صرنا نحن في صورة الابن نرنو إلى السماء، ونُنادي الآب كما يُنادي الابـن أبـاه بدالة الحب وربـاط اللاهوتية؛ لأنـه كما ارتبط الابن بالناسوتية، ارتبطنـا نحـن بربـاط اللاهـوتيـة، وإلاَّ ما استطعنا أن نُنادي الله في السماء بأبينا](3).

فإنـه بـولادة الرب يسـوع وحلولـه على الأرض، «ظَهَـرَ بَغْتَةً مَـعَ الْمَلاَكِ (الذي بشَّـر الرعاة بميلاد المسيح) جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّـلاَمُ، وَبِـالنَّاسِ الْمَسَـرَّةُ» (لـو 2: 14،13). بل قـد أعلن الرب يسوع لتلاميذه هذه الحقيقة قائـلاً: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَـرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُـونَ عَلَى ابْـنِ الإِنْسَـانِ» (يو 1: 51). والمسيح بذلك يُشير إلى أنـه بتجسُّـده انفتحت السماء على الأرض، وأنَّ الطريـق إلى السماء صار مُستعلَناً، الذي هو المسيح: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يو 14: 6). بـل إنَّ المسيح بمجيئه إلى العالم، عزم أن يُكمِّل لنا فداءنـا ويمضي ويُعـدُّ لنـا مكانـاً في السماء، وطننـا الأصلي، كمـا قـال لتلاميـذه: «وَإِنْ مَضَـيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 14: 3).

«ليتقدَّس اسمك»:

اسم الله قدوسٌ، وينبغي أن يتقدَّس من كلِّ فم. فـالسمائيون لا يفتأون يصرخـون بأصواتهـم مُقدِّسـين اسـم الله، وقـائلين بلا فتور: ”قدوس قدوس قدوس رب الصَّبـاؤوت. السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس“، وهذه هي التسبحة الشاروبيمية التي نُردِّدهـا داخـل القدَّاس الإلهي لكي نُشارِك الشاروبيم في تسبيحه. فهذا هو معنى تقديس اسم الله في قلوبنـا وعقـولنا وأفـواهنا. وتقديس اسم الله قادرٌ أن يُقدِّس حياتنا.

«ليأتِ ملكوتك»:

فطالما نحن مُتغرِّبون على الأرض، فما زلنا نطلب ونكرز مع المسيح ونقول: «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ» (مت 4: 17). فملكوت الله كاملٌ ومُتكامل في المجد والقداسة والخضوع لله في السماء؛ أمَّا مُلْكه على الأرض فمـا زال صراخنا ودعاؤنـا إليه: ”ليأتِ ملكوتك“، كقـول بولس الرسول: «إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ، لَيْسَ طَوْعـاً، بَلْ مِـنْ أَجْـلِ الَّـذِي أَخْضَعَهَا، عَلَى الرَّجَاءِ...» (رو 8: 20).

ما زلنا نتوقَّـع خـلاص الله لكـلِّ شعوب الأرض، ومـا زال صراخنا مـن أجل أن يأتي ملكوتـه على كـلِّ أُمم الأرض، مُصلِّين هكذا: «لِكَيْ يُعْرَفَ فِي الأَرْضِ طَرِيقُكَ، وَفِي كُلِّ الأُمَمِ خَـلاَصُكَ. يَحْمَـدُكَ الشُّعُوبُ يَـا اَللهُ. يَحْمَـدُكَ الشُّعُوبُ كُلُّهُمْ. تَفْرَحُ وَتَبْتَهِجُ الأُمَمُ لأَنَّـكَ تَدِيـنُ الشُّعُوبَ بِالاِسْتِقَامَةِ، وَأُمَمَ الأَرْضِ تَهْدِيهِمْ. سِلاَهْ» (مز 67: 2-4).

+ وفي هذا يقول الأب متى المسكين أيضاً:

[طِلْبتنا: ”ليأتِ ملكوتك“، ليست باطـلاً ولا مجـرَّد كلماتٍ نقولها؛ ولكنها إحـدى المهام الإلهية الموضوعـة علينا لتكميل عمل رحمة الله، حـين تبلغ آذان الله، فـتزداد تعطُّفاته الأبويَّة، ويُقصِّر الأيام الشريرة، ويُعطي راحةً لأولاده المُعذَّبـين على الأرض، على أساس قانون الله: «اطلبوا تجدوا» (مت 7: 7)](4).

طلبة المسيح من الآب من أجلنا: «أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مُكمَّلين إلى واحد» (يو 17: 23):

لقد علَّمنا المسيح أن نُصلِّي إلى الآب قائلين: «لِيَأْتِ مَلَكُوتُـكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَـذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ»، فـإننا نؤمـن ونثق أنَّ صراخنا كـلَّ حين سـوف يصل إلى مسامعه، ويستجيب إلى صـراخ المُتضرعين إليـه نهاراً وليلاً؛ لأن ذلك يتَّفق مـع إرادتـه وطلبته في صلاته الختامية للآب ليلة آلامه، وردَّدها بلجاجة قائلاً: «احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ» (يو 17: 11)، «كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (ع 21)، «وَأَنَـا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِـداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِـدٌ» (ع 22)، «أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (ع 23).

وقد سبق الرب أن أكَّد لتلاميذه أنه هو الكرمة ونحن الأغصان، ثم أردف قائلاً: «الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هـذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يو 15: 5). كما قال لهم: «مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَـا فِيهِ» (يـو 6: 56)، «فِي ذلِـكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ» (يو 14: 20). والقديس يوحنا الرسول يقول: «بِهذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا نَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِينَا: أَنَّهُ قَدْ أَعْطَانَا مِنْ رُوحِهِ» (1يو 4: 13).

+ ويقـول القديس أثناسيوس الرسولي في هذا الصدد أيضاً:

[حينما نتناول نحـن جميعاً منه هـو بعينه، نصير جميعاً جسـداً واحداً؛ إذ يكـون الربُّ الواحد فينا](5).

+ كما يقول القديس كيرلس الكبير أيضاً:

[فمَن يقدر أن يفصل ويفصم من هذا الاتِّحاد الطبيعي، أولئك الذيـن ارتبطوا بالوحـدة في المسيح بهذا الجسد المقدَّس الواحد؟! لأننا إن كنَّا كلنا «نشترك في الجسد الواحد» (1كـو 10: 17)، فـإننا نكـون جميعاً جسداً واحداً بالتمام، لأن المسيح لا يمكن أن ينقسم](6).

+ كما يقول القديس هيلاريون أسقف بواتييه:

[لقـد وحَّد المسيح طبيعة جسدنـا مع طبيعة كيانه الإلهي في سرِّ جسده الذي يُناولنا إيَّاه. وهكـذا نحـن جميعاً واحـد، لأن الآب في المسيح والمسيح فينا. إذ أنَّ حلول الآب في المسيح، والمسيح فينا، هو الذي يجعلنا واحداً في الآب والابن. فنحن حينما نأكل جسده في السرِّ المقدَّس، نصير بذلك واحداً بسبب أنَّ الآب فيه وأنه هو فينا](7).

+ وفي الختام يقول الأب متى المسكين في كتابه: ”الوحدة الحقيقية ستكون إلهاماً للعالم“:

[... المسيح يضع أبعاد قـوَّة اتَّحاده بالآب واتِّحاد الآب بـه نموذجاً وهويَّة لوحدةٍ يطلبها لنا فيـه ولبعضنا البعض: «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا». وهـو إذ يراهـا تفـوق قدراتنا وتصوُّراتنا، عـاد يطلبها ويلحُّ في طلبها من الآب نفسه! ولا يزال مُتوسِّلاً بدمه!!

إذن، اتِّحاد الكنائـس المنشود، ليس هـو اتِّحـاداً ذا أبعـادٍ زمنية أو جغرافية - كمـا يقولـون - أو يمكـن أن يُبنَى على أسـاسٍ بشري أو فكري مهما كان، لأنه مطلوبٌ أن يكـون اتِّحاداً بـالآب عَبْر المسيح أولاً، ثـم تظهر أفعاله وقوَّتـه فينا على مستوى الزمن والعالم بعد ذلك. ولكـن لأن المسيح يعـرف مُسْبَقاً أنَّ هـذه الوحدة التي ستجمعنا معاً فيه بالآب، ستكون ذات مواهب وقوَّات وتأثيرات فائقة على مجموع الجنس البشري؛ أعلن بكلِّ وضوح أنَّ هـذه الوحـدة سيكون لها عمـلٌ مُباشـر لإيمان العالـم بالمسيح: «لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا»](8).

(يتبع)

(1) St. Athanasius, Against the Arians, Discourse IV,22; NPNF, 2nd Ser. Vol. IV, p. 441.
(2) St. Cyril, On Luke 11: 2; Payne Smith 1,325-327.
(3) ”متى صلَّيتم فقولوا: أبانا الذي في السموات“، ص 8.
(4) ”متى صلَّيتم فقولوا: أبانا الذي في السموات“، ص 12.
(5) ”ضد الأريوسيين“، 3: 22.
(6) ”شرح إنجيل يوحنا“، 17: 21،20.
(7) ”في الثالوث“، 8: 13.
(8) ”الوحـدة الحقيقيـة ستكون إلهامـاً للعالم“، ص 23،22.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis