تأملات في
شخص المسيح الحي
- 60 -



المسيح

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (28)

ثالثاً: المسيح الملك القائم من بين الأموات (6)

الخلود والقيامة:

الرجاء في الخلود، أي عدم الموت، ظاهـرٌ جداً في قيامة المسيح. لكننا نراه الآن في نـور الرجاء في القيامة العتيدة أن تكون.

ما هو الخلود، أي عدم الموت؟ الخلود يعني ببساطة عدم الموت، أي الحصانة مـن الموت. ولكنـه لا يعني عـدم الخضوع للموت الجسدي، ولا يعني عـدم الخضوع لتأثير فساد الجسد الذي يؤدِّي إلى الموت.

+ إنَّ قيامة المسيح من الموت الذي ماته على الصليب، قـد وَهَبَتْ للمؤمن المسيحي الرجاء في القيامة العامة للأمـوات، ثم الحياة الخالـدة التي لا نهاية لها. إنـه موتُ الموت! والرجاء في الحياة الأبدية(1).

الخلود (أو عدم الموت) ظَهَرَ أول مـا ظَهَرَ في مـوت المسيح على الصليب ثـم قيامتـه: فبالرغـم مـن انتشار النبوَّات بإسهاب في العهد القديم عن موت ”المسيَّا“ ثم قيامته من الموت، إلاَّ أنَّ معنى الحياة الأخـرى فيما بعـد المـوت، والدينونة، لم يتَّضح بما فيه الكفاية في هـذه النبوَّات؛ بينما المعرفة الكاملة للخلود قد ظهرت بما فيه الكفاية في الإنجيل كما يلي:

+ «الذي خلَّصنا ودعانـا دعـوةً مقدَّسة، لا بفضـل أعمالنا، بـل وفقاً لتدبيره ونعمته التي وهَبَها لنا في المسيح يسوع منذ الأزل، وكشفها لنا الآن بظهـور مُخلِّصنا يسـوع المسيح الذي قضى على المـوت، وأنـار الحيـاة والخلـود بالبشارة» (2تي 1: 10،9 الترجمة الجديدة).

+ فالمسيح بتحطيمه الموت، وَهَبَ لنا الرجاء في حياةٍ أبدية، مُنيرة، ولا تَفْنَى، مُحوِّلاً ”خلود النفس“ مـن مجـرَّد الافـتراض بـلا نهايـة، وعدم تجاهُل حقيقـة الخلود؛ إلى رؤيـة الإنسان لها على نور قيامة المسيح من بين الأموات(2).

التراث الخالد الذي لا يَفْنَى: فإنه بقيامة المسيح، يكون المؤمنون بالمسيح قد وُلدوا «لرجاءٍ حيٍّ، ولميراث لا يفسد ولا يتدنَّس ولا يضمحل، محفوظٌ لكم في السموات، أنتم الذين بالإيمان تحرسُكم قدرةُ الله» (1بط 1: 3-5 الترجمة العربية الجديـدة)، «فأنتم وُلدتم ولادةً ثانيةً، لا من زرعٍ يَفْنَى، بل من زرعٍ لا يَفْنَى، وهو كلام الله الحي الباقي» (1بط 1: 23 - الترجمة العربية الجديدة).

الرجاء في الخلود قد تحوَّل إلى ما هو أقوى: فإنَّ قيامة المسيح، بالتالي، قد أكَّدت على الرجاء الخالد للبشر، بتحويله إلى الثقة والتأكيد على أنه بالمسيح سنتسامى فـوق المـوت والفساد، كما شرحها القديس أُغسطينوس(3):

[في موت المسيح، مات الموت. فالحياة التي ماتت قد أماتت الموت، لأن كمال الحياة التي في المسيح قد ابتلعت الموت، والموت ابتُلِعَ في جسد المسيح](4).

الموت صار مقهوراً: ما هو هذا الموت الذي قد غُلِبَ وانقهر؟ إنه القهر المُضاعف: الجسدي، حينما يفقد الجسدُ النفسَ التي كانت تُنشِّط الجسد؛ والقَهْر الروحي حينما تفقد النفس نعمة الله، بعد أن كانت النفس هي التي تُنشِّط الجسد بالحياة الروحية.

فهل تموت النفس مثلما يموت الجسد؟ فهي يمكن أن تموت، ولكن ليس كما يموت الجسد. فـالجسد حينما يمـوت، يفقد الإحساس، ويتحلَّل؛ بينما النفس حينما تموت بالخطية، فإنها تفقد النور الروحاني والفرح والسعادة، ولكنها لا تتحلَّل (مثل الجسد)، ولا تبيد؛ ذلك، لأن الكائنـات البشريـة ليست هي فقط ”الجسد“، بل هي الجسد والنفس معاً. فالجسـد وحـده هـو الـذي يُعاني الشَّطَط والانتهاكات التي تؤدِّي إلى التحلُّل والموت؛ بينما النفس التي لا تخضع لقوانين التحلُّل والمـوت، فـإنها تبقى بالتأكيد غير فاسدة، لأن النفس غير مائتة لا يمكن أن تبيد.

+ وهذا يتطابق مع القول الصريح للربِّ يسوع في إنجيل متى: «لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِـنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بـَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِـنَ الَّذِي يَقْـدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (مت 10: 28). والنصُّ لا يقول بأنَّ النفس ستهلك، بل إنَّ الله (وليس الشيطان) هو القادر أن يفعل هذا، كونه كُلِّي القُدرة، وليس شيءٌ مستحيلاً عليه. ولكـن النص لا يتضمن بأنَّ النفس سوف تهلك؛ أمَّـا حيويتها الروحية، فهي تكـون خاضعة للدينونة الإلهية. وبهذا، فإنَّ الأحياء قد صار يصحُّ لهم أن يقعوا في رهبة أمام الموت.

سخرية النساء المسيحيات من الموت: قصة يسردها القديس أثناسيوس الرسولي (في القرن الرابع). هـذه الاتِّجاهات نحو الموت قد تغيَّرت بقيامـة المسيح مـن بين الأموات، وبالتالي تجاه موتهم الجسدي.

+ فقبل القيامة، كان يُنظَر إلى الموت على أنه مُرعبٌ: ”فالكل كان يجهش بالبكاء على موتاهم وكأنهم قد هلكوا وفَنَوا، ولكن الآن أقام المُخلِّص جسده مـن الموت؛ وهكذا، فلم يَعُدْ المـوت حَدَثاً مُرعباً“؛ ذلك لأن المؤمنين ”عرفوا حقّاً أنهم قد بدأوا يعرفون، بل ويصيرون غير قابلين لفساد الجسد“(5) - القديس أثناسيوس الرسولي.

+ ويُقـدِّم القديـس أثناسيوس الرسولي دليلاً وشهادةً على هذا التغيُّر الجذري، بهذه الحقيقة غير القابلة للجـدل التاريخـي، بـأنَّ أولئـك النسـوة الجسورات قد نِلْنَ قوةً للاستشهاد دون أدنى خوف. وكـل مسيحي يكـون قـد عـاش أثناء اضطهاد الإمبراطور دقلديانوس (303-305م) وهو مُعاصر للقديس أثناسيوس، ولذلك كانت النساء يَعرِفْنَ ذلك كحقيقةٍ دامغة. وقد قدَّم مَثَلَيْن اثنين ليُظهِرَ شجاعة هاته النسوة: ”فالنساء المضطهَدات كُنَّ يضحكن عند الموت، كمثلما ينهزم طاغيةٌ من مَلِك حقيقي، ويربط يديه ورجليه؛ وحينئذ كان كلُّ مَن يَعْبُر عليه، كـان يستهزئ به ويحتقره، ولا يعود يخاف من غضبه“.

+ المَثَل الأول هـو استهزاؤهم مـن طاغيةٍ جبَّار، هكذا كان المسيحيون يستهزئون بالموت!

+ أمَّا المَثَل الثاني، فهو لَمْسُهُنَّ للنار دون خوف! ”فالنساء الشهيدات اللواتي شارَكْنَ في قيامة المسيح تعلَّمْنَ أن يزدَريـنَ حتى بما هـو مُخيف بالطبيعة، مثل أولئك الهنود الذين يمسكون بالنار في أيديهم، ويلمسونها ولكـن بـلا خوف، وكمثل الحجارة التي تُحيط بـالأسْبسْتوس، حيث لا يحتاج الأَمـر إلى الخـوف مـن النار حـين تلمسهم“(6).

تعليم بولس الرسول عن الحياة بعد الموت:

الله وحده هو ”الذي لا يموت“: إنَّ تركيز القديس بولس على ما هو بعد هذه الحياة، يؤكِّد على أنَّ الله هو الذي «وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ، سَاكِناً فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ» (1تي 6: 16). ومهما نَسَبنا للبشر إمكانية ”عدم الموت“؛ إلاَّ أنَّ هـذا يكون بالاشتراك مـع الله، الذي له وحده - في جوهره - عـدم الموت. الله ليس خاضعاً لأيِّ فسـاد، أو نَقْص، أو اضمحلال: «مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى»، «الَّذِي لاَ يَفْنَى وَلاَ يُرَى» (رو 1: 23؛ 1تي 1: 17).

القيامة العامة: إنَّ كلَّ البشر سوف يواجهون ”الحياة بعد الموت“، أو ما يُسمَّى ”الآخِرَة“، كما أوضح القديس بولس أنَّ كلَّ واحدٍ سوف يُظْهَر «أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُـلُّ وَاحِدٍ مَا كَـانَ بِـالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَـا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرًّا» (2كو 5: 10). والقديس بولـس هنا كـان يُسلِّم ما استلمه مـن قبل مـن التعليم المسيحي بـأنَّ المسيح - الذي حوكِمَ من أجلنا - سوف يكون هو ديَّاناً للكلِّ في الزمان الأخير.

سنحيا في المسكن السماوي: يكتب القديـس بولس عن الحياة الأخرى الآتية، التي فيها سوف تحيا أجسادنا المائتـة بعد تجديدها، وسوف تحيا بالمساكن السماوية: «نحن نعرف أنه إذا تهدَّمَتْ خيمتُنا الأرضية التي نحن فيها، فلنا في السماء بيتٌ أبديٌّ مـن بناء الله غيرُ مصنوعٍ بالأيدي. وكمـا نتـأوَّه حنيناً إلى أن نَلبَس فوقها بيتَنـا السماوي، لأننـا متى لَبِسناه لا نكـون عُـراةً. وما دُمنا في هـذه الخيمة الأرضية، فنحـن نئنُّ تحت أثقالنا، لا لأننا نريد أن نتعرَّى من جسدنا الأرضي، بـل لأننا نريد أن نَلْبَسَ فوقَه جسدنا السماوي حتى تَبْتَلع الحياةُ ما هو زائلٌ فينا»، أمَّا إكليل الحياة الأبدية الموهوب للمؤمنين، فهو خالدٌ «لا يَفْنَى» (2كو 5: 1-4؛ 1كو 9: 25 الترجمة العربية الجديدة).

نشترك في قيامة المسيح: كل الأفكار عن الحياة الآخرة تُشير إلى أنَّ النفس سوف تتحوَّل طبيعتها بالرجاء في قيامة الأموات. وفي رسائل القديس بولس تُصوَّر الحياة الآخرة كمُشاركـة في قيامة المسيح، حيث يلبس المؤمنون الأجسادَ الروحانية، ويصبحون في شركةٍ مع حياة المسيح القائم مـن الموت (1كو 15: 12-54). ”عـدم الموت“ يُشرَح في الرسالتين إلى مسيحيِّي كورنثـوس، بأنـه حيـاة القيامـة التي لا تموت، حيث لا يخضع جسـد القيامة فينا للموت (1كو 15: 53-54).

+ المُشاركة في سرِّ جسد المسيح الذي قام من الموت، سيبقى سرّاً مؤجَّلاً في إعلانه في تلك الحياة الآخرة التي للمؤمنين (1كو 15: 51-54 مُقتبس من إش 25: 8).

الإيمان يتشوَّق إلى القيامـة بـدون جَـزَع: القديس بولس نفسه كان ينتظر - بفارغ الصبر - الحياة الأخرى: «فـالحياة عنـدي هي المسيح، والموتُ ربحٌ. أمَّا إذا كنتُ بحياتي أقـوم بعملٍ مُثمر، فـلا أعرف ما أختار. وأنا في حيرة بين أَمرَيْن: أرغب في أن أترك هذه الحياة لأكون مع المسيح، وهذا هو الأفضل؛ ولكن بقائي بينكم أشدُّ ضرورة لكم. ولي ثقةٌ بأني سأبقى بينكم جميعاً لأجـل تقدُّمكـم وفرحكـم في الإيمان» (في 1: 21-25 الترجمة العربية الجديدة).

سِمَات الجسد القائم مـن الموت، هـو نفس الجسد، ولكن مُمَجَّداً: بعد انقضاء الأربعين يوماً بعد قيامة المسيح بظهوراتها، ثم الصعود؛ عَبَرَ جسد الرب نحـو حالة المجد. ولا شكَّ أنَّ حالة القيامـة للمؤمنين ستكون على حَسَـب الجسـد المُمجَّد للمسيح (في 3: 21).

+ والمسيح في حياة جسده المتواضع، وكما يقول يوحنا البشير: «... لم يكن قد تمجَّد بعد» (يو 7: 39)، لأن ساعته - كما يقول البشير - لم تكن قد جاءت بعد. فالمسيح خلال خدمته على الأرض لم يكن يُمارِس صفاته الإلهية بالتمام، باعتباره ابن الله؛ أمَّا بعد قيامته، فقد كان يُمارِس خدمته بحُريَّة، مُظهِراً صفاته الإلهية (أي صفات جسده الإلهي البشري) بعد قيامته من الموت.

هو نفسه ”يسوع“: فإنَّ الرب يسوع نفسه، الذي مات، هـا هو قـد قام. وجسد الرب يسوع القائم من الموت، كـان هـو جسد يسوع، وليس جسداً شبيهاً، وليس ”جسداً إثيريـاً“؛ فهـو يأكل، ويُظهر جسدانيته لتلاميذه: «اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَانْظُرُوا، فإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي» (لو 24: 39). وقـد رأوه (أع 10: 41).

فالرب بعد أن قـام، لم يكن شخصه يختلف عن شخصه وهو مصلوب، فجسده بعد القيامة لم يكـن جسداً مختلفاً (يـو 20: 27). فجسد الرب يسوع القائم مـن الموت، كـان يحمل علامـات صَلْبه، ليؤكِّد للمؤمنين بـه أنَّ الذي صُلِبَ هـو نفسه ”الذي قام“.

(يتبع)

(1) Origen, OFP, pp. 181-82, 325-27.
(2) Augustine, Trinity, FC 45, pp. 82-87.
(3) Augustine, CG, FC 14, pp. 457-459.
(4) Augustine, Com. on John XII; NPNF, 2, I, p. 85.
(5) Athanasius, Incarn. of the Word 17; NPNF, 2, IV, p. 51.
(6) Athanasius, Incarn. of the Word 27, 44; NPNF, 2, IV, pp. 51,61.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis