تأملات روحية


«صلُّوا لأجل
الذين يُسيئون إليكم»
(مت 5: 44؛ لو 6: 28)

الصلاة بصفةٍ عامة:

الصلاة - بصفةٍ عامة - ليست مجرَّد طقس أو فرض يُتمِّمه الإنسان لكي يستريح ضميره أنه أكمل وصية الصلاة؛ بـل هي أولاً اشتياقٌ إلهي نحـو الإنسان؛ وثانياً هي نـزوع داخلي عميق في قلب الإنسـان نحو إلهه الذي أحبَّه وأسلم نفسه للموت من أجل خلاصه، لكي يحيا في شركةٍ حقيقية مـع مُخلِّصه الصالح. ونستطيع أن نقـول إنَّ الصلاة هي في عُمقها مُبادرة إلهية نحو الإنسان، واستجابة فورية من الإنسان نحو دعوة الله.

فأروع مُبادرة إلهية نحـو الإنسان، ليعـود إلى حضن الله؛ هي سر المحبة التي أظهرها الله الآب للإنسان بتجسُّد ابنه الوحيـد وبَذْل حياتـه للمـوت لأجـل خلاص الإنسان الخاطئ، لينتشله من هوَّة الفساد والموت إلى الحياة الأبدية والشركة مع الله.

والإنسان مُطالَبٌ، كما قال الرب يسوع: ”أن يُصلِّي كلَّ حين ولا يَملُّ“ (انظر لو 18: 1)، بل كما قال بولس الرسول: «صَلُّوا بِلاَ انْقِطَاعٍ» (1تس 5: 17).

وقد أوصى بولس الرسول ”أن لا نهتم بشيء، بل في كـلِّ شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتُعلَم طلباتنا لدى الله“ (انظر في 4: 6).

+ ويُعلِّـق القديس يـوحنا ذهبي الفم على ما ذَكَرَه بولس الرسول في (في 4: 6)، قائلاً:

[إذاً، ما هـو هـذا الدواء؟ إنه الصلاة، مع الشكر لأجل كـلِّ شيء. حتى أنه (أي بولس الرسول) لا يريـد أن تكـون الصلوات فقط طلبات، وإنما أيضاً تشكُّرات لأجـل الأشياء التي لدينا. لأنه كيف سيطلب أحدٌ ما الأمور المستقبلة دون أن يكون شاكراً مـن أجـل الأمـور السابقة؟ إنـه يقول: «بَلْ فِي كُـلِّ شَيْءٍ بِـالصَّلاَةِ وَالدُّعَـاءِ»، وبـالتالي يجب علينا أن نشكر على كلِّ شيء، بل وعلى تلك الأشياء التي يُعتَقَـد أنها تُسـبِّب حُزنـاً. إن هـذه، في الحقيقة، هي سِمَة الإنسان الشاكر، لأن هـذا بالتأكيد ما تتطلَّبه طبيعة الأشياء، ولكـن هـذا يـأتي مـن النفس التي تشعر بالامتنان، وعلاقتها قويَّة بالله. هذه الصلوات هي التي يعرفها الله، أمَّا الصلوات الأخرى (الشكلية) فـلا يعرفها. هكـذا، إذاً، فلتصلُّوا حتى تُعرَف صلواتكم...](1).

الصلاة لأجل الجميع:

وقد طلب بولس الرسول من تلميذه تيموثاوس في رسالته الأولى له، وبـالتالي يطلب منَّا: «أَنْ تُقَامَ طَلِبَاتٌ وَصَلَوَاتٌ وَابْتِهَالاَتٌ وَتَشَكُّرَاتٌ لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ، لأَنَّ هذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلِّصِنَا اللهِ، الَّـذِي يُرِيـدُ أَنَّ جَمِيـعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تي 2: 1-4).

ومن خلال دعوة الصلاة لأجل الجميع، تأتي دعوة الرب يسوع لنا جميعاً: «صَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (مت 5: 44).

إنَّ الصـلاة لأجـل المُسيئين إلينـا، تُظهِـر بوضوح انسكاب محبـة الله في قلوبنـا بالروح القدس المُعطَى لنا (رو 5: 5)؛ وبالتالي رغبـة قلوبنا، كما هي رغبـة الله، في أن يؤمن جميع الناس بالرب يسوع ويعترفون به إلهاً ومُخلِّصاً لهم، فينالون الخلاص والحياة الأبدية.

إنَّ الخطية والبُغضة تُقسِّيان القلب مـن نحـو الآخرين، كما قال بولس الرسول: «لِكَيْ لاَ يُقَسَّى أَحَدٌ مِنْكُمْ بِغُرُورِ الْخَطِيَّةِ» (عـب 3: 13). وأكبر دليل على الصفح ومُسامحـة المُسيئين إلينا، هـو الصلاة مـن أعماق القلب لأجـل أولئك الكارهين لنا والمُسيئين إلينا. فـالصلاة تُمهِّـد قلب المُسيء وتنخس ضميره، لعلَّه يرتـدع عمَّا يرتكبـه مـن إساءات، وبالتالي يتوب ويـرجع إلى نفسـه أولاً، ثم يعود إلى أحضان الآب السماوي.

+ ويُنبِّهنا القديس أنطونيوس بالابتعاد عـن البُغضة والكراهية، وأن نُظهِرَ المحبـة للجميع، ولاسيما للمُسيئين إلينا، فيقول:

[إنَّ مَـن يُخطئ إلى قريبه، فإنما يُخطئ إلى نفسه. ومَـن يصنع بقريبـه شرّاً، فإنما يصنعه بنفسه. ومَـن يصنع خيراً لقريبـه، يصنع خيراً لنفسه. فمَن هـو الذي يقـدر أن يُسيء إلى الله أو مَن يقدر أن يوصِّل إليه أذيَّة... لهذا فطالما نحن ما نزال لابسين هذا الجسد الثقيل، فلنُنبِّه الله (الساكن) فينـا، بتحريض بعضنا البعض (على المحبة والصلاة)، ونُسلِّم نفوسنا للموت لأجـل (خـلاص) نفوسنا ولأجـل (خـلاص) بعضنا البعض... فلا نكُن مُحبِّين لذواتنا حتى لا نصير خاضعين لقوَّتهـم (أي قـوَّة الشياطين) الخفيَّة، لأن مَـن يعرف نفسـه يعرف جميع الناس... والذي يقـدر أن يُحـبَّ (خـلاص) نفسـه، يًحب (خلاص) كل الناس](2).

وهذه الصلوات التي تُرفع من أجل المُضطهِدين والمُسيئين، نراهـا جليَّـةً في قصص المُعترفـين والشهداء، الذيـن لم يكفُّوا لحظةً عـن الصلاة من أجل الجميع، ولاسيما مُضطهِديهم ومُعذِّبيهم.

+ فعلى سبيل المثال، كان يوجد جندي يُدعى ”تراكوس“، قـد تـرك الخدمة العسكرية في بدايـة الاضطهاد الذي أثـاره ديوكلتيانـوس. وقُبض عليه سنة 304 في مدينة بومبي، هو وزميلاه ”بروبوس“ و”أندرونيكوس“، وقد حوكموا محاكمةً علنيَّة وعُذِّبوا في ثلاث مدن رئيسية. وعندما قُدِّم ”تراكوس“ ثانيةً للمُحاكمة، قـال له الوالي مكسيموس: ”أعتقـد أنَّ الناس يوقِّـرون الشيخوخة بسبب الحكمـة والتعقُّل اللذين يُصاحبانها. لذلك راجع نفسك، ولا تُصِرُّ على أوهامك السابقة، بل قَرِّب للآلهة ونلْ ثناء التقوى“.

فـردَّ عليه تراكـوس: ”أنـا مسيحي، وأُصلِّي لأجلك ولأجل أباطرتك لتنالوا نفس الثناء، وتتركوا عنكم كـل قسـاوة قلب وعَمَى، حتى يقودكم الإله الحق بسرعةٍ إلى اعتقادٍ أسمى وأفضل“.

وحينئذ أَمَـر الوالي أحـد الجنود أن يدُقَّ فم تراكوس بالحجارة، ليَكُفَّ عن كلامه هذا.

فأجابـه الشهيد: ”لا شيء مِمَّا في سلطانـك يستطيع أن يؤذيني، حتى لو قطعتَ كلَّ أطرافي. إنني واقفٌ بثبات أمامكم، في المسيح الذي يُقوِّيني“.

وعندما قُدِّم تراكوس مرَّةً ثالثة للمُحاكمة، أَمَر الوالي أن يُربَط على آلة تعذيب خاصة، ولكـن الشهيد قـال بقوةٍ وعزم: ”افعـلْ بجسدي كـلَّ ما يُرضيك في حياتي وبعد مماتي“.

وإثر هذه الكلمات الجريئة والشُّجاعة، زاد الوالي من تعذيبه للشهيد والتنكيل بـه بقسوةٍ. وأخيراً، أَمَرَ بطرح تراكوس وزميليه الآخـرَيْن للوحوش. لكـن الوحوش كانت تتقدَّم نحوهم وتلعق أقدامهم. فاستشاط الوالي غضباً، وأَمَـر بقطـع رؤوسهم جميعاً بحـدِّ السيف، فنالوا أكاليل الشهادة(3).

+ وفي الأدب الـرهباني، نجـد كثيراً مـن قصص الآبـاء التي يَظهر فيها بجـلاءٍ، مقـدار الصلوات التي يرفعها أولئك القدِّيسون مـن أجل الذين يُسيئون إليهم والصفح عن إساءاتهم. ويذكُر لنا كتاب ”بستان الرهبـان“ هـذه القصـة عـن أنبا زوسيما، إذ يقول:

[في بعض الأوقات جاءني أحد الإخوة الآخذين مني الإسكيم، وكنتُ أُلاطفه، لأنـه كـان مـن الشُّبَّان المُترفين، فقال لي: ”يا معلِّم، إني أُحبُّك“. فقلتُ له: ”إني لم أجد بعد مَن يحبُّني كما أُحبُّه. أنت قلتَ إنـك تحبُّني، وصدَّقتُ قولك، ولكنك إن عَـرَضَ لك مني أَمـرٌ لا تُريـده، فإنك سوف لا تَثبت على مـا أنت عليه الآن. أمَّا أنـا فـلا يُغيِّرني عن المحبة عارضٌ ما“. وحدث، بعد أن عَبَرَ زمانٌ يسير، أن انفصل عني، وصار يسبُّني كثيراً، ويقول عليَّ أقوالاً قبيحة، وكانت تبلغني. فكنتُ أقول لِمَن يُخبرني هذا الكلام: ”إنه إنما يقول بما رأى من شروري التي كانت ظاهرةً له، أما قبائحي الخفية فلا يُحصَى عددها“.

وبعد زمـانٍ، التقى بي (ذلـك الأخ) في قيصرية، وسلَّم عليَّ كعادتـه؛ أمَّا أنـا فقَبِلتُه ببشاشـةٍ، كأنـه لم يَصـدر منه أَمـرٌ قبيح، فسجد لي وقـال: ”يا مُعلِّم، مـن أجل الرب اغفر لي، فقـد تقوَّلتُ عليك بمثالبَ رديئـة كثيرة“. فقلتُ له بطلاقـة وجـه: ”هل تذكُر محبتك عندما قلتَ لي إنني أُحبُّك كثيراً؟ وقلتُ لك وقتئـذ: إنني ما وجدتُ مَـن يحبُّني كما أُحبُّه، وليتحقَّق قلبك أنه ما خَفِيَ عني ما قلتَه، ولمَـن قلتَه، وفي أيِّ وقـتٍ قلتَه! وإنْ أردتَ قلتُه لك، ولم تَقُل شيئاً إلاَّ وسمعتُه، كما هـو - كما قيل - ولم يُقنعني أيُّ مُقنعٍ أن أقـولَ فيك قولاً رديئاً، ولم أترك ذِكْرَك في صلواتي. ولكي تَعْلَم صحة محبتي لك، فقـد حدث لي في بعض الأوقات، أن أوجعتني عيناي وجعاً شديـداً، فصلَّيتُ وأنـا مُنكـبٌّ على وجهي وقـلتُ: يـا ربـي يسـوع المسيح، اشفِني بصلوات الأخ فـلان. وفي الحـال شُفيتُ“! هذا هو جميع ما قلتُه للأخ](4).

فهناك ارتباطٌ وثيـق بين محبة الله التي تملأ قلب الإنسان، ليست فقط من نحو الله، وإنما أيضاً محبة خالصة من نحو خلاص الآخرين ونجاتهم مـن فخاخ العدو؛ وبين الصلاة من قلب طاهر للجميع بلا استثناء، مـن قلب لا يحمل بُغضة أو عداوة أو يشعر بأيِّ انتقام للمُسيئين.

وبالتالي فالذي يحبُّ من كلِّ قلبه، يغفر أيضاً الإساءة مـن كلِّ قلبه، ويُسامح مَن يُسيء إليه ويُبغضه، كما يقـول بولس الرسول: «مُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً» (كو 3: 13).

ومِـن ثمَّ، إذا كـان الحب النقي يمـلأ قلب الإنسان، فإنه يُسامح ويغفر أيضاً من كل كيانه؛ وحينئذ يرفع قلبه بالصلاة والدعـاء مـن أجل المُضطهِدين والمُسيئين والكارهين، لكي يهديهـم الرب ويجتذبهم إلى معرفته، ويستفيقوا مـن فخ إبليس الذي اقتنصهم لإرادته.

+ ويربط القديس أنبا مقار الكبير بين المحبة وبين المغفرة لمَن أساء إلينا، فيقول:

[تأمر الكُتُب المقدَّسة بأنه بكلِّ تحفُّظ يحفظ كلُّ واحدٍ قلبه (أم 4: 23)، لكي إذا ما حَفِظَ الإنسانُ الكلمةَ في قلبه، كفردوس، تمتَّع بالنعمـة، غير مُنصـتٍ للحيَّـة (أي الشيطان) التي تزحـف بالداخل مُوسوسة بما يبعث على اللذَّة، تلك اللذّة التي يُولَـد بواسطتها الغضب الذي يقتـل الأخ، بينما تموت النفس التي ولدتـه (أي التي وَلَدَت الغضب) (انظر 1يو3: 15).

لأجل هـذا فكـلُّ خورس الأنبياء القدِّيسين والرسل والشهداء كانـوا يحفظـون الكلمة في قلوبهم، غير مُبالين بشيء آخـر، بـل مُفضِّلين على الكـلِّ محبة الله والصلاح النابعين مـن الروح القـدس. وهـذا ليس فقط بالقـول أو بمجـرَّد المعرفة، بل بالقـول والفعل وبواسطة الأعمـال دائمـاً... فإنهـم لمَّـا أبغضوا لذَّات الحياة، باتـوا يحبُّـون بالحري الذيـن ينزعون عنهم هـذه اللذَّات كشركـاءَ لهـم في سعيهم نحـو غـايتهم، مُتجنِّبين الخير والشر. فإنهـم مـا كانـوا يستنكـرون الصالحين ولا كانـوا يلومـون الطَّالحـين، بـل يحسبون الجميـع مُنَفِّذين لتدبير السيِّد، لذلك فقد صارت لهم مـن نحـو الجميع مـودَّةٌ متأصِّلة. فإنهم لمَّا سمعوا الرب قائلاً: «اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» (لو 6: 37)؛ حينئذ راحـوا يحسبون الأَثَمَة مُحسنين، مغتنمين منهم الفُرَص لنَيْـل المغفرة. ولمَّا سمعوا أيضاً: «وَكَمَا تُرِيـدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِـمْ هكَذَا» (لو 6: 31)؛ حينئذ أخـذوا يُحبُّـون حتى الصالحـين في ضمائـرهم (أي الممسوكين بالبرِّ الذاتي)، لأنهم هم أنفسهم حين تركوا برَّهم الذاتي والتمسوا برَّ الله، وَجَدوا تبعاً لذلك المحبة المكنونة طبيعياً في برِّ الله](5).

(1) ”تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي“، العظة الرابعة عشرة، في 4: 6.
(2) ”رسائل القديس أنطونيوس“، الرسالة السادسة.
(3) ”الاستشهاد في المسيحية“، للمُتنيِّح أنبـا يـؤانس، ص 152-158.
(4) ”بستان الرهبان“، إعـداد ال‍‍مُتنيِّح أنبا إبيفانيـوس، ص 453-454.
(5) ”الأعمـال الكاملة للقديـس أنبا مقار - العظات الخمسون“، العظة 37: 1-2.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis