من تاريخ كنيستنا
- 162 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا كيرلس الرابع
البطريرك العاشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1854 - 1861م)
- 11 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

لمحة عن عصر البابا كيرلس الرابع:

+ تحدَّثنـا في المقال السابـق (عـدد أكتوبر 2018، ص 40) عن سيرة الأنبا باسيليوس مطران الكرسي الأورشليمي (وكـان يرعى أكثر مـن 15 إيبارشية وبعض الكنائـس). ورأينا أنَّ حياتـه هي صورة مُشرقة ومُشرِّفة للمطران القبطي. فقد تحمَّل الكثير مـن الضيـق والاضطهاد، بـل والافتراء، وصَمَدَ أمامها، وكان فيها أحـد آبـاء الكنيسة الذين تحمَّلوا وصمدوا صمـود الأهرامـات، فأوضحوا بثباتهم الصامت انتصار الحق على الباطل(1).

+ ومما يجدر ذِكْره في هذا العصر، أنَّ مطران المنيا آنـذاك، رأى وجـوب المحافظة على حـقِّ الفلاحين، حيث إنَّ القاعدة التي كانت مُتَّبعة آنذاك أنَّ الأطيان التي لا تُزرَع تُضَمُّ إلى الدائرة السَّنيَّة (أي التي يمتلكها الوالي). لـذلك فإن مطران المنيا كـان - إذا انحسر النيل عن الأراضي التي غطَّاها الفيضان - كـان يُسارِع بإحضار البذور ويـزرع الأرض بيديـه، إلى أن نجـح في ربطها على المزارعين سنة 1856(2). وهـذا دليل قاطع على شعبية الكنيسة القبطية، وعلى تَشارُك الآبـاء مع الأبناء في مختلف نواحي حياتهم اليومية.

+ وتقـول العالمة والكاتبـة إيـريس حبيب المصري: إنهـا رأت بعينيهـا الأنبا ياكوبـوس مطـران الكرسي الأورشليمي (1947-1957) حينما كـان يستيقظ مـع الفجر ويـنزل بجلبابه وطاقيتـه ليكنس ويمسـح أرض كنيسـة الأنبا أنطونيوس بالقدس وساحتها الواسعـة التي تُحيط بها غُرف المقدِّسين. هذا في الوقت الذي يستقبل فيه قناصـل الدول وموظفي الحكومة في قاعـة الاستقبال الفسيحة، بوقارٍ وعِزَّة.

+ لقد وقف الكهنة والشعب في هذه الفترة من التاريخ إلى جـانب البابوات والأساقفة، على أنه ما مِن شكٍّ في أنَّ قمة الهرم ما كانت لتعلو نحو السماء، لو لم يكن تحتها تلك الكتلة المتراصة من البُنيان القوي، لتُمجِّد اسم الله العَليِّ القدوس.

+ ومن المعلومـات الضئيلة التي بين أيدينا نعـرف أنَّ رئيس ديـر السيدة العـذراء الشهير بالسريـان الذي عاصر أبـا الإصلاح، كان هـو القمص عبد القدوس (كـان رؤساء الأديرة، مثل آبائهم، يُرسَـم منهم للديـر الواحد ”إيغومانس“، والذي يُنطق الآن ”القمص“، بخـلاف مـا هـو حادث الآن في رسامة أسقف للدير!! وفي بداية الرهبنة في القرن الرابع، كان يُرسَم ”إيغومانس - قمص“ على البريَّة كلها، والتي كانت تَضُمُّ آنذاك آلاف أو مئات الرهبان، وكـان يُساعدهم قسوس فقط للخدمة الكنسية للرهبان). وخـلال رئـاسته للدير، جدَّد القمص عبد القـدوس كنيسـة السيدة العـذراء بالمغارة، وأصلح سقَّالة الديـر. كـذلك استحضر للدير كل مستلزمات الطاحونة.

+ وقـد قـامت بين القمص عبد القدوس والقمص داود الأنطـوني (رئـيس ديـر الأنبـا أنطونيوس، الذي أصبح فيما بعد البابـا كيرلس الرابع) صداقة وثيقة، حتى أنـه كـان من بين المُوقِّعين على تزكيته ليصير البابا كيرلس الرابع.

+ وحدث أثناء رئاسة الإيغومانس (القمص) داود لدير الأنبا أنطونيوس أن حلَّت بالدير ضائقة مالية، فاستنجد بصديقه القمص عبد القدوس الذي أخذه إلى الخزانة وفتحها، وقال له: ”خُذْ، يا أخي، كل ما تحتاج إليه“. وبالفعل مدَّ يده وأَخَذ كفايته، هكذا بمنتهى البساطة.

+ فلما سمحت مشيئة الله واختيار الشعب بأن ينال القمص داود درجة ”أسقف الإسكندرية“، أي يصير بطريـركاً؛ أراد أن يُعبِّر لصديقـه عـن عـرفانـه بجميله، فعَـرَضَ على القمص عبـد القـدوس أن يرسمـه أسقفاً. ولكـن القمص عبد القدوس رَفَضَ رفضاً قاطعاً.

وأمام هذا الإصرار، عَرَضَ عليه البابا توسيع دير السريان الذي كان آنذاك أصغر أديرة وادي النطرون. وبنـاءً على ذلك، أرسل البابـا كيرلس الرابع كل مستلزمات البناء، ولكن المنيَّة لم تُمهله ليُنفِّذ وعده. وما تزال العربة التي كان قد أرسلها البابا لنقل الحجارة موجودة في الدير حتى الآن(3)!

(+(+(

استمرار السعي لتكميل الرسالة

البابا ديمتريوس الثاني

البطريرك الحادي عشر بعد المائة في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري

(1862 - 1870م)

مقدِّمة: نتابع تسلسُل التاريخ لنجد أنـه حين خلا الكرسي المرقسي باستشهاد ”أبي الإصلاح“ البابـا كيرلس الرابع، أُصيب الأقباط بنوعٍ مـن الذهـول (بسبب الطريقة التي استُشهد بها البابـا كيرلس)، مـا أدَّى إلى أن يظـلَّ هـذا الكرسي العظيم شاغراً مدة سنة وأربعة أشهر ونصف.

+ وحـدث في أواخر هـذه الفترة أن اجتمع مطارنـة أورشليم ومصـر ومنفلـوط، واتَّجهت أنظارهـم إلى ضـرورة اختيـار الـراعي الأول للكنيسة القبطية. فاستدعوا الأراخنة الذيـن كانـوا على صِلة بهم، وتناقشوا معهم في هذا الموضوع المصيري. واستقرَّ الرأي على وجوب دعوة الأنبا يؤانس أسقف المنوفية (وكان قبل رسامته أسقفاً، يُدعى ”القس برسوم الأنطوني“). وكـان قد رافق البابا كيرلس الرابع في رحلته الأولى إلى الحبشة (إثيوبيا الآن). ولكنه لم يرُدَّ على الدعوة.

+ ومن الملاحَظ أنه حتى ذلك العصر، كانت الكنيسة تسير بحسب قوانين الكنيسة القبطية منذ عهد القديس مرقس الرسول، وذلك بأن تختار مَن سيكون أسقف مدينة الإسكندرية العظمى مِن: إمَّا من الشعب، أو من ذوي الرُّتبة الكهنوتية ”قس“ أو ”قمص“ (وليس أسقفاً). لأنه - بحسب قوانين الكنيسة - ممنوع اختيار ”أسقف“ ليكـون ”أسقفاً لمدينة الإسكندريـة العظمى“، لعدم سماح القوانين الكنسية بـانتقال أسقـف إلى إيبارشيـة مدينـة الإسكندرية.

+ فلمـا استبطأوا ردَّ الأنبا يـؤانس أسقف المنوفية، بعثوا إليه بالرسالة التالية:

+ مَطلع شموس المعارف وقمرها، وكوكب طقوس الإكليروس وبَدْرُها، ونُصرة الآباء ال‍مُكمَّلين ال‍مُنتخبين، مصباح البيعة الأرثوذكسية وأمين الأسرار السامية القُدْسيَّة، ينبوع الفضايل الزاهرة، وذو الخِلال (الصفات) النسكيَّة البارعة. قدس الأخ الحبيب المطران الأنبا يؤانس صاحب كرسي المنوفية.

لا زال محفوظاً بالعناية الربِّية، ملحوظاً بالمكارم السيِّدية، ولا بَرَح مُبتهجاً بنجاح رعيَّته، مسروراً بطمأنينة وهدوِّ كرازته. بشفاعة الست مرتمريم ذات القُدس والطهارة ومعدن العفَّة والبرارة، وطِلبات الرسول الطاهر مار مرقس الإنجيلي كاروز الديار المصرية، والأب الطوباني أبينا أنطونيوس كوكب البرية، آمين.

أمَّا بعد القُبلة الروحية الطاهرة وإهداء وجوب التكريمات اللائقة للحضرة الفاخرة، ثم نُقدِّم السلام القلبي لأُخوَّتكم، والشَّوْق الحقيقي الوافر نحو محبتكم. فالداعي للمُراسلة: (أولاً) لافتقاد الخاطر الشريف الباهي للـودِّ النقي، والحب الإلهي؛ (ثـانياً) نُخبر قُدْسكم أنـه قبل تاريخه 19 توت سنة 1578ش (1862م)، كتبنا لقُدسكم خطاباً، يُفيد أنه بحسب الاقْتِضَى (الاقتضاء)، ستَلْزَم الحال حضور حضرتكم إلى المحروسة (أي القاهرة) بالقلاية البطريركية، لأجل اجتماعنا بجمعيَّة البطركخانة لتصير ال‍مُداولة والمراوية مع بعضنا، بإرادة المسيح إلهنا، ليصير انتخاب مَـن يريده الله تعالى بطريركاً للطائفة، بحضور حضرتكم. وأكَّدنا عنه سرعة حضوركم قبل الوقت لإتمام اللازم. ومن التاريخ المذكور لغاية هذا اليوم، ونحن منتظرون تشريف القلاية بقدومكم، وحاصل منَّا غاية المراقبة لقدوم قدسكم لإجراء ما ذُكِرَ.

وحيث صار تأخير حضوركم قَدْر كذا، فاقتضى تحرير هذا لأُخوَّتكم على قبول الاستعجال عنه بتشريف قدومكم لهذا الظرف، بسرعة، لإتمام ما سَلَف ذِكْره، بحضورنا جميعاً بتدبير إلهنا الصالح. ونعمة ربنا يسوع المسيح تصحبنا جميعاً. والشكر لعظمته دائماً أبدياً، آمين.

تحريراً في/ 3 بابة سنة 1578ش أثناسيوس
أسقف منفلوط باسيليوس

مطران القدس الشريف داعي صالح دُعاكم

بطرس مطران مصر + وفي أثناء هذا تصادَف ورود خطاب قُدسكم، ردّاً على ما أُرسل لحضرتكم، وبه تعتذرون عن عدم إمكانكم الحضور بداعي كثرة المياه وتقطيع الجسور. ولدى تلاوته، بحضور حضرات أولادكم عُمُد الطائفة، أعني جمعية البطركخانة، فلم يقبلوا ذلك، وحرَّروا لقدسكم عن الحضور بما فيه الكفاية. ولأجل هذا لزم التحشية (التذكير). وحَضَرَ ولدكم القمص حنا، يُقبِّل أياديكم، مع التماس صالح دُعاكم. وأطال الله بقاءكم.

طالب دُعاكم ولدكم القمص حنا خادم أنطونيوس،

(صورة طبق الأصل، محفوظة بمكتبة الدار البابوية).

استجابة المطران الأنبا يؤانس

لهذه الدعوة المُلحَّة:

+ وما إن انتهى الجميع من التداوُل، حتى انتهت كلمتهم جميعاً إلى اختيار ”القمص ميخائيل عبـد السيِّد“ رئـيس ديـر الأنبا مكاري الكبير للكرامة الكهنوتية العُظمى.

+ وأُقيمت شعائر الرسامة الجليلة في 9 بؤونة سنـة 1578ش (1862م). وهكـذا أصبح القمص ميخائيـل عبـد السيد المقـاري، أسقفاً لمدينـة الإسكندرية العُظمى، وبالتالي البابا المرقسي الحادي عشر بعد المائة باسم: البابا ديمتريوس الثاني.

+ وقـد وصفه معاصروه بأنه كـان ”شهماً، عاقـلاً، مُحبّاً للعلـوم. ولـذلك اعتنى بترتـيب المدارس...“(4).

أول زيارة قام بها البابا الجديد، كانت لسعيد باشـا الوالي: وقـد هنَّأ الوالي قداسـة البابـا ديمتريوس الثاني على الكرامة التي نالها، ثم قال له: ”لا تفعلْ مثل سَلَفَك، بل كل ما يلزمك قُلْ لي عليه مُباشرةً، وأنا مستعدٌّ لأن أؤدِّيه لك“.

+ ومَنْ يدري؟ ماذا كان سيحدث، لو أنَّ البابا كيرلس الرابع (سَلَفه) قد لبَّى دعوة الوالي، وذهب إليه فوراً قبل التوجُّه إلى ديره؟!

+ والآن نُتابـع خطـوات البابـا ديمتريوس الثاني، فنجد أنه وجَّه نظراته الأولى إلى الكنيسة المرقسية التي كـان أبو الإصلاح قـد شَرَعَ في تجديدها، فأتمَّ البابا الجديد بناءها، ثم زخرفها.

+ لقد ظلَّت هذه الكنيسة التي كانت مقرّاً للبابوات، فيما بعد، قائمة حتى عهد البابا القديس كيرلس السادس (البابا الـ 116)، الذي رمَّمها وجدَّدها.

(يتبع)

(1) ”تاريخ الكرسي الأورشليمي“، مقال للكاتب: كامل صالح نخلة، ”مجلة النهضة المرقسية“، مارس 1954 ص 90، أبريل 1945، ص 119-120.
(2) دكتور وليم سليمان قلادة، ”الكنيسة القبطية في مواجهة الاستعمار والصهيونية“، ص 35.
(3) ”الأديـرة المصريـة العامرة“، القمص صموئيل تاوضروس السرياني، ص 178،173.
(4) كتاب: ”الكافي“ لميخائيل شاروبيم، جزء 4، ص 177؛ عن: ”قصة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 363.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis