قضايا إيمانية


قضية الألم والمرض
- 2 -

+ مُلخَّص ما سبق: - هل مِن وجه إيجابي للألم؟ - عن الأسباب الطبيعية للآلام والأمراض؛ - الخطية كمصدر للألم.

+ الخطية كمصدر للمرض:

+ في العهد القديم كان المرض يُعتَبَر عقوبة في بعض الأحيان. فيذكُر سِفْر العدد أنه لمَّا تقوَّلت مريم أخت موسى عليه، بعد زواجه مـن المرأة الكوشيَّة، عاقبها الرب بـالبَرَص، ولم يَعفُ عنها إلاَّ عندمـا طلـب موسى مـن أجلهـا، وبَقِيَت خـارج المحلَّة سبعة أيام قبل أن تُشفَى (عد 12: 1-15).

كمـا أنَّ النبي أليشـع غضب على غلامـه جيحزي الذي اشتهى مـال نُعمان السرياني قائد جيش أرام، وكـان قـد شفاه أليشع من بَرَصه، وحَكَم على جيحزي بأن يلصق بَرَص نُعمان به وبنسله إلى الأبـد (2مل 5: 1-27).

+ وتكشف بعض معجزات الرب أيام تجسُّده عن أنَّ بعض المرض مصدره الخطية. فقبل أن يشفي الرب المفلوج مـن عجزه، قـال له: «ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَـاكَ»، وبعدها قال له: «احْمِلْ فِرَاشَـكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِـكَ!» (مـت 9: 6،2؛ مر 2: 11،5؛ لو 5: 24،20).

وبعد أن شفى الرب مريض بِرْكة بيت حسدا الذي حمل سريـره ومشى، «وَجَـدَهُ يَسُوعُ فِي الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: ”هَا أَنْتَ قَـدْ بَرِئْتَ، فَلاَ تُخْطِئْ أَيْضاً، لِئَلاَّ يَكُـونَ لَكَ أَشَرُّ“» (يو 5: 14)؛ مِمَّا يَشي بأنَّ ما أصابه كـان سببه خطية (ومعروفٌ أنَّ عديداً مـن الأمراض يُسبِّبه الإدمان بأنواعه والعلاقات الجنسية النجسة).

+ وعرفنا مـن الكتاب أنَّ مَن ينغمسـون في الخطيـة والشهوات، يصيرون أرضـاً مُستباحـة لهجمات الأرواح الشريرة، فيُعانون الأوجاع والآلام، كما تسلبهم عقولهم فيُصيبهم الجنون أو العَمَى.

فـالمجنون الأخـرس شفاه الرب بإخـراج الشيطان منه (مت 9: 32؛ لو 11: 14). وهكذا شفى الرب أيضاً المجنون الأعمى الأخرس (مت 12: 22)؛ والذي أصابـه الصـرع (مت 17: 18،10؛ مر 9: 14-27؛ لو 4: 23-26؛ 9: 38-42)؛ أو الجنون (مر 5: 1-15) مثل ابنة الكنعانية (مت 15: 21-28؛ مر 7: 24-30)؛ ومجنون كورة الجدريين الذي كـان يسكن القبور والجبال هائجاً يقطع السلاسل والقيود، وبعد شفائه مضى إلى المـدن يُبشِّر بمـا صنعه معه الرب يسوع (مت 8: 28-32؛ لو 8: 26-35).

+ وكَشَفَ القديس بولس عن أنَّ بعض أوجاع الجسد هي من حسد إبليس وحربه ضد المؤمنين، فيكتب في رسالته الثانية إلى أهـل كورنثوس مُتحاشياً أن يفتخر بعطايا النعمة الفائضة، خاصةً اختطافـه إلى الفردوس (2كو 12: 7).

+ وفي حديثه عن تأسيس الرب لسرِّ الشكر ليلة آلامه، وحثه المؤمنين على الاستعداد اللائق لقبول السرِّ، بيَّن أنَّ «الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ (من جسد الرب ودمه) بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ. مِنْ أَجْلِ هذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَـاءُ وَمَـرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُـدُونَ» (1كـو 11: 30،29). فالمرض بل والموت، قـد يكونان عقاباً إلهيّاً لمَـن يستهينون بالمقدَّسات ولا يتهيَّأون بالتوبة والانسحاق عند التناول.

+ الله وقضية الألم والمرض:

تؤكِّد لنا كلمة الله أنَّ الله هو مُحب البشر وصانع الخيرات. وأنَّ الإنسان - إذ خُلِقَ حُرّاً - فبعصيانه وصية الله وانصياعه لخداع إبليس وحسده، عرف الألم والوجع والضعف وكل تداعيات الخطية. ولأن الله هـو ضابط الكل، فهـو يسمح للإنسان بتجربة الألم والمرض، ولكنـه لا يُسبِّبهما. ومكتوبٌ: «إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ» (1يو 1: 5)، وأنه «لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً» (يع 1: 13).

وهـو لم يتركنا نهلك، بـل في مـلء الزمان أرسل ابنه مُتجسِّداً «آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ» (في 2: 7) ليُشاركنا آلامنـا ويُخلِّصنا. وخـلال خدمتـه على الأرض، أَظهر تحنُّنه على المتألِّمين والمرضى بكلِّ نوع، ومدَّ لهم يد الشفاء بغير تمييز (مت 9: 36؛ 13: 14؛ 14: 14؛ مر 6: 32). وهو أشفق على الأرملة التي فَقَدَت وحيدها وأزال حزنها، إذ أقامه مـن الموت (لو 7: 11-15). وهـو قَبْل أن يُقيم لعازر من الموت، شارَك أُختيه حزنهما، بل وبكى مع الباكين (يو 11: 35،33). وهـو دعـا كـل المتألِّمين أن يأتوا إليه (مت 11: 28).

وفي النهاية، قـدَّم الرب حياتـه على الصليب (1بط 3: 18) إعلاناً عن حبِّه اللامتناهي للبشر (يو 3: 16)، وأنه «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تي 2: 4).

الله لم يكتفِ، إذاً، أنـه ككلِّي المعرفة يُدرك معنى الألم والضعف، ولكنه جاز فيهما لكي نثق أنه على الدوام معنا يرثي لضعفنا ولا يمكن أن يكون ضدنا (عب 2: 18). فهـو حاضرٌ وسط الضيق، يتدخَّل للإنقاذ (مز 91: 15؛ 118: 5). وهناك نعمته التي تكمل في الضعف (2كو 12: 9) والتي تجعـل «كُـلَّ الأَشْيَاءِ تعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ» (رو 8: 28). وعندنـا وعده «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (مت 28: 20). وهو دعا مؤمنيه إلى مدِّ يـد المعونة للمتألِّمين (كما في مَثَل السامري الصالح: لو 10: 25-37)، وإلى خدمـة المـرضى (مـت 25: 36،40). وفي الكنيسة، فإنَّ مسحة المرضى هي أحد أسرار الكنيسة السبعة، والصلاة مـن أجـل المرضى هي من صميم الليتورجية.

+ الألم والمرض وحياة الإيمان:

الإيمـان بشخص المسيح يُغيِّر نظرتنـا للآلام والأمراض. فالمؤمن لم يَعُد يتألَّم صاغراً مُتحيِّراً، يتجرَّع الكأس وحـده، ولكنه يُشارِك بنصيبه في آلام السيِّد مـن أجلنا (رو 8: 17؛ غل 2: 20؛ 1بط 2: 21). ومـع هِبَـات الصبر والاحتمال، تنكسر حِدَّة الألم (2كو 11: 5).

+ بعض الآلام يسمح بها الله «لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ (فينـا)» (يـو 9: 3)، كما قـال الرب لتلاميذه أمام مشهد الأعمى مـن بطن أُمِّه، وهُم ظنُّوا أنَّ فَقْد بصره كـان بسبب خطيته أو خطية والديـه. فشُكراً للآلام التي تـدفعنا أن نستدعي الرب للتدخُّـل، فنتمتَّع بـأن تظهر أعماله فينا، فنُشارِك في تمجيده (مز 50: 15).

+ وإذا كان الإيمان يحفظ المؤمن مـن الانهيار تحت وطأة الألم أو المرض، فـإنَّ تجربـة الألم أو المرض مـن جانبها هي اختبار للإيمان وصموده. فـإن اجتاز التجربة ينتقل إلى مرتبة أعلى تتصدَّى للأقسى والأشدِّ. فنصرة داود السابقة، عند هجـوم الأسـد والدُّب على قطيع غنمـه، كـانت سنده في التجربـة الأكثر هولاً أمام جليات، وهكذا قال بكلِّ يقـين للملك شاول: «الـرَّبُّ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِـنْ يَدِ الأَسَدِ وَمِنْ يَـدِ الدُّبِّ هُـوَ يُنْقِذُنِي مِنْ يَـدِ هـذَا الْفِلِسْطِينِيِّ» (1صم 17: 37). وهو بالفعل ما كان، إذ وقف أمام جليات «باسم ربِّ الجنود»، وغَلَبَه.

+ الإيمان يُجرِّد من الألم أشواكه السامة، حيث يَهَبُ الروحُ التسليمَ والثباتَ. وهكـذا تُنقِّي التجربة المؤمن كما تُنقِّي النار الذهب. ومثالنا هنا هو أيوب الذي بعدما فَقَدَ ثروته وأولاده قـال: «لأَنَّهُ يَعْرِفُ طَرِيقِي. إِذَا جَرَّبَنِي أَخْرُجُ كَالذَّهَبِ» (أي 23: 10). فالتجارب تسحب الخطايا إلى السطح كما يحدث مع الذهب(1). وبَـدَل أن تُحطِّمنا التجربة، فإنها تُجرِّد الحياة من نقائصها: «فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ، كُفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ» (1بط 4: 1)، وتستثير التوبة فنتحرَّر من الخطايا المتستِّرة بالظلام.

+ الآلام تُعطي ثماراً كثيرة في حياة المؤمن: فرحـاً وسط الضيـق، وصبراً بغير شكـوى أو أحزان (يع 1: 2-4).

+ قـد يسمح الله بالآلام والأمراض للبعض تـأديباً (رؤ 3: 19)، لكي يُعالج كبريـاءهم وليتعلَّموا أن يتضعوا «تحت يد الله القويَّة» (1بط 5: 6)، أو لكي يُديم عليهم اتضاعهم إذا تهدَّدهم التعالي أو الافتخار.

+ أعظم الآلام التي ينبغي أن نقبلها بفرح هي تلك التي من أجل الإيمان بالمسيح (في 1: 29). وتبرز بينها مُعانـاة الاضطهاد بأنواعه وإلى حدِّ الموت، وهي أسطع مُشاركـة للربِّ في آلامـه والتي تؤدِّي في النهاية إلى مجدٍ أبـدي (رو 8: 18،17؛ 2كو 4: 17؛ 1بط 1: 7،6).

+ من الطبيعي ألاَّ يُرحِّب أحدٌ بالآلام والتجارب فهي محنة للجميع. ونحن في الصلاة التي علَّمنا الرب إيَّاها نقول: «ولا تُدخِلنا في تجربةٍ» (مت 6: 13؛ لو 11: 4)، أي لا تسمح - كعارفٍ ضعفنا - أن ندخل في ضيقة أو تجربة، والتي لا يكفل للمؤمن عبورها إلاَّ نعمة الله. مـن هنا فإنَّ أفضل ما في الآلام والأمراض أنها مجـالٌ لاختبار حضور الله بصورةٍ أكثر جـلاءً مِمَّا نختبره في أيـام الدِّعة والراحة. فاحتياجنا المُلحّ وقتها لتدخُّل الله يُضرم الحرارة في صلواتنا ويهبنا بركة الإحساس المُكثَّف برفقة الله (أع 17: 28،27).

+ الله يسمح بالمرض الشديد أو الذي لا شفاء منه، كي يُعِدَّ المؤمن لقبول الموت الذي يختم على آلامه ليكون مع المسيح. كما يُهيِّئ الأهل والأصدقاء لانتهاء حياته على الأرض وتسليم حياتهم هم أيضاً للربِّ (عب 13: 14). ويُطلق البعض على مرض السرطان اسم ”مرض الفردوس“ باعتبار أنه في أكثر حالاته لا شفاء منه، فهو مِن ثمَّ طريق مُباشر للخروج من هذا العالم وسُكنى الفردوس.

+ حتى لو خَلَت حياتنا من الآلام الساحقة أو الأمراض المُزمنـة، فيكفي أنها لابـد أن تُختَتَم بالموت الذي يصفه الكتاب أنه «آخر عدو يُبطَل» (1كو 15: 26). ولعـل الله سمح لحياتنا الحاضرة بـالقصور والنقص والأحـزان والآلام والمرض، وفي النهايـة الموت، لكي نتطلَّع إلى الحياة الكاملة الدائمة في الملكوت التي تمتلئ بالفرح الذي لا يُقارَن بما نختبره هنا، والتي لن تنتهي مرَّةً أخرى بالموت، وإنما تمتدُّ إلى الأبد (رو 21: 4،3).

(+( (

رغم كل شيء، فللآلام دورها الذي لا يُنكَر في بناء الشخصية ونموِّهـا، وتراكُـم الخبرات بالتعامُل مع المصاعب والتجارب والمِحَن، فتزداد النفس قـوَّةً ونُضجاً، وتتحرَّر مـن محبة الذات وحصار الشهوات (لو 12: 24).

+ بـل إنَّ كـلَّ نجاح في الحياة، جسديّاً أو روحيّاً، يستلزم التعـب والجهاد، وربما مُعانـاة الإخفاق المُتكرِّر، إلى أن يفـوز المُجتهد بتحقيق غايته (1كو 9: 25،24).

+ وكل الأعمال العظيمة والتحوُّلات الكبيرة في تاريـخ البشريـة لم تتحقَّـق إلاَّ بـالكفاح والآلام والمثابرة. ونجاح التلميذ مرهونٌ باجتهاده وسهره، وألاَّ يُهـدر وقته هباءً. وثمار الأرض لا تـأتي إلاَّ بـالعمل الشـاق والرعايـة الدائمة (يـع 5: 7). والتوصُّل إلى دواء لعلاج مرضٍ بعينه يمرُّ بمراحل طويلة وتجارب مُضنية إلى أن يتمَّ إنتاجه وتداوُله.

+ وقراءة التاريخ تكشف لنا أنَّ مُعاناة الفقر والحياة الشاقَّة، أنجبت عُظماء وقادة للدول. وآلام يوسف المُمتدَّة منذ أن كان صبياً، أعدَّته ليكون مُنقذاً لشعب مصر مـن المجاعة. فارتفع مـن السجن إلى القصر، ودعـاه فرعـون: ”صفنات فعنيح“، أي ”قُوت الحياة“ أو ”مُخلِّص العالم“ (تك 41: 45). كمـا أنَّ موسى احتاج أربعـين سنة للتـدرُّب والاحتمال الطويـل ليتهيَّأ لقيادة شعبه المُعانـد في الخروج مـن مصر إلى كنعان في رحلة دامت أربعين سنة أخرى.

+ بعد كـل مـا عرضناه، سنظلُّ نقف أحيانـاً حيارَى عاجزيـن، عـن تفسير آلام أطفال أبريـاء يُصابون بأعتى الأمـراض أو يُولدون مُشوَّهـين، تُلازمهم عاهاتهم كل الحياة؛ أو نرى شريراً لا يُعكِّر صفو حياته شيء، وخادماً أميناً لله يُعذِّبه مرضٌ قاسٍ، أو مَن تنتهي حياته في شرخ الشباب بيد سِكِّير أرعن أو بطلقة طائشة؛ أو الملايين الذين يفقدون حياتهم في حروبٍ لا يد لهم فيها أو وهُم يُحاولون النجاة من الهَول فتغرق بهم السفينة.

على أنَّ الحيرة ستنتهي في اليوم الأخير. وقتها تكتمل الصورة. وكما قال أبونا إبراهيم للغَني في المَثَـل الشهير: «اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَـذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُـوَ يَتَعَـزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ» (لـو 16: 25). فالمؤمنون الذين يأتون من الضيقة العظيمة بعد مُعاناة الآلام سيتمجَّدون بأعظم مِمَّا تألَّموا به، والذين صنعوا الشرَّ سيُجازون عن شرِّهم «وليس مُحاباة» (كو 3: 25). وإلى أن يأتي هـذا اليوم فعلينا أن نثـق في محبة الله التي لا يمكـن أن تسقط (1كو 13: 8). وفي حكمته التي لا يُسْبَر غورها (رو 11: 36،33).

دكتور جميل نجيب سليمان

(1) ينصهر خام الذهب (عند درجة 1064 مئوية)، فتطفو على السطح الشوائب، وتنفصل كقشرة عندما يُصبُّ الذهب السائل في القالب ليبرد ويتصلَّب.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis