من تعاليم الآباء


شرح التطويبات
للقديس غريغوريوس النيسي
(335-394م)
- 3 -

«طوبى للحزانى لأنهم يتعزَّوْنَ» (مت 5: 4)(1):

لم نصـل بعد إلى قمة الجبل، ولكـن أذهاننا لا زالت في سَفْحه. ورغم أننا مررنـا على تلَّيْن (المُثنَّى من كلمة "تَلٍّ")، إذ اقتادتنا التطويبات إلى المسكنة المُطوَّبة، وإلى الوداعة التي تفوق عليها. فإنَّ الكلمة (أي "كلمة الله المُتجسِّد") يقتادنا الآن إلى أُمورٍ أسمى. ففي تسلسُل مُنسَّق، يُرينا السمو الثالث. وإليـه يمكـن للمـرء أن يصعـد فقط، كما يقـول الرسـول (بولس): «لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ، وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا» (عب 12: 1)؛ وإذ جئنا بـذلك إلى القمة بدون ثقل وبخِفَّةٍ، فـإنَّ نفوسنا سوف تقترب من الحقِّ بضياءٍ أكثر نقاءً.

فماذا يعني هذا القول: «طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ»؟ فإذا نَظَر الإنسان إلى هـذا القول من وِجْهة نظر العالم، فهـو بالتأكيد سيقول إنَّ هـذه الكلمات سخيفة، ويُجادِل بقوله: "إذا اعتَبَر المرء أنَّ أولئك الذين قضوا حياتهم مُتحمِّلين كـل نوع من المحن مُطوَّبين؛ فيتبع ذلك أنَّ أولئك الذيـن يعيشون بـدون حـزنٍ أو هَمٍّ يكونون بائسين". وحينئـذ فهـو سيُحصي أنـواع النكبات العديدة، وفضلاً عـن ذلك يُثير الضحـك لدى سامعيه بإعطائه وصفاً واضحاً لنكبات الترمُّل وحالة اليُتْم المُحزنة. وهـو سـوف يذكـر الخسائر المالية، وتحطيم السُّفن، ومصير أَسْرى الحرب، والأحكام الظالمة في المحاكم، والنفي ومُصادرة الممتلكات، وفقدان الإنسان لشرفه. وهو سيزيد من النكبات الناتجة عن المرض مثل: العَمَى، وتشويه الجسد، وأي نوعٍ مـن العلل الجسدية. وباختصار، فهـو سيُظهِر تفاصيل كل نوع من المُعاناة سواء في الجسد أو في النفس، تلك التي تُصيب البشر في هذه الحياة. وبذلك فهو سيعتقد أنَّ القول بتطويب الذين يحزنون يبدو سخيفاً.

ونحـن مـع ذلك نهتم قليلاً بأولئك الذيـن يَعتَبِرون أنَّ الأفكـار الإلهيـة حقيرة وذات روح تافهة. وسيُحاولون، بقـدر الإمكان، أن يفحصوا الثروة الكامنة في أعماق هـذا القول. ثم إنه لعله يصبح واضحاً، كـم أنَّ الذهـن المُهتم بالأمـور السماوية السامية، مُختلف جداً عن الذهن الجسدي الذي يتشبث بالأرض.

الحزن الذي بحسب مشيئة الله:

إنَّ المرء يمكنه، في المقام الأول، أن يَعتَبِر الحـزن الذي يتبع تعدِّيات الخطاة مُطوَّباً، وذلك حسب تعليم القديس بولس عن الحزن، فهو يقول إنـه يوجـد أكثر مـن نوعٍ واحد للحزن: «لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ، وَأَمَّا حُزْنُ الْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتاً» (2كو 7: 10). لأنه بالتأكيد، فإنَّ هذه المُعاناة لا يمكن استبعادها مـن الحزن الذي يُدعَى مُطوَّباً. فـإذا أصبح جزءٌ من الجسد مشلولاً بسبب أيِّ حادث، فإنَّ فُقدان إحساس العضو الجسدي، يكون علامةً على أنـه أصبح ميتاً. ولكن إذا استعادت المهارة الطبيَّة للجسد الإحساس بالحياة، يفرح كـل مـن المريض والأطباء، عندما يشعر العضو المريض بالألم، لأن شعور العضو بما يُسبِّب الألم إنما هو علامة على أنـه قـد تعافَى من أزمته. وهكذا، فإنه كما يقول الرسول، إذا انغمس الناس في حياة الخطية لأنهم لا يعودون يشعرون بـالألم، فإنهم يصبحون حقّاً مشلولين وأمواتاً عن حياة الفضيلة لأنه لا يكون لديهم شعور بما يفعلون.

ولكن ثمة كلمة شفاء قد تمسك بهم مثل دواء مُرٍّ وموجِع. إنني أتكلَّم عـن التهديدات العنيفة للدينونة الآتيـة، والتي تخترق أعماق القلب بالخوف مـن الأمور التي لابد من توقُّعها. إنها تُخبرهم عن رُعب جهنم والنار التي لا تُطفأ، والدود الذي لا يمـوت، وصرير الأسنان والبكاء الدائم، والظلمة الخارجية (انظر مت 8: 12؛ مز 9: 44،43). كـل تلك الأمـور يمكن محوها مثل عقاقير مُوجعة. وهكذا، فـإنَّ الإنسان الذي كـان قد خُدِّر بأهواء ومسرَّات الحواس، يصبح حارّاً مرةً أخرى ويتحقَّق مـن أيِّ نوع من الحياة كان يعيشها، ويصبح مُطوَّباً بسبب الألم الذي يشعر به في نفسه.

بهـذه الطريقـة عَنَّفَت كلمات بولـس الرسول الإنسانَ الذي دنَّس فراش زيجة أبيه، طالما أنه ظلَّ على غير دراية بخطيته. ولكـن عندما حـلَّ دواء الإصلاح بالبيت، بدأ يُعزِّيه وكأنه قـد أصبح بالفعل مُطوَّباً بحزنه، وذلك «لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ مِثْلُ هذَا مِنَ الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ» (2كو 2: 7 مع مُقارنة 1كـو 5: 1-5). فلنتأمل نحن أيضاً في ذلك عندما نُفكِّر في تطويب الحزانى. فـإنَّ علاج الخطية إنما هـو في حـزن التوبـة. ولكـن يبـدو لي أنَّ الكلمة (أي "كلمة الله المُتجسِّد") يُشير إلى مـا هـو أعمق من ذلك، فهو يقصد أن يجعلنا نفهم شيئاً آخـر مـن تأثير الحزن الشديد. لأنه إن كان يقصد الإشارة إلى التوبة عن الخطية فقط، لكان من الأكثر توافُقاً أن يَعتَبِر الذين حزنوا مُطوَّبين أكثر من أولئك الذين هم في حالة حزنٍ دائم. فبالمقارنة بالمرض نَعتَبِر الذين تعافوا مُطوَّبين، وليس أولئك الذين هم في حالة شفاء دائم. فمِـن الواضـح أنَّ الشفاء المستمر يُشير في نفس الوقت إلى وجود دائم للمرض.

وأعتقد أنه يجب علينا ألاَّ نتمسَّك بهذا المعنى، وكأن الكلمة قد خصَّص هذا التطويب لأولئك فقط الذين يحزنون بسبب الخطية. لأننا نجد كثيرين قد عاشوا حياةً بلا لوم، والتي شهد لها هذا الصوت الإلهي بأنها تستحق المديح. إن أيَّ خطيةٍ، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، يُسجِّلها التاريخ في حياة القدِّيسين! فهل الكلمة مزمع أن يستثنيهم من هذا التطويب، لأنهـم لم يكونوا منذ بدايـة حياتهم مرضى ولا هُم في حاجةٍ إلى الحزن الذي يتأتَّى من التوبة؟ أَلا يكون من غير المعقول الافتراض أنهـم يُستَثنون مـن التطويب الإلهي، لأنهـم لم يُخطئوا ولا عالجوا الخطية بالحـزن؟ وأَلا يعني ذلك أنـه مـن الأفضل أن يُخطئ الإنسان مـن أن يعيش بدون خطية، إن كانت نعمة المُعزِّي لا تُمنَح إلاَّ لأولئك الذين يتوبون فقط؟ لأنه يقول: «طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ». فلنتبع، إذن، بقدر الإمكان، ذاك الذي كما يقول حبقوق النبي: «يُمَشِّينِي (أو يُوقفني) عَلَى مُرْتَفَعَاتِي» (حب 3: 19)، ونختبر مرةً أخرى المعنى الكامن في هذا القول حتى نعرف لأيِّ نوع مـن الحـزن يُعطَى الوعد بتعزية الروح القدس.

مِن ثمَّ فدَعنا نفحص الحياة البشرية لنعرف أولاً مـا هـو هـذا الحزن ولماذا يحدث! فمِن الواضح للجميع أنَّ الحزن إنما هـو مَيْل حزين للنفس ينتج عن الحرمان من أمورٍ مُرضية، حزن لا يجد مكاناً لدى الناس الذيـن يقضون حياتهم في سعادةٍ. فمثلاً، إنسان حياته كلها مُزدهرة، فهـو سعيد في زواجه ومسرور بأبنائـه، ويمكنه أن يعتمد على معونـة أقربائـه؛ وهـو مُحتَرَم في المجتمع ومُكرَّم لـدى السلطات؛ ومُقاومـوه يخافونـه، والذيـن يرأسهم يُقدِّرونه؛ وأصدقاؤه يُرحِّبون بـه دائماً، وهـو ثري ومُتمتِّع بالحياة وراضٍ وبلا هَمٍّ، ولديـه عافية في جسمه. فهو لديه كل شيء يستحقُّ الاهتمام. ولكن لنفرض أنه حدث تغيير في ظروفه المُيسَّرة، فربما سبَّبت له إحدى المِحَن الانفصال عن أعزَّائه، أو فَقَدَ مُمتلكاته أو المُعاناة في صحته. حينئذٍ، فـإنَّ تجرُّده من أيِّ شيء مُرْضٍ، يُسبِّب ما نُسمِّيه حزناً. وبذلك يُعتَبَر تعريفنا للحزن صحيحاً، ويكون الحـزن هـو إحساس مؤلم سببه هو الحرمان مِمَّا هو مُرْضٍ.

إذن، فإذا فهمنا الحزن البشري المعروف أنه يكون مُرشداً لِمَا هـو غير معروف حتى يصبح واضحاً؛ فماذا يكـون هـذا الحزن الذي يُعتَبَر مُطوَّباً، والذي تتبعه تعزيـة؟ فبالرغم مـن أنَّ خسارة الخيرات التي امتلكها الإنسان تُسبِّب حزناً هنا في هـذا العالم، ولكن لا أحـد سيحزن على خسارة أشياء غير معروفة لديه. لذلك يجب أن نَعْلَم أولاً ما هـو الصلاح الحقيقي، وبذلك نتفكَّر في الطبيعة البشرية، لأنه بذلك فقط يمكننا أن نبلغ إلى الحزن الذي يُعتَبَر مُطوَّباً.

مثال الوجود في الظلام، والوجود في النور:

دَعنا نأخـذ مَثَلاً: شخصان أحـدهما وُلِـدَ في مكانٍ مُظلم، بينما الآخـر - بعد أن تمتَّع بالنور - أُغلِقَ عليه بالقوَّة في مكانٍ مُظلم. فمِـن المؤكَّد ألاَّ يكون لكليهما نفس الشعور. لأن ذاك الذي حُرِمَ من النور يشعر بأنَّ خسارة النور أمراً مُحزناً جداً؛ في حين أنَّ ذاك الذي لم يعرف نعمة النور إطلاقاً يظلُّ بدون حزن، فهو لا يعتقد أنـه فَقَدَ أي شيء لأنه تربَّى في الظلام. وهكـذا فـإنَّ الرغبة في التمتُّع بالنور تستميل الأول، لأن يستعمل كل وسيلة مُمكنة لكي يـرى مرةً أخرى ما قد حُرِمَ منه بالعنف؛ في حين أن الآخـر يشيخ في الظلام، لأنـه يظـنُّ أن ما لديه جيِّد، لأنه لا يعرف ما هو أفضل.

وهذا هو نفس الأمر في موضوع تأمُّلنا. فإذا أمكـن لشخصٍ أن يُـدرك الصلاح الحقيقي ثم يتحقَّق مـن فقـر الطبيعة البشرية، فهو بالتأكيد سيعتقد أنَّ الروح في ضيـق، لأنـه سيَعتَبِر أنَّ الحياة الحاضرة تنقضي في حزن، لأنها استُبعِدَت مـن هـذا الصلاح الحقيقي. ولذلك فإنني أقول إنَّ الكلمة لا يَعتَبِر الحزن مُطوَّباً في ذاته؛ بـل بالحري التحقُّق من الصلاح الذي يؤدِّي إلى هذه الحالة من الحزن، والذي هـو بسبب أن الباعث إلى الرغبة غائبٌ مـن حياتنا. بعد ذلك علينا أن نسأل: مـا هـو هـذا النور الذي لا يُشرق في طبيعتنا البشرية؟ هل يكون هو أننا نشتهي شيئاً باطلاً ومُحيِّراً؟ فكيف أُسمِّي الشيء غير المرئي؟ وكيف أَصِف الشيء غير المادي؟ وكيف أُظهِـر ما لا يمكن رؤيته أو أدرك ما ليس له حجم ولا كميَّة ولا نوعية ولا شكل؟

عندما نَعتَبِر الحزن مُطوَّباً، فيبدو المعنى المفهوم ضمناً أن يكون هو: إن النفس يجب أن تتحوَّل إلى الصلاح الحقيقي، ولا تغمر ذاتها في خداعات الحياة الحاضرة. لأنه لا يمكن لأحدٍ قد رأى تلك الأمور بوضوح أن يعيش بدون دموع أو يُحقِّق في الاعتقاد بأن أي واحد يستغرق بعُمق في مسرَّات هذه الحياة، يكـون بائساً. إنَّ أولئك الذيـن لا يعلمون بالخيرات التي حُرِمَت منها طبيعتنا البشريـة، يقضون حياتهم الحاضرة في السعى إلى المسـرَّة. ويتبع ذلك أنَّ أولئك الذين يتمتَّعون بالأشياء الحاضرة لا يتطلَّعون إلى الأفضل منها. لـذلك يَعتَبِر الكلمة أنَّ الحـزن مُطوَّبٌ. إنه لا يحكم بأنه مُطوَّبٌ في ذاته، بل بسبب ما ينتج عنه، لأنه يقول: «طُوبَى لِلْحَزَانَى»، ولكنه لا يُنهي الجملة بذلك؛ بل يُضيف: «لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ».

وأعتقد أنَّ الكلمة هو الذي أقنع موسى النبي بتلك الأمور فيما يخص الطقس السرِّي للفصح، لأنه فَرَضَ فطيراً في أيام العيد؛ ولكن لكي يُتَبِّلوا الطعام، فَرَضَ أعشاباً مُرَّة (انظر خـر 12: 8). فعلينا أن نتعلَّم أنـه يمكننا أن نُشارِك في العيـد السرِّي، ليس بأيَّة طريقةٍ، إلاَّ بمزج أعشاب هذه الحياة الأرضية المُرَّة بفطير الحياة البسيط. وقـد رأى داود النبي أنـه بلغ إلى أعلى قمة من الحظ الصالح أي المُلْك؛ ومع ذلك، فقد أضاف بوفرةٍ أعشاباً مُرَّة إلى حياته، إذ كان يَرثي لغُربته المُستمرة في الجسد قائلاً: «ويلٌ لي فإنَّ غُربتي قد طالت» (مز 120: 5 سبعينية).

ولكن إذا أحب أحـدٌ أن يتحقَّق بوضوح أكثر من قوَّة هـذا الحزن المُطوَّب، فيجب أن يفحصه لنفسه في قصة الغَني ولعازر. فقـد قال إبراهيم للغَني: «اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَـذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُـوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ» (لو 16: 25). لقد رسم الله لنا أنه يجب أن نتمتَّع بالخيرات غير المُمتزجة بالشرِّ، ومَنَعَ اقتران اختبار الشـر بمـا هـو صالح. ولكننـا بشراهتنا ملأنا أنفسنا، باختيارنا، بما هـو عكس ذلك. أقصد أننا تذوَّقنا العصيان لكلمة الله. ولذلك فإنَّ طبيعتنا البشرية يجب دائماً أن تعيش في كلتا الحالتين، فتُشارِك في الحزن كما في الفرح.

الحزن على خسارة السماويات لا الأرضيات:

فعلينا أن نعتقد أنـه مـن المُطوَّب أن نستبقي نصيبنا من الفرح مـن أجل خيرات الحياة الأبدية الحقيقية، وأن نُتمِّم واجب الحزن في هـذه الحياة القصيرة والعابرة. ويجب ألاَّ نَعتَبِر الحرمان مـن أشياء هذه الحياة المُثيرة خسارة؛ بل بالحري أن نفقد الأشياء المُفضَّلة مـن أجـل التمتُّع بالأخرى... إنَّ التعزيـة تتأتَّى مـن مُشاركة المُعزِّي. لأن عطية التعزية إنما هي العمل الخاص بالروح القدس الذي لعلَّنا نكون مُستحقِّين له بنعمة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد إلى الأبد، آمين. (يتبع)

(1) مُترجم من كتاب: Ancient Christian Writers, Vol. 18, p. 85.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis