|
|
|
تفاصيل الخلاف بين العلمانيين ورجال
الكهنوت حول إنشاء المجلس الملِّي:
+ فبعد نياحة البابا ديمتريوس الثاني، تولَّى إدارة شئون الكنيسة نيافـة الأنبا مرقس مطران مدينة الإسكندرية. وربما عن جهل المسئولين في تلك الأيام أن يُقام مطران على مدينة الإسكنرية؛ ذلـك لأن بابـا الإسكندريـة هـو "أسقف مدينة الإسكندرية العظمى"، وبـالتالي لا يصحُّ إعطاء هذا اللقب لأي أسقف آخر. وهذا يدلُّ على تدهُّور التعليم الكنسي في تلك الحقبة.
فلما كثرت الأعمال على الأنبا مرقس، استعان ببعض المُتقدِّمين مـن "العلمانيين" (أي مـن غير ذوي درجـة الكهنـوت) لإنجـاز شئون الكنيسة اليومية. ثم طلب مـن مجمع المطارنـة والأساقفة تشكيـل مجلس مـن العلمانـيين لإدارة الأعمال الإداريـة والماليـة التي تختصُّ بشئون الكنيسـة (أي غير الخدمـات الكنسية التي يقوم بها الأساقفة والكهنة). ثم طلب بعدئذ مـن الحكومة اعتماد هذا المجلس، فـاستجابت الحكومة لطلبه، وكـان ذلك في (15 ذي الحجة سنة 1290هـ).
+ ولمَّا ارتقى غبطـة البابـا كيرلس الخامس كرسي البطريركية، وَضَعَ مع أعضاء هذا المجلس - حسب ترتيبهم - لائحة تقضي بوجـوب نظـر المجلس في مصالـح الكنائس مـن الناحية المالية، وكـذلك إدارة المدارس والأوقاف وخدمـة الفقراء المالية، وشئون الأحـوال الكنسية (أي مـا يخصُّ حالات الزواج مـن جهة المشاكل بين الزوجين)، واختيار القسوس، وغير ذلك مِمَّا لا يدخل في خدمة الكهنوت. وقـد التمس البابا البطريرك من الحكومة التصديق على هذه اللائحة، فصدَّقت الحكومة عليها في 14 مايو سنة 1883م. ولكـن، للأسف، بَقِيَت هذه اللائحة "حِبْراً على ورق"، لأن أعضاء المجلس لم يهتموا بشيءٍ منها، ولم يُوجِّهوا أنظارهم للاهتمام بما يستدعي جهادهم وتعبهم. فبدأ هذا المجلس ينحلُّ شيئاً فشيئاً حتى توقَّف تماماً عن العمل.
+ وبعد مـدَّةٍ، تحـرَّك بعض أبنـاء الكنيسة وطلبـوا مـن غبطـة الأب البطريـرك تشكيل المجلس من جديد. لكن البابا أَبَى القيام بذلك، إلاَّ بعد تعديل بنود اللائحة، وحَذْف مـا فيها ما يمسُّ بسلطته الكنسية. ولكن أعضاء المجلس المُنحل لم يقبلوا هـذا، بـل رفعوا أمرهم إلى "الخديـوي" (وهـو لقب "الحاكم")، وكان وقتئذ "توفيق باشا"، وعزمـوا على عَقْـد اجتمـاع لإعـادة انتخاب المجلس. فقام البابـا كيرلـس الخامس بمُخاطبة "مجلس النُّظَّار" (وهـو مـا يُساوي الآن "مجلس الوزراء")، وطلب منهـم مَنْع ذلـك، فمُنِعَ فعلاً. ومِـن ثمَّ، استدعـى البابـا كيرلس المطارنـة والأساقفة من كل الجهات، وعَقَد مجمعاً إكليريكياً يقضي بعدم تداخُل أحد مـن الشعب القبطي في تدبير أمور الكنيسة وكل ما يتعلَّق بهم.
+ فحَمَل البابـا كيرلس والأنبا يؤانس مطران الإسكندريـة قرار المجمع الإكليركي، إلى الخديوي توفيق؛ فوَعَـدَ بالمساعـدة. وقضى البابا كيرلس بالإسكندرية مدَّة شهرين، ظلَّ فيها أعضاء المجلس يسعَوْنَ ليُنفِّذوا مآربهم؛ غير أنهم عندما قابلوا توفيق باشا، أدركـوا استحالة عمل أي شيء بدون رضا البابا كيرلس. فلما رجـع البابا مـن الإسكندريـة، استقبله الشعب القبطي استقبالاً حافلاً.
+ وكـان المرحوم "بطرس باشا غالي" في أوروبـا آنذاك أثناء هذه الأحداث. ولما عاد بعد ذلك إلى أرض مصر، أَبلَغَه توفيق باشا بتفاصيل هذه المشكلة، وكلَّفه بحَسْم هذه المشاكل.
+ ووبَّـخ توفيق باشـا أبناء الكنيسة القبطية وأرغمهم على طلب الصَّفْح من غبطة البطريرك، وهكذا انتهت المشكلة. وبعد ذلك، اهتمَّ البابا بتعليم الرهبان، ونَشْر المعارف، وتشييد المدارس في طول البلاد وعرضها؛ إلى أن أُصيب بمرضٍ، فقام لتوِّه وانطلق إلى دير "العريان" ومكث به مدَّة من الزمن حتى تعافَى من مرضه.
+ وعقب ذلـك، تـأسَّست "جمعية التوفيـق القبطية"، وأَصـدرت نشرة تطلب فيها ضرورة الإنفاق مـن رَيْع الأوقاف (أي الدَّخْل المادي من إنتاج العمل في الأوقـاف) على ترقية المدارس، وتسهيل وسائط التربيـة العاليـة لأبناء الأُمَّـة. فتعرَّض البعض لهذه النشرة وبَدَأ يُفنِّدها ويكشف أخطاءهـا. وأعْقَبَت الجمعية نشـرتها بأخـرى، طلبت فيها تعيين مُرتَّب للإكليروس القبطي أُسوة بإكليروس باقي الطوائف. فأَظْهَر الجميع موافقتهم لهذا الرأي، لتأكُّدهم بأنـه هـو سرُّ نجاح وتقدُّم إكليروسنا. ثم صدرت نشـرة أخـرى، توصي بضـرورة إعادة تشكيل المجلس الملِّي. فـردَّت عليها الجمعية الأرثوذكسية، واحتدم الجـدال بين الفريقين مدَّةً ما.
اقتراح إنشاء مجلس ملِّي: وفي خـلال تلك المناظرات، استدعى "بطرس باشـا غالي" نيافة الأنبا يؤانس مطران الإسكندريـة إلى القاهـرة، وكلَّفه أن يُبلِّغ غبطة البطريرك بأنَّ الأُمَّة ترغب في إنشاء مجلس ملِّي. فردَّ البابا برضاه عـن تشكيل مجلس إذا عُدِّلَت اللائحـة القديمـة. فأَبَى بطرس باشـا تغيير اللائحة، وأصرَّ البابـا على طلبه. ولمَّا كانت جمعية التوفيق قد تحدَّت غبطة البطريرك بكلامٍ لم تُوقِّر فيه مركزه الديني، كَتَبَ للديوان الخديوي يطلب مَنْعها، فلم يردَّ عليه.
+ وكـان بطرس باشا عازماً على السَّفَر إلى أوروبا، وتقابَل مع الخديوي ليأخذ منه إذناً بالسَّفَر؛ وذَكَـرَ أمامـه النزاع الطائفي الحاصـل، وأنـه لا يمكن أن يهدأ هـذا النزاع ما لم يُشكَّل المجلس. فصَدَر الأَمـر لبطرس باشـا بتأخير سَفَره، لكي يسعى في تشكيل المجلس.
+ وأُبلِغَ البابا كيرلس بهذا القرار بينما هـو مُقيمٌ بدير "العَدَويَّة" الكائن بجنوب القاهرة. كما استُدعِيَ قائمقام رئيس مجلس النُّظَّار، فتوجَّه إلى البابا كيرلس وفي صُحبته "القمص تادرس مينا" أحـد كهنة البطريركية؛ فوجدا معه بطرس باشا غالي، وطالـت المناقشة بين الطرفين في أَمْـر المجلس. وكـان غبطة البطريرك يُبدي إصراراً زائداً على تعديل لائحة المجلس. فـأبلغه الوزير المختص بهـذا الأمر بالنُّطق العالي الذي صَدَرَ بضرورة تشكيل المجلس، ولابد من تنفيذه بالقوَّة.
+ وكـان مـن نتيجة ذلك، أن كَتَبَ البابـا كيرلس للديوان الخديـوي طالباً تعديـل الأَمر. وكـذلك كَتَبَ لمختار باشـا المنـدوب العالي، وغيرهما مـن أُوْلي الشأن، وكـان ذلك في 28 يونية سنة 1892م. وفي مساء ذلك اليوم استُدعِيَ نحو خمسمائة رجل مـن رجـال الطائفة بدعوة مُوَقَّع عليها من بطرس باشا غالي، بصفته نائب مجلس الأُمَّة، لإجراء انتخاب أعضاء المجلس.
+ وفي الغـد، قَصَـد بطرس باشـا الـدار البطريركية، وكـان يتبعه جنود البوليس (الشرطة)، ومُنِعَ دخـول البابـا إلى الدار البطريـركية، كما صُرِفَ تلاميذ المدرسة وأساتـذتها، وطُـرِدَ الخَدَم، وضُبِطَت (أي أُغلِقَت) أبواب البطريركية. فـأرسل غبطة البابا يستنجد بالمعيَّة السَّنيَّة، فلم تَـرُدَّ عليه؛ بينما الناس حيَارَى لا يعرفون ما يحدث. وبعد ظهر هـذا اليوم، جاءت جنودٌ أخـرى ومعهم محافظ القاهرة، وقد طلب مـن غبطة البطريـرك أن يَقْبَل الرئاسة على انتخابـات المجلس الملِّي، ولكنه أَبَى أيضاً. فقـام محافظ القاهـرة إلى المجلس المُعـدِّ للانتخاب بالمدرسـة الكبرى، وافتتح الحَفْل باسـم الحضرة الفخيمة الخديوية. وبُدئ بالانتخاب، فأَسْفَر عن النتيجة الآتية:
- بطرس باشـا غالي، حنا بـك نصر الله، بطرس بـك يوسف، مقار عبد الشهيد، قليني بك فهمي، خليل أفندي إبـراهيم، يوسف بـك وهبة، يوسف أفندي سليمان، حنا بك باخـوم، نخلة بك الباراتي، حبشي أفندي مفتاح، يعقوب أفندي نخلة روفيلة؛ وهؤلاء بصفة أعضاء.
- كمـا انتُخِبَ: باسيلي بـك تـادرس، عبد المسيح بك حبشي، إبراهيم أفندي منصور، وهبة أفندي يوسف عبده، رفلة أفندي جرجس، مرقس أفندي سميكة، إبراهيم بك روفائيل الطوخي، فرج أفنـدي إبراهيم، بطـرس أفندي أبادير، يعقوب أفندي نخلة يوسف، عوض بك سعد الله؛ وهؤلاء بصفة نوَّاب أعضاء.
+ وبعـد الانتخاب، أبلغ غبطة البطريـرك الديوان الخديـوي ومجلس الأُمَّة - عـن طريق الجرائد - أنَّ مـا تمَّ كـان بغير إذنـه، وبدون رضاه، وأنـه لا يُوافق مُطلقاً عليه. وكـان عيد الأضحى قـد اقترب، فتوجَّه غبطة البطريـرك، مـع بعض الآبـاء المطارنـة والقسوس، لمُقابلة الخديـوي؛ فـأَبَى أن يُقابلهم. وتكدَّرت الخواطر لـذلك السبب. وأراد بطرس باشـا أن يَستجلب رضاء الخديـوي على الآبـاء الروحيين، فكلَّف البابا كيرلس أن يُحرِّر للمعيَّة السَّنيَّة خطاباً، يُعلِن فيـه قبوله لانتخـاب المجلس، ويلتمس رضـا الخديـوي، ويرجـو التشـرُّف بمقابلته. فرفض غبطته أن يُحرِّر خطابـاً هـذه صورته. وكَتَبَ خطابا آخر يطلب فيه مُقابلة الخديـوي، فلم تردَّ عليه المعيَّة السَّنيَّة، ولكنها كَتَبَت لبطرس باشـا تطلب منه أن يُبلِّغ البطريرك بأنَّ المعيَّة لا تسمح له فيما بعد بمُخاطبتها، وإنْ كـان له على أحـدٍ شيءٌ، فلْيَرْفع أَمْره إلى جهات الاختصاص.
+ هذا وفضلاً عن احتجاجات غبطة البطريرك بذلك، فقد كَتَبَ لمجلس النُّظَّار بأنه باقٍ على رأيه لم يتغيَّر عنه. وفي نفس الوقـت، كـان بعض أنصار "جمعية التوفيق" يجولـون في البلاد لأَخْذ توقيعات أبناء الأقباط على قـرار انتخابهـم. فكَتَب غبطـة البطريرك يُحذِّر الأقباط من الانقياد لهم.
+ وهكذا، وفي هذه الظروف، انعقد المجلس، ورأى أنه من المستحيل اكتساب رضا البطريرك ومُوافقته؛ فأصدر قـراراً مؤدَّاه، رَفْع اسم البابا كيرلس الخامس مـن رئاسة المجلس ومن إدارة كل ما يتعلَّق بشئون الأقباط، وأنَّ المجلس يَنتخب مَـن يلزم ليكـون وكيلاً للبطريـركية ورئيساً للمجلس. وعُـرِضَ القـرار على مجلس النُّظَّار، فوافق عليه، وصَدَر به قرار في 28 يونية سنة 1892م. ولمَّا اطَّلع غبطة البطريرك على هـذا القـرار، كَتَبَ إلى مجلس النُّظَّار يحتجُّ على رَفْع يده من إدارة شئونٍ هو وحده المُدبِّر لها.
+ وكان مقار بك عبد الشهيد، في أثناء هـذه المدَّة، يسعى لاستمالة أحـد الآباء المطارنـة أو الأساقفـة لقبـول رئاسـة المجلس وإدارة شئون البطريـركية. فكلَّـم في ذلـك أسقفَي الفيـوم والخرطوم، فوبَّخاه بشدَّة.
+ ولكـن أُعلِنَ بالجرائد أنَّ اثنين مـن أساقفة الأقباط قَبِلا رئاسـة المجلس وتدبير شئون الكنيسة. فأعلن غبطة البطريرك حَرْم مَن يسعى إلى ذلك. إلاَّ أنَّ مقار بك تمكَّن من أن يستميل الأنبا باسيليوس أسقف صنبو، وأتى بـه إلى القاهرة مُتنكِّراً. ولمَّا أَظْهَر خوفـه مـن حَـرْم البطريـرك له، أقنعه الإيغومانس فيلوثاؤس (الذي انضمَّ إلى هذه الحركة آنئذ) بأنه في إمكانه إذا صَدَر الحَرْم أن يُفَنِّده من الكتاب المقدَّس ومن قوانين الكنيسة. ووصلت هذه الأخبار إلى مسامع غبطة البطريرك، فأنـذر أسقف صنبو. فأرسل الأسقف إليه يُعلِـن خضوعه التام، وصار يُكذِّب كل ما أُشيع عنه.
+ ولمَّا ضاق الأَمر بغبطة البطريرك، ورأى أبواب الحكومة المصرية مُغلقةً أمامـه، استعان ببعض قناصـل الدول. فخاطب قنصل انجلترا، فأَبَى التوسُّط بينه وبين الخديوي. كما قابل قنصل روسيا وسَرَدَ عليه كل ما حصل، فوَعَدَ بالتوسُّط بينه وبين بطرس باشا. فأَظْهَر بطرس باشا مَيْلَه للصُّلْح، وفعلاً توجَّه للدار البطريركية وتقابَل مع غبطـة البطريـرك، واتَّفقا على نسيان ما مضى وعلى تعديـل لائحـة المجلس. وبحسـب هـذا التعديل، يُحفَظ للأب البطريـرك الحق في إدارة أوقاف الأديرة وديوان البطريركية، وكذلك رئاسة المجلس الملِّي، وغير ذلك. (يتبع)