|
|
|
+ في الجـزء الأول من هـذا المقال (عدد أكتوبر 2019، ص 45)، تكلَّمنا عـن معنى الطقوس الكنسية وأصولها الكتابية، وعن دورها الهام في العبادة. وبَدَأنا بمبنى الكنيسة وأنواره والبخور المتصاعد أثناء الخدمـة، وحامل الأيقونـات الذي يفصل بـين خوارس الكنيسة والهيكل، ويتوسَّطه المذبح (المائدة) الذي تتمُّ عليه خدمة القدَّاس.
ثانياً: في خدمة القداس الإلهي
القـدَّاس هـو الصلوات التي رتَّبتها الكنيسة لتتميم سرِّ الشكر (الإفخارستيا) كما وصفه الرب ليلة آلامه، وبـه نُبشِّر بمـوت الرب ذبيحاً على الصليب وقيامته وصعوده إلى السماء. وبالتناول من جسد الرب ودمه، يثبت فينا ونثبت فيه، وننال غفران الخطايا، ونواصل حياتنا الأبديـة ونحـن على الأرض (يـو 6: 54-56). ومـن خلال القـراءات والصلوات المُصاحبة، وكلها مُلحَّنة، نُسبِّح الله، ونمتلئ بـالروح، ونحفظ كلمـة الله، ونتعلَّم ونفهم العقيدة. ويسبق القدَّاس صلاة عشية في الليلة السابقة وصلاة باكر قبل بدء القدَّاس.
وتتضمن قراءات كـل يوم مزموراً وإنجيلاً لكـلٍّ مـن عشية وباكر والقدَّاس؛ وفصلاً مـن رسـائل مُعلِّمنا القديـس بولس (البولس)، ومن إحـدى الرسائل الجامعة (الكاثوليكـون - وهي رسائل القدِّيسين يعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا)، وفصلاً من سِفْر أعمال الرسل (الإبركسيس)(1)، يليه قراءة من كتاب السنكسار الذي يُعتَبَر امتداداً لخدمة آبائنا الرسل، وهـو يعرض تاريخ الكنيسة وآبائها وشهدائها وقدِّيسيها، مُرتَّبة على كـلِّ يوم من أيام السنة القبطية.
وإضافـة إلى المزامـير، التي تُستَخـدَم في صلوات السواعي السبع (الأجبيـة)، فإنـه تُقرأ فصول أيضاً مـن العهد القديم في الصوم الكبير وأسبوع الآلام. ومـن العهد الجديد لا يُقرأ سِفْر الرؤيا (أبوكاليبسيس) إلاَّ مرَّةً واحـدة في السنة، وذلك في ليلة سبت النور.
ويبـدأ القدَّاس بتقدمـة الحَمَل، حيث يُصلِّي الكاهن على الخبز والخمر، لاختيار الحَمَل للذبح. ويلي ذلك قراءات اليوم والعظة التي تختم القسم التعليمي، وبها ينتهي قدَّاس الموعـوظين، وهـم الأعضاء الجُدُد الذين كانوا يُعَدُّون لدخول الإيمان في بدايـات الكنيسة. ويبدأ الجـزء الثالث مـن القدَّاس، وهـو قدَّاس المؤمنين، بالقُبلة المقدَّسة، وتتصاعـد الصلوات حتى تصـل إلى صلوات تقديس الخبز والخمـر وتتميم سـرِّ الشكر، وفي النهاية يجري تناول المؤمنين.
ولكـن القدَّاس، كخدمـة شاملة، يضمُّ أيضاً صلوات وطلبات مـن أجل سلام الكنيسة وآبائها واجتماعاتها، ومـن أجـل خلاص العالم، والجو المُحيط بنا بهوائه ورياحه، ومياه الأنهار، ومـن أجـل الـزروع والثمار والتقدمات، ومـن أجل المُسافرين والمرضى والراقديـن، بل أيضاً من أجل الدولة وحدودها وموانيها ورئيسها وجيشها.
ونُلاحظ أنَّ صـلاة القـدَّاس، هي شـركة وتجاوُب بين الكاهـن خـادم الأقداس وشمامسة الهيكل والشعب (الذي يقوده في مردَّاتـه خورس المُرتِّلين). فـالكاهن يُصلِّي إلى الله باسم الشعب وبصيغة الجمع، والشماس يطلب مـن الشعب. والشعب يستجيب للكاهن والشماس، أو ينحني أو يسجد مُرتِّلاً. وعندمـا يُخاطب الكاهـن الشعب، قائـلاً: "السلام لجميعكم"، يـردُّ عليـه الشعب: "ولروحك أيضاً". فكل من الكاهن والشعب يتبادَل الصلاة من أجل الآخر.
فالشعب هو جزءٌ أساسي من "خدَّام هذا اليوم"، مُشارِك في الصلاة والتسبيح، كما يأتي في "تحليل الخدَّام" الذي يقوله الكاهن، في ختام دورة الحَمَل، والشعب ساجـد. ويبدأه بهـذه الكلمات: "عبيـدك، يـا رب، خـدَّام هـذا اليوم، القمامصة والقسوس والشمامسـة والإكليروس وكـل الشعب وضعفي، فليكونوا مُحاللين من فم الثالوث الأقدس..."، فينال المُستعدُّون التائبـون حِلاًّ مـن خطايـاهم ليكونوا مؤهَّلين للاقتراب من المائدة السمائية. وهناك أيضاً الكثير من التفاصيل الأخرى عن صلوات وطقوس خدمـة القدَّاس سيأتي ذِكْرهـا في مواضعها في الأجزاء التالية من هذا المقال.
2. لُغة القدَّاس:
كانت اللغة السائدة بين اليهود أيام تجسُّد الرب هي الآرامية، وهي ما انتهى إليه تطوُّر اللغة العبرية القديمة في ذلك الوقت. وهكذا كان يتكلَّم الـرب، وبها صلَّى سـر الشكر. على أنَّ أسفار العهد الجديد كُتِبَت باللغة اليونانية(2) وكانت هي اللغة السائدة في العالم وقتها، والتي تُرجم إليها العهد القديم (وهي الترجمة المعروفة بالسبعينية Septuagint في القرن الثالث قبل الميلاد).
مـن هنا كانت اليونـانية هي لُغة القدَّاس في كنيستنا في بدايتها. ثم بدأت ترجمة بعض أجزائها بالقبطية، لغة الشعب آنذاك (والتي كـان لها أكثر من لهجة). ثم صـارت اللغـة العربية هي لغة الدواوين الحكومية أيام الخليفة الأموي عبد الملك ابـن مروان (646-705م) ومَن بعده، لكنها لم تصبح لغة الأقباط إلاَّ بعد القرن الثاني عشر حين تُرجم الكتاب المقدَّس إلى العربية، وبدأت ترجمة القدَّاس وألحانه بها. هكـذا انتهى الأمر بالقدَّاس الإلهي لأن يُصلَّى في كنيستنا بلُغاتٍ ثلاث.
ولكن لأن الألحان مُرتبطة بالنصِّ القبطي أو اليوناني، فهذا استبقى هاتين اللغتين في الصلوات حتى وإن تُرجِمَت النصوص إلى العربية، إلاَّ أنَّ اللحن يظـلُّ بحسب الأصـل الذي حافظت عليه الكنيسة. وفي أيامنا هذه، بعد أن انتشرت كنيستنا القبطية في أنحاء العالـم، تُرجـم القدَّاس القبطي ونصـوص ألحانـه إلى عشـرات اللغات مـن الأوروبيـة إلـى الأفريقيـة والأسيويـة (مـع ثبات اللحـن القبطي) حتى يفهم المُصلِّي كلمات الصلوات والألحان ويُشارِك فيها.
3. دور الألحان في العبادة:
في البداية ينبغي التأكُّد عند ذِكْر كلمة "الألحان" أَلاَّ ينصرف الذهـن إلى النَّغَم أو التوزيع الموسيقي وحده، لأنها تشمل النص والموسيقى المُصاحبة معاً. ومن هنا نُدرك أنَّ غاية اللحن، ليس مجرَّد إمتاع الآذان، وإنما أن يجتذب الذهن إلى النصِّ الذي يعمل له كإطار جمالي(3) يُخاطب الروح ويُعزِّي النفس، كما يُتيح للمُرتِّـل التأمُّـل في الكلمات والغوص في معانيها. وهكذا يُسبِّح الله ويُمجِّده، ويستوعب أصول الإيمان ويتشرَّب جوانب العقيدة(4)، ويتذكَّر أحداث حياة الرب من أجل خلاصنا؛ بالضبط، كما هو قَصْد الكنيسة مـن الأيقونـات وصُور الرب وشخصيات الكتاب والشهداء والقدِّيسين في أنحاء الكنيسة. فإذا لم يكن النص مُترجماً، فعلى المُصلِّي، إذاً، وهو يُرتِّل الألحان أن يُتابع المعنى الكلِّي(5) لكي لا يكون ذهنه بلا ثمر. وهكذا يهتف مع الرسول بولس: «أُصَلِّي بِالرُّوحِ، وَأُصَلِّي بِالذِّهْـنِ أَيْضاً. أُرَتِّـلُ بِالرُّوحِ، وَأُرَتِّلُ بِالذِّهْنِ أَيْضاً» (1كو 14: 15).
والألحان قرينة التسبيح على مـدى الأزمان، في السماء وعلى الأرض. فالترتيل والترنُّم هـو عمـل السمائيين (رؤ 5: 9؛ 14: 4؛ 15: 3). والعود والمزمار والأبواق والدفوف (أو الطبول) والصنوج والقياثير قديمة قِـدَم التاريخ الإنساني، واستُخدِمَت في الغناء أو النوح أو في الحروب، وعرفها أحفاد قايين (تـك 4: 20-22) وقدماء المصريـين(6)، كما استخدمها بنـو إسرائيل في تسبيحهم بعد عبورهم البحر (خر 15: 21،20).
وصار التسبيح بمُصاحبة الآلات تقليداً أيام داود الملك الذي عيَّن أربعة آلاف مـن اللاويين للعزف والتسبيح، وامتـدَّت خدمتهم في هيكل سليمان (1أي 6: 32،31). ويمتلئ سِفْر المزامير بالحثِّ على التسبيح لاسم الرب والهُتاف لمجده.
ونعرف أنَّ الرب بعد أن قـدَّم جسده لتلاميذه، مكتوبٌ أنهم «سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ» (مـت 26: 30؛ مر 14: 26)، حيث دخل الرب إلى جثسيماني يُجاهد بالصلاة، قبل أن يبدأ خطواته الأخيرة نحو الصليب. فالتسبيح وقت التجارب هو السلاح الناجع الذي نستدعي به القوَّة من فوق لنسند إيماننا. وهكـذا أوصى مُعلِّمنا بولس الكنائس التي بشَّرها بالتسبيح والترانيم: «امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ، مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِمَزَامِـيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّـةٍ، مُـتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلـرَّبِّ» (أف 5: 19،18؛ انظر أيضاً كو 3: 16).
وبالنسبة لألحان كنيستنا، فجذورها تعود إلى مصـر القديمة، مـع تغيير الكلمات لتتفق مـع جـوانب العقيدة المسيحية. كما انتقلت إلينا بعض الألحان الأخـرى مـن التراث الكنسي اليوناني (الرومي)(7) أو الشامي (السرياني)(8).
ومع مُداومة حضور الكنيسة فإنَّ ألحان القدَّاس بـالذات تصير جـزءاً طبيعياً مـن عبادة الصغار والكبار. فتكـرار اللحـن يُساعد على حِفظ الكلمات واستيعاب معانيها. على أنه ليست كل الألحان سهلة الحفظ. فـألحان التسبحة وبعض ألحـان المُناسبات الطويلة والمُركَّبة لا يستطيع أداءها إلاَّ الموهوبون، وهي تتطلَّب تدريباً طويلاً لإتقانها.
وخـلال أجيالٍ كثيرة رتَّبت الكنيسة أن يكون هناك "المُرتِّل" أو "المعلِّم" الذي يقـود الشعب في مردَّاته خلال القدَّاس، ويُدرِّب الشمامسة على حِفظ الألحان. وكـان المُرتِّل في الماضي عـادةً ضريراً، وكـان يُعَدُّ منذ طفولته لهـذه المهمة. فغياب حاسة النظر يجعل الحواس الأخرى أكثر حِـدَّة. وكـان آبـاء الكنيسة يختارون أصحاب الأصوات القوية وذوي الموهبة، فيقضي الواحـد منهم سنوات في التدرُّب على يـد معلِّم خبير قبل أن يُمارِس خدمتـه في قيادة الشعب وهـو يُردِّد الألحـان. وفي القـرون الأخيرة نشأت جمعيات لتدريب الشمامسة على يـد معلِّمين مشهود لهم، وكـانت تُرتِّـل في الكنائس المختلفة إلى جانب "المعلِّم". ثم صـار لكـلِّ كنيسة خورسها الذي يقود التسبيح خـلال القدَّاسات وسائـر الصلوات والمناسبات، وإن بَقِيَ "المعلِّم"، الذي صار اليوم بصـيراً مُثقَّفاً دارسـاً، يُعلِّم الألحـان للشمامسة المُبتدئين، ويُشارِك الخورس في الخدمة.
وفي العقود الأخيرة أسهمت الوسائل العصرية، كالتسجيلات ووسائـل الإعلام المختلفة، في إمكان حِفظ الألحان بتكرار سماعها. وهكذا سيظلُّ تكوين خوارس التسبيح التي تقـود الشعب مُتواصلاً إلى آخر الأيام حتى نستوطن جميعاً عند الرب، لنُشارِك السيرافيم تسبيحهم في السماء بعـد أن شاركناهـم ونحن على الأرض.
(يتبع)
دكتور جميل نجيب سليمان