ادخل إلى العمق


- 11 -
«إيماننا الحي»

«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» (مر 8: 29)
( 1 )

تمهيد:

بعد أن عرض التلاميذ الأطهار على الرب يسوع آراء الناسِ والجموع عنه، ردًّا على سؤاله لهم عن ذلك، استطرد قائلاً لهم: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» (مر 8: 29)، ذلك لأن ما يهم الرب أن يسأل عنه تلاميذه - ونحن أيضاً معهم - هو أمرٌ أهمْ، يختصُّ بنا وبجوهر إيماننا، وماهية إدراكنا لشخصه الإلهي ونوع علاقتنا به، وهذا يُمثِّل نقطة محورية كاشفة لحقيقة هذا الإيمان وهذه العلاقة. كما أن الإجابة عن هذا السؤال سوف توضِّح حجم ومقدار ما يمثِّله المسيح في حياتنا، وهل شهادتنا له هي أمرٌ حقيقي، أم هي شهادةُ فمٍ ولسانٍ فقط.

وقد يتعجب البعض من هذا السؤال، لأنه من الطبيعي والمتوقَّع أن نُجيب جميعاً بأننا نؤمن بالرب يسوع، ونحن مسيحيون وخدَّامُ الله، ونعترف بالمسيح إلهاً لنا. لكن الحقيقة، إن هذا الإيمان، إن توقَّف عند هذا الحد وهذه الشهادة، فإنه سيصير إيماناً أجوَفًا وضعيفًا لا يختلف عن إيمان الشياطين، الذين يؤمنون ويقشعرون. إذن، الأمر يتعلَّق بماهية هذا الإيمان وموضوعِه، وبمعناه وقوته ومدى صدقه، حتى يصير إيماناً حقيقياً ممجِّداً لله وشاهداً له، عاملاً ومؤثِّراً ومستَعلَناً أمام الجميع.

أولاً : موضوع الإيمان:

يتمركز جوهر الإيمانِ المسيحيِّ كلِِّه في بؤرة رئيسية، هي شخص المسيح نفسه، فهو الرب والإله والفادي والمخلِّص، وبدونه لا يوجد إيمانٌ ولا معرفةٌ بالله؛ بل إن الكتاب المقدَّس بفم الرب نفسه يقول: «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ» (يو 3: 36)، والكنيسة تشهد وتعترف بهذا الإيمان في قانون إيمانها، إذ تقول فيه: ”نؤمن بربٍ واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد ...“ (قانون الإيمان المسيحي). وهذا الإقرار بالإيمان المرتبط بالرب يسوع وبشخصهِ، قد شهِد وأقرَّ به الكتاب المقدَّس مرَّاتٍ كثيرة، فَرَدًّا على سؤال الرب لتلاميذه عمن يقول الناس من هو؟ يشهد بطرس الرسول بالروح قائلاً: «فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ: ”أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!“» (مت 16: 16؛ مر 8: 29)، وكذلك التلاميذ، أقرُّوا بألوهية الرب يسوع، إذ يقول الكتاب عنهم: «وَالَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: ”بالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!“» (مت 14: 33). ومرة أخرى، أكَّدَ جمهور التلاميذ الشهادة والإيمان بالرب يسوع بقولهم: «وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ» (يو 6: 69)، وهذا ما حدث أيضاً مع أهل السامرة الذين شهِدوا له، بعدما نظروا بأنفسهم القوات والأعمال التي عمِلها بينهم، وبعدما سمعوه من المرأة السامرية عنه، فقالوا: «لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ» (يو 4: 42). كذلك شهدت له مرثا، أخت لعازر بقولها: «... نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، الآتِي إِلَى الْعَالَمِ» (يو 11: 27).

والخلاصة، إنَّ إيماننا الأقدس، هو إيمان قائمٌ على العلاقة الحيَّة التي تربطنا بالرب يسوع، والاتحاد الوثيق والكامل مع شخصه الإلهي نفسه، باعتباره الرب والإله والمخلِّص، وذلك بحسب ما نصلِّيه ونردِّده دائماً في صلوات القداس: إنه (أي المسيح) هو حياتنا كلنا، وخلاصنا كلنا، ورجاؤنا كلنا، وشفاؤنا كلنا، وقيامتنا كلنا (القداس الإلهي). وعليه، فإن هذا الإيمان بشخص المسيح، لابد وأن يتبعه علامة أو مظهرٌ حيٌّ يشهد لهذا الإيمان، ويدلُّ على صدقه وفاعليته، وهو ما يتحقق لنا من خلال شركتنا في سرِّ الإفخارستيَّا، الذي يؤهِّلنا للاتحاد بهذا الشخص الإلهي الذي يعطينا، بسبب الإيمان به والتقدُّم باستحقاق للشركة في جسده ودمه الأقدسين، غفراناً لخطايانا وميراثاً في الحياة الأبدية. وكما ذكَر أبونا الأسقف المتنيِّح أنبا إبيفانيوس بقوله: ”لو كان محور حياتنا نصٌّ، فنحن نكون مطالبون بالخضوع للنصِّ واحترامه، وعدم الحيدان عنه، لكن لو كان محور حياتنا هو شخصٌ، فنحن مطالبون بالاتحاد به“.

وها نحن ”نؤمن ونعترف ونمجِّد“ (القداس الإلهي)، وندرِك بكل وعيٍ ويقظة، أن هذا هو جوهر إيماننا، أن يسوع المسيح ربنا هو ربٌّ لمجد الله، لأن الكتاب يقول: «الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ، وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ» (رو 10: 10).

ثانيًا: متطلبات الإيمان المسيحي:
1- شهادة الإيمان:

تُرى، هل يكفي مجرد الاعتراف بالإيمان، والشهادة المنطوقة بالفم، بل والأعمال الطقسية والممارسات الكنسية، لتكون شاهداً لنا على صدق إيماننا وأمانته؟ وهل هذا هو الإيمان الذي يريده منا الرب يسوع؟ لقد وبَّخَ السيد المسيح تلاميذه حينما فشلوا في إخراج الشيطان أحد المرات، فقال لهم: «فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ» (مت 17: 20)، وهذا كان لضعفِ إيمانهم، ومرة أخرى أَنَّبَ الرب يسوع تلميذه بطرس الرسول بقوله: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» (مت 14: 31). كذلك هناك إيمانٌ خادعٌ وغاش، مثل شجرة التين غير المثمِرة، والقبور المبيَّضةُ من خارج، والتي تبدو جميلة المنظر ومُبهِجة للناظرين من بُعدْ، ولكنها كقول الرب نفسه عنها إنها: «... هِيَ مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ» (مت 23: 27)، فهي تخدع الجميع بمظهرِها، وتبدو جميلة، كالإيمان الغاش، وذات صورة مخالفة ومزيَّفة عن حقيقتها الأصلية.

شهادة الإيمان، لابد أن تعبِّرعن قيمة الله ونصيبه في حياتي اليومية، وبحسب ما قيل:

”إن من يصلي فقط وقت الصلاة، فإنه لا يصلي!“، ذلك لأن المطلوب أن أكون أنا نفسي صلاة، وأن تكون حياتي مرتبطة كل حين بالله، ويكون هو كل شيء لي في هذه الحياة.

شهادة الإيمان، في الحقيقة، هي صلة ورباطٌ دائم مع الله، في كل وقتٍ ومكانٍ وزمان، يكون الله فيها هو المالك والمهيمن عليها، وهذا يتطلَّب مني على الدوام استعداداً دائماً للتوبة والرجوع عند كل سقطة أو هفوة، واتضاعاً وصراخاً دائماً لله لطلب المعونة والقوة، وثقةً كاملة في رحمته وغفرانه.

ولا ننسى أبداً أن الشياطين أيضاً يؤمنون ويقشعرِّون، ولكن ليس لهم رجاءٌ مثلنا في الله، لأن إيماننا نحن هو إيمان عاملٌ بالمحبة، بلا حدود، إيمانٌ واثقٌ برحمة إلهنا، إيمانٌ متمسِّك بصليب ربنا ومخلِّصنا، ومطيعٌ لإرادته، مثل أبينا إبراهيم الذي لمَّا دُعيَ أطاع.

2- إختبار الإيمان:

يقول الروح في الكتاب المقدس: «جَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ فِي الإِيمَانِ؟...» (2كو 13: 5)، أي إن هذا الإيمان الذي نشهد به، ونتكلم عنه، لابد وأن يكون إيماناً اختباريًّا مجرَّباً وممحَّصاً، وهذا يعني أن الإيمان لابد له وأن يتعرض للتجربة والضيقة والاختبار، وربما المهانة والاحتقار، ويُمتَحن بالنار، حتى يثبت صدقه وتظهر حقيقته، وذلك برغم أنه يأتي بعد الصلاة والصوم والأعمال الجيدة!

ولننظر إلى بطرس الرسول، الذي نراه قد شهد للرب يسوع بقوله: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ» (مت 16: 16)، ولكن عندما واجهته الجارية خاف وأنكر سيّده، وجحدَ هذا الإيمان!! بينما إبراهيم - صاحب الإيمان الذهبي - عندما طُلِب منه تقديم ابنه ذبيحةً، وهو في سن المائة، ورغم وعد الله السابق له بأن نسله سيكثُر بإسحق ابنه كرمل البحر، لم يتوانَ أو يرجع، بل بإيمان عظيم تقدَّم ليتَمِّم طلب الرب منه، واضعاً في قلبه أن الله قادر أن يقيم ابنه من الموت، ويكثِّر ذريته!! وفي الوقت الذي ضحِكت فيه سارة، من الوعد بولادة إسحق في شيخوختها، واستصعب نيقوديموس الولادة الجديدة من الروح، وكأنها ولادة جسدية، وأيضاً لم يستطع توما الرسول أن يؤمن بالقيامة إلاَّ بلمس جراحات المسيح؛ نرى آخرين، بسبب قوة إيمانهم وعظمة رجائهم وصبرهم على ما هو منظور وتجاوزه بعين الإيمان، نراهم قد انفتحت أعينهم بالإيمان، على غير المنظور، وتجاوزوا الآلام والضيقات الوقتية، حتى ينالوا النصيب الأعظم مع الرب في السماء، مثل آبائنا الشهداء، القديس اسطفانوس، وأمنا القديسة رفقة وأولادها، والقديس إغناطيوس وغيرهم، ومنهم مَنْ انتظر بصبر خلاص الله، مثل موسى وشعب إسرائيل، وحنة النبية، وسمعان الشيخ، وكثيرين، فعاشوا على رجاء الإيمان، وقدَّموا حياتهم وحياة أولادهم، فداءً بسبب عظم إيمانهم، وتمسُّكِهم برجاء الحياة الأبدية التي آمنوا بها.

إذن، كانت التجارب الواقعة وقبولَها بالصبر والشكر والرجاء الحيّ، هي الاختبار الحقيقي لإيمان كل هؤلاء القديسين، وشهادة صادقة لعظمة إيمانهم الذي غلب الموت بقوة القيامة الكائنة فيه.

3- ثمر الإيمان: (الإيمان العامل بالمحبة)

إيمان المعرفة لا يُسعِف، فالشياطين يؤمنون ويقشعرُّون. والعذارى الخمس الجاهلات كُنَّ يعرفن كل شيء عن العُرس والعريس، ولم يكن ينقصهُنَّ شيء. وصاحب الوزنة الواحدة كان كذلك؛ ولكنهم فشلوا جميعاً في شهادة إيمانهم، لأنه كان إيماناً ميِّتاً بلا ثمرٍ أو مردودٍ أو فاعلية. فجميعنا يملك المعرفة وفهم الكتب، وإدراك معنى الدينونة والمكافأة والعقاب، ولكن مَنْ الذي يستعد؟ ومن الذي يتعب ليُعدَّ أثماراً تليق بحياة الإيمان والتوبة التي يحياها؟ فنحن في يوم الدينونة، سوف نتقدَّم حاملين أثمار إيماننا لله، كتقدمة حبٍّ وشهادة لإيماننا، كما نقول في التسبحة: ”يأتي الشهداء حاملين عذاباتهم، ويأتي الصدِّيقون حاملين فضائلهم، يأتي ابن الله في مجده ومجد أبيه، ويجازي كل واحدٍ كأعماله التي عمِلها“ (ختام الثيئوتوكيات الواطس).

علينا إذن، أن نسعى كسفراء للمسيح بسيرة وسلوكٍ مقدَّس، يطابق ويشهد لإيماننا الحىِّ، لأن ذلك أهم وأجدى بكثير من الكرازة بالعظات والمجادلات والشرائط والمناظرات الكلامية، إذ نحن صورة المسيح ورسالته الحيَّة المقروءة من جميع الناس: (انظر: 2كو 3: 3،2)، ولا نكون كمَنْ يعترف بلسانه بالإيمان بالله، ولكنه بالأعمال ينكره: «يَعْتَرِفُونَ بَأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللهَ، وَلكِنَّهُمْ بِالأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ» (تي 1: 16)، لأن الإيمان بدون أعمالٍ ميتٌ في ذاته، كقول الكتاب: «هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضاً إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ» (يع 2: 17).

أخيراً، نُجملُ القولَ في أنه علينا أن نتذكر دائماً أن إيماننا المسيحي بالرب يسوع يتطلب منا:

- شهادةٌ حيَّةٌ للإيمان بعلاقة يومية ودائمة، تعبِّر عن مكانة وقيمة المسيح ومحبته في قلوبنا، واتصال دائم به، مع حياة توبة نقية متجددة، وحب حقيقي للمسيح، ينمو معنا كل يوم.

- تمحيصٌ واختبارٌ مستمر لهذا الإيمان، باحتمال كل التجارب، والصبر والشكر الدائم لله على كل شيء وفي كل الظروف، وطلب المعونة في كل حين من الله.

- ثمرٌ ظاهرٌ وفاعليةٌ دائمةٌ لهذا الإيمان، حتى يكون بالحق إيمان عامل بالمحبة، يتجاوز كل معرفة وإيمان نظري، وكل ممارسة أو طقس تقليدي، بل يكون مستَعلَناً بسيرة مقدسة، مطابقة لهذا الإيمان، وشاهدة لإلهنا من قِبَل الروح الساكن فينا.

أمَّا عن الإيمان نفسه، فعلينا أن ندرِك أنه هبةٌ معطاةٌ من الرب، كقول بولس الرسول بالروح: «لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (في 1: 29)، لذلك صار الإيمان عطية غالية، علينا أن نحافظ عليها، ونجتهد في الشهادة والإعلان عنها، مجداً لإلهنا المُحبِّ، وشكراً له على رحمته، وشهادة حسنة حيَّة لنا، لبنوِّتِنا لله واستحقاقنا لملكوته الأبدي.

(يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis