|
|
|
على مدى الأجزاء السابقة (أكتوبر 2019 - سبتمبر 2020) ألقينا الضوء على جوانب من طقوس الكنيسة، وبدأنا بمبنى الكنيسة، ثم انتقلنا إلى خدمة القداس الإلهي والطقوس المصاحبة لسر الإفخارستيا، وبعدها عرضنا لطقوس الأعياد والمناسبات والأصوام الكنسية، بحسب السنة الليتورجية، وما يصاحبها من ترتيبات وصلوات وألحان بعينها، خاصة ما يتعلَّق بالأعياد السيدية.
وخلال هذه الأجزاء تطرقنا إلى الجوانب الروحية لهذه الطقوس سواء في كلمات القداس ونصوص الألحان، وعلاقتها بالكتاب المقدَّس وحياة الرب والكنيسة الأولى ورسائل الرسل. كما أشرنا في السياق إلى ما ينبغي توافره من جانب خدام الكنيسة والمؤمنين لكي لا يغلبنا الأداء الشكلي الذي يتكرر آليًّا بغير روح. فالاتحاد بشخص الرب هو الهدف من الليتورجية كلها، وبغير إدراك حضور الرب كمحور للخدمة بكاملها نكون كمن يحرث في البحر.
على أن الأمر يستحق أن يؤخذ ببعض التفصيل لكي يتحقق الهدف من كل الترتيبات الطقسية الدقيقة، التي وضعها الآباء بالإلهام الإلهي، وغايتها الثبوت في المسيح بالتناول من جسده ودمه، والتمتع بعمل الروح القدس في الأسرار، بما يؤدي في النهاية إلى تغيير حياة المؤمنين إلى الأفضل بارتباطهم العضوي بشخص الرب ومحبته، وحفظ كلمة الإنجيل وطاعتها وممارستها في الحياة اليومية، وإتقان حياة التوبة، والسلوك بالروح والتمتع بالخلاص، ورفع الأشواق إلى السماويات، والإيقان بنوال الحياة الأبدية (يو 3: 16، 5: 24).
وبالطبع فإن الخدمة الطقسية لن يتحقَّق قصدها آليًّا بغير مشاركة إيجابية، ليس فقط من جانب القائمين بالخدمة وحدهم، وإنما أيضاً من جانب المؤمنين صغارًا وكبارًا.
? عن دور المؤمنين:
من الأهمية بمكان أن يعي المؤمن كل ما يقول ويرى ويسمع كي ينال بركة الخدمة الكنسية. فبغير الفهم والمتابعة اللصيقة لن يكون مشاركًا، وإنما متفرجًا خارج المشهد، ليكون الحاضر الغائب.
وإذا كان الطقس هو معلِّم البسطاء والصغار وتعريفهم بأحداث الكتاب وعمل المسيح من أجلنا، ومبادئ الإيمان المسيحي، وربطهم بشخص الرب شريك حياتهم، وتحفيظهم نصوص العقيدة ملحَّنة أحيانًا، فإن على المؤمن المتعلِّم أن يعرف ويدرس ويبذل الجهد كي يستوعب أكثر ويفهم أعماق الطقس مشاركًا فيه، وإذ ينال نعمة الخدمة ينمو ويتغيَّر.
1. حجر الزاوية في المعرفة هو كلمة الله. فالمؤمن الحقيقي تلميذ مخلص للكتاب، وفيه يلهج نهارًا وليلاً (مز 1: 2). وهو يكرِّس وقتاً ليقرأ فيه الكتاب بانتظام ويحفظه، فتصير الكلمة سهلة على لسانه، نورًا لطريقه ودستورًا لحياته، يطيعها وينفِّذها بكل تدقيق، ودافعه محبة المسيح الذي قال: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي» (يو 14: 23)، وعندما يمتلئ فمه وقلبه بالكلمة المقدَّسة، التي هي «حَقٌّ» (يو 17: 17) و«رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يو 6: 63)، يستنير القلب والعقل واللسان فلا يكون هناك مجال لكلام القباحة أو السفاهة أو الشر، «بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ» (أف 4: 29).
وهو لا يكتفي أن يقرأ الكتاب ولكنه يسعى لفهم الكلمة فيلجأ لكتب التفسير وقواميس الكتاب(1)، سواء بضمِّها إلى مكتبته أو أن يستعين بالصفحات الإلكترونية. وبدوام دراسة الكتاب تزداد معرفته يومًا فيومًا بترتيب الأسفار وموضع الأحداث والآيات. وهو يعرف كيف يستخدم فهرس الكتاب للوصول إلى الآية. وإذا كان عارفًا بلغة غير العربية فهو يلجأ إلى نسخة من الكتاب بهذه اللغة لتدقيق معنى كلمة عَسُرَ عليه فهمها(2). ولن يكون القصد هنا مجرد الدراسة العقلية الأكاديمية لأن الكلمة بطبيعتها تختلف فهي «حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عب 4: 12). من هنا فكلما درسنا أكثر نقترب أكثر من النور الإلهي «نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ» (2كو 3: 18).
وهكذا فالمؤمن العارف بالكتاب متنبه في الكنيسة للقراءات ويتتبعها بفهم. وربما يقرأ إنجيل القداس وسائر القراءات قبل مجيئه إلى الكنيسة. ولدرايته بالكلمة ما أيسر أن يلتقط أخطاء القراءة لأنه يعرف الصواب. ولا شك أنه عندما يتعاظم عدد الذين يعرفون الكتاب ويتقنون حفظ الكلمة فسوف تتراجع أخطاء القراءة إذ سيحرص القارئ (الأناغنوستس) أن يكون مؤهَّلاً لمهمته، يحسن القراءة ويفهم الكلمة (وبالعكس فعندما تتضاءل معرفة الشعب بكلمة الله تتكاثر أخطاء القراءة وتعبر دون أن يتوقف عندها أحد)(3).
ربما يقول البعض إن ما يُطالَب به المؤمن هنا كثير، ويضيف عبئًا لا داع له، وأن الحياة مع الله أيسر بكثير، والمهم أن نسلِّم الحياة له ونطيع وصاياه. ولكن يمكن القول أيضاً إن معرفة كلمة الله تسبق الإيمان لأنها أساس الإيمان والعقيدة وتسيِّج حولهما. هكذا قال الرب: «مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ ...» (يو 5: 24). وفي رسالة رومية: «كَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ ... إِذًا الإِيْمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ» (رو 10: 14 و17). والرب يحثنا أن «فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (يو 5: 39)، أي أننا نرى ونسمع ونقرأ فنعرف ونفهم فنؤمن، ونكرز للآخرين بالكلمة فيقبلون الإيمان.
فمَنْ لا يعرف أساس إيمانه وعقيدته يسهل اختراقه وتضليله ... وكما يقول الكتاب: «هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ» (هو 4: 6). وإذا كان «اَلْبِرُّ يَرْفَعُ شَأْنَ الأُمَّةِ، وَعَارُ الشُّعُوبِ الْخَطِيَّةُ» (أم 14: 34) فإن الجهل بالكلمة عار وإهانة، وعندها يصير الإيمان شكليًّا بغير أساس، وساعة الامتحان يمكن التحلل منه والتخلِّي عنه.
2. لن يكون تزايدًا إذًا أن يُطلَب أيضًا من المؤمن المتعلِّم أن يكون محيطًا بأسس عقيدته الإيمانية كمسيحي أرثوذكسي جاهد آباؤه للحفاظ على الإيمان أمام المبتدعين من الداخل والمقاومين من الخارج على مر القرون، واستشهد الآلاف من أجله، فلا يقدر أحد أن يشككه في إيمانه بل على العكس هو قادر على الدفاع عن عقيدته، والرد على المعادين، وأيضًا مستعدًا لمجاوبة كل مَنْ يسأله عن سبب الرجاء الذي فيه (1بط 3: 15).
وعلى الوالدين أن يحرصا على انتظام أولادهما في خدمة التربية الكنسية منذ الطفولة وهكذا يشبّون في حضن كنيستهم محبين لإلههم، يعرفون الكتب (2تي 3: 15) وأصول الإيمان والعقيدة، يعيشون بقداسة ومحبة الله والقريب، يقاومون الشر، ويعيشون بالتوبة، ويخدمون العالم من حولهم ويقدِّمون أنفسهم في المدرسة أو مجال العمل بشارة للآخرين من أجل مجد الله.
وفيما بعد، سيكون من أساسيات الحياة حضور الكنيسة واجتماعات درس الكتاب وغيرها من الاجتماعات الروحية والاشتراك في خدمة الله بحسب الموهبة.
3. يتكامل مع ما سبق أن تشارك بالقلب والصوت في صلوات القداس وألحانه، فهذه ليست مهمة خورس الشمامسة وحدهم، لأنهم في الواقع يقودون الشعب الشريك الأساسي في الليتورجية، ويضبطون اللحن معهم. بعض الألحان يسيرة على الكل وبتكرارها تصير تلقائية. وبعضها قد يصعب على الكثيرين ولكن المهم هنا أن يتابع المصلِّي معنى كلمات اللحن سواء في كتاب الخولاجي أو على الشاشات. وإذا كان اللحن باللغة القبطية أو اليونانية فليتابع النص العربي المقابل بحسب الوصية: «أُصَلِّي بِالرُّوحِ، وَأُصَلِّي بِالذِّهْنِ أَيْضاً. أُرَتِّلُ بِالرُّوحِ، وَأُرَتِّلُ بِالذِّهْنِ أَيْضاً» (1كو 14: 15). المهم ألا يقود الحفظ والتكرار إلى الآلية وعدم الانتباه إلى معنى الكلمات، ويتحوَّل الأمر إلى عبادة الشفاه المرفوضة من الله (إش 29: 13؛ مت 15: 8؛ مر 7: 6)؛ بل نطلب معونة الله لكي ننحصر كليًّا في الروح.
4. الكنيسة هي السماء على الأرض فهي بيت الله والملائكة. وفي صلاة الأجبية نقول: ”إذا ما وقفنا في هيكلك المقدَّس نُحسَب كالقيام في السماء“، هكذا يغلب على شعور المصلي عند وجوده في الكنيسة الإحساس بحضور الله يملأ المكان والقلوب والأفكار، ويتفرَّغ من كل اهتمام خارج نطاق الصلاة في محضر الله. فيخشع القلب ويمتلئ بمخافة الله مع السكون اللائق والاستغراق في الإلهيات، ويقف منصتاً بمخافة للإنجيل المقدَّس مجتهداً الاستفادة من العظة دون انتظار المتكلِّم، ولما تأتي ساعة السجود فليكن ذلك بخوف ورعدة لا بالجلوس والانحناء للراحة بعد طول الوقوف. وسيكون من الحكمة عدم الجلوس بجوار الأصدقاء والمعارف لتفادي الكلام والتحيات، والأفضل الجلوس قريباً من الهيكل لكي ينحصر الذهن في الصلاة والتسبيح. كما يحسن الابتعاد عن الأبواب وممرات الدخول والخروج.
والكتاب يحذِّرنا: «ليَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ» (1كو 14: 40)، ففي بيت الله لا مجال للكلام أو الحركة أو التعليق أو الضحك والهذر أو الانشغال بأي طارئ. فلا تزاحم وقت التناول ولا هرج وصياح عند رش الماء لصرف ملاك الذبيحة في ختام القداس، ولا تخلٍّ عن الجدية والخشوع عند ممارسة سر العماد أو صلاة الإكليل التي تفتقد الوقار أحيانًا.
5. نحن في القداس نصلِّي ونجدِّد توبتنا ونتعلَّم وننمو روحيًّا ويتشدَّد إيماننا ونفهم عقيدتنا وننفتح على السماء ونشارك السمائيين في التسبيح، ونتبادل السلام والمحبة مع إخوتنا، ونستعد باطنيًّا للقاء الله وتنقية القلب للتهيؤ روحيًّا ونفسيًّا للاقتراب من المائدة السماوية ونثبت في المسيح بالتناول من جسده ودمه ونخرج من الكنيسة في نهاية القداس كأننا مولودون الآن ...
فالذين يبكِّرون إلى الله يجدونه (أم 8: 17)، والذين يحصرون ذهنهم وروحهم في كل جوانب القداس منصتين إلى كل كلمة، مشاركين بكل قلبهم في التسبيح تتغيَّر حياتهم إلى الأفضل بعد كل لقاء. أما الذين يضيقون بحضور الكنيسة فيأتون مرَّة ويغيبون مرَّات، ويجيئون متأخِّرين فتفوتهم فرصة للصلاة والتأمل والمعرفة الإيمانية والتهيؤ الروحي للتناول. وهكذا هم يقتحمون هيكل الله كالغرباء ويأكلون خبز الحياة في عجلة، ويخرجون من الكنيسة وكأنهم لم يدخلوها فلم يُفيدوا وعادوا بالفتات. فالعرس كان مستعداً «وَأَمَّا الْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ» (مت 22: 8).
هؤلاء المتثاقلون والمتأخرون الشكليون المنشغلون عن الله بأعمالهم وهمومهم ومحبتهم للعالم ويأتون إلى الكنيسة كأنهم يتنازلون، هم في حاجة إلى مراجعة أنفسهم واختبار توبة حقيقية تعيدهم إلى الله الذي ينتظر عودتهم من الكورة البعيدة، فيختبرون عندها محبته ويبادلونه حبًّا بحب ويتوحَّد قلبهم المنقسم، ويبدأون في التعرُّف على كلمة الله وكنيسته وخدمتها. وإذ تتغيَّر حياتهم الفاترة إلى الضد ينعمون بالسلام الذي لم يختبروه من قبل، وتتضاءل في عيونهم أموالهم وممتلكاتهم ومشاغلهم لتصير الكنيسة بيتهم ويصير الله قائد سفينة حياتهم إلى الملكوت الذي «لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُ» (1بط4:1). (يتبع)
دكتور جميل نجيب سليمان
__________________________________________________________
(1) قبل نصف قرن أهداني الأب متى المسكين قاموساً ضخماً للكتاب من 1400 صفحة The New Bible Dictionary by J.D. Douglas (ed.)، كضرورة تعليمية لخادم الكتاب.
(2) كان الأب متى المسكين رائداً في استخدام اللغة اليونانية (وهي اللغة الأصلية التي كُتب بها العهد الجديد وتُرجم إليها العهد القديم)، بل إنه استدعى أساتذة للغة اليونانية من الخارج لتدريسها لآباء دير أنبا مقار ليتيسر لهم مقابلة النسخة العربية من الكتاب بالنص اليوناني الأصلي. ومن بعدهم اتجه كثيرون من دارسي الكتاب في كنيستنا لإتقان اللغة اليونانية لأهميتها في دراسة الكتاب.
(3) على الأسقف (والكاهن) ألا يسمح أثناء الخدمة بأخطاء القراءة، بل يصحح للقارئ ويُلزمه أن يعيد القراءة صحيحة.