غير المنظور، والمنظور في الكنيسة، متحدان معاً بلا انفصام: 1. الإلهي، والروحي، وهو غير المنظور؛ 2. وأيضاً، البشري، والمادي، وهو المنظور. وطبيعة هذا الاتحاد هي نفس طبيعة اتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص ابن الله المتجسِّد. تماماً كما لا يمكن فصل النفس عن الجسد، والروح عن المادة؛ كذلك في الكنيسة لا يمكننا فصل العنصر الإلهي/الروحي عن العنصر البشري/المادي. وهذا العنصر الأخير هو التعبير الخارجي عن العنصر الأول، وهو أداته الضرورية للكرازة ولإعلان عمل الخلاص بين البشر والعالم. فالكنيسة هي، من جانب، إلهية، روحية، غير منظورة، كيان أبدي؛ ومن جهة أخرى، هي مجتمع المؤمنين العائشين في العالم، فهي من هذه الوجهة: منظورة. والكنيسة هي غير منظورة لأن رأسها في السماء غير منظور، الرب يسوع المسيح، والروح القدس حالٌّ في وسطها. ويُعبِّر عن هذه الحقيقة اللحن المعروف والذي ينشده الشمامسة والشعب معاً في القدَّاس والاحتفال الليتورجي بكل أسرار الكنيسة "أبؤرو - يا ملك السلام"، حيث تصيح الكنيسة كلها: "عمانوئيل إلهنا في وسطنا الآن، بمجد أبيه، والروح القدس". فعدم منظورية رأس الكنيسة يُصاحبه حضورٌ قويٌّ للآب والابن والروح القدس وسط كنيسة الله وشعب الله. والجميع يخضعون لحضوره بخوف ورعدة. وهي غير منظورة أيضاً بسبب النعمة الإلهية غير المنظورة التي تبرِّر، وتخلِّص، وتقدِّس، الكائنة في أسرار الكنيسة. وأيضاً، الكنيسة السماوية هي بالطبع غير منظورة. ولكن الآن ها هما عنصرا الكنيسة، الإلهي والأرضي معاً، يكوِّنان الجسد السرِّي الواحد للمسيح. وهكذا، نعود ونقرر هذه الحقيقة الساطعة: الكنيسة هي كيان روحي يُدبِّرها ويرأسها رأسها الإلهي، ويقودها إلى كل الحق بالروح القدس. الكنيسة المجاهدة على الأرض تضمُّ الجميع: فالكنيسة في عنصرها البشري المادي، هي الكنيسة التي تجاهد الآن على الأرض، وهي تعمل على خلاص البشر، فهي منظورة ويمكن إطلاق الأوصاف البشرية عليها؛ فبالعلامات المنظورة (الأسرار وغيرها) هي تهب النعمة، وتؤدِّي عبادتها لله في المسيح بالروح القدس، وهي من الخارج منظَّمة، يعمل فيها الله مع الإنسان في هذه المنظَّمة حسب الرئاسات والأعضاء، والكهنة والشعب (الجميع بدون استثناء يعملون معاً)، وفيها الأتقياء وغير الأتقياء، الصالحون والخطاة. ومن الطبيعي أن يكون بين أعضاء الكنيسة مَن هم خطاة، حيث من خلال الكنيسة يتوبون ويتجدَّدون تدريجياً ليصيروا قديسين. والخطاة، هم مرضى بالروح، لذلك فهم الذين يحتاجون إلى الخلاص الذي هو كنز الكنيسة؛ لذلك قال المسيح رأس الكنيسة إنه أتى "لا ليدعو أبراراً بل خطاةً للتوبة" (لو 5: 32). وقد علَّم الرب نفس الشيء في مواضع أخرى من الإنجيل في أمثاله عن الحنطة والزوان في الحقل (مت 13: 24-30)، والشبكة والسمك (مت 13: 47و48)، ووليمة العُرس لابن الملك (مت 22: 2-14). كذلك أعلن الرب أنه في الكنيسة لابد من وجود الخدَّام الصالحين والأشرار (مت 18: 23 وما بعده؛ 25: 14 وما بعده)، والخراف والجداء (مت 25: 32 وما بعده). والقديس بولس يذكر أنه في البيت الواحد يوجد "ليس آنية من ذهب وفضة فقط، بل من خشب وخَزَف أيضاً. وتلك للكرامة، وهذه للهوان" (2تي 2: 20)، وحنانيا وسفيرة كانا عضوين في الكنيسة في أورشليم (سفر الأعمال - الأصحاح 5)، والخاطئ الذي أصدر القديس بولس بالاشتراك مع شعب كنيسة كورنثوس قرار فرزه من كنيسة كورنثوس (1كو 5). وهكذا نرى أنه من المستحيل التمييز بدقة بين العنصرين في الكنيسة: المنظور، وغير المنظور؛ حيث إنهما عنصران في الكنيسة الواحدة المنظورة وغير المنظورة. عمل الكنيسة الوحيد في العالم: الكرازة بالإنجيل وتعليم المؤمنين أن يحفظوا جميع وصايا المسيح: أما بالنسبة لعمل الكنيسة، فمن حيث إن عمل الفادي ابن الله المتجسِّد قد امتدَّ إلى كل الأجيال في كنيسته المقدسة، فإن الكنيسة وحدها هي التي تحمل الخلاص الذي في المسيح إلى كل المؤمنين به، ممارِسةً العمل المثلث الذي للمسيح المخلِّص الذي هو: نبي، رئيس كهنة، ملك. وهكذا تصير الكنيسة هي الحامل الفريــد للحق والنعمة الإلهيَّيْن، الوكيل والموزِّع لنعمة المسيح المبرِّرة والمقدِّسة. ففي داخل ومن خلال الكنيسة، باعتبارها "الملكوت" (مت 13: 24و31، لو 18: 29)، و"الحظيرة" (يو 10: 16)، و"هيكل الله" (1كو 3: 17، أف 2: 21)، و"البيت" (1تي 3: 15، عب 3: 6)، و"المدينة" (عب 12: 22و23)، و"مدينة الله"(1)، و"المفتاح" الذي به يدخل البشر ملكوت الله(2)، تمارس عملها المنوط بها من المسيح. ولم يكلِّف المسيح الكنيسةَ بأي عمل آخر غير الكرازة باسمه وتذكير المؤمنين بممارسة وصاياه: "اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مر 16: 15)، "فاذهبوا وتلْمِذوا جميع الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 19و20). وبالعكس، فإنه "لا خلاص خارج الكنيسة"(3). ونقصد بالكنيسة، الوحدة العضوية بين غير المنظور (المسيح)، والمنظور (شركة المؤمنين)، وليس الجانب البشري المنظور فقط، "لأن مَن لا يتخذ الكنيسة أُمـَّه، لا يكون الله له أباً"(4). فالإنسان يخلص داخل الكنيسة باتحاده بجسد المسيح السرِّي. وبهذا نرى أن رسالة الكنيسة الوحيدة هي خلاص البشر، لأن "مشيئة مؤسِّسها هي خلاص العالم، ولهذا فإن مؤسَّسته دُعيت الكنيسة"(5). وهكذا فإن "هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنَّس" (قانون الإيمان)، هو المؤسِّس الإلهي للكنيسة، قد جعل غاية الكنيسة استمرار عمله الخلاصي. لهذا فقد هيَّأها بسلطانه الأبدي، وبالأسرار الإلهية لتكمِّل وظيفته المثلثة كنبي، ورئيس كهنة، ومَلِك؛ حتى إذ أكمل هو بنفسه عمل خلاص الإنسان شمولياً، فإن الكنيسة تلتزم من جانبها بتهيئة البشر - شخصياً، كل فرد على حِدة - لأن يكونوا شركاء خلاصه. ويكتب القديس بولس موضِّحاً أن غاية الكنيسة هي "لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح" (أف 4: 12). وهنا يرينا أن الكنيسة هي أداة خلاص البشر التي منحها الله للعالم، من أجل امتداد ملكوت الله على الأرض، لأنه في الكنيسة، ومن خلال الكنيسة، سوف يتحقق في العالم خلاص البشر، وكذا ملكوت الله. التعليم المسيحي والتربية المسيحية في الكنيسة منحصرة في هذا الهدف: لهذا، وإذا طبَّقنا هذه الحقائق الإلهية عملياً، فإنه لابد أن ينحصر تعليمنا وتربيتنا للشعب المسيحي في الكنائس وفصول التعليم الكنسي للنشء والشباب، في الكرازة والتعليم بخلاص المسيح، وباسم الرب يسوع المسيح وحده، كما أوضح القديس بطرس في شهادته الأولى أمام رؤساء الكهنة: "لأنه ليس بأحدٍ غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص" (أع 4: 12)، والقديس بولس يشهد لمؤمني كنيسة كورنثوس عن طريقته في الكرازة: "وأنا لما أتيتُ إليكم أيها الإخوة... لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلاَّ يسوع المسيح وإيـَّاه مصلوباً" (1كو 2: 1و2). فاسم الرب يسوع المسيح المخلِّص هو الذي لا ننادي بغيره من على المنابر، وفي فصول الخدمة للصغير والكبير، وفي أوجه الأنشطة المختلفة والمتعددة في الكنيسة، ولا نتعدَّى هذا الاسم إلى غيره من أسماء(6)، ولو بالأسلوب السلبي، لأن التعليم السلبي لا يُنتج إلاَّ نتائج سلبية. وبهذا نعدُّ للمسيح شعباً مبرَّراً وكنيسة كارزة مستعدة للشهادة باسم الرب يسوع بالحياة قبل الكلام، وبالمحبة قبل الجدال. فحول هذا الاسم، ينبغي أن نربِّي ونُنشئ أبناءنا وبناتنا، فيشبُّوا مؤمنين مخلِصين له، مهيَّئين لملكوت الله. عصمة الكنيسة، في أيِّ شيء تكمن فيها على ضوء ما أوضحناه عن صورة الكنيسة ككيان إلهي/بشري رأسه المسيح الفادي والمخلِّص، وقد وشح كنيسته (العنصر البشري فيها) بسلطانه لمغفرة الخطايا، وبسلطانه لأداء الأسرار الخلاصية الإلهية، فإنه يمكننا أن نفهم أين تكمن عصمة الكنيسة. في فصل كامل ناقش الأب متى المسكين في كتابه "الكنيسة الخالدة"، موضوع "عصمة الكنيسة"(7)، فكتب يقول: [الكنيسة التي نعصمها عن الخطأ، ليست أشخاصاً، ولا أقوالاً لأشخاص، ولا حياة أشخاص؛ وإنما هي الطبيعة البشرية التي اغتسلت، بل تقدَّست، بل تبرَّرت باسم الرب يسوع وبروح إلهنا... والكنيسة قائمة الآن كامتداد حي للتجسُّد الإلهي وحلول الروح القدس، قائمة من طبيعتنا وفي طبيعتنا، قائمة بقوة الإنجيل، وقوة الأسرار، وعمل طبيعة ابن الله فيها. فكلمة الحق في الكنيسة ثابتة لا تتغيَّر، قائمة في الإنجيل، وطريقها للحصول على فعل الروح القدس والاتحاد بالرب ثابت لم يتغير، قائم كما هو في الأسرار. فبقدر ما نفهم هذا الحق، بقدر ما نتجنَّب الزلل. وبقدر ما نتمسَّك بالأسرار، بقدر ما نُعصَم من الخطأ. عشرون قرناً مضت على الكنيسة لم يتغيَّر فيها إلاَّ الأشخاص، وهي كما كانت أول يوم، قائمة بالإنجيل، حية بالأسرار، لم يوجد في إنجيلها خطية، ولا وُجد في أسرارها غش]. ومن هذا المنطلق والمفهوم المحدَّد، فإن الكنيسة المتبرِّرة والمتقدسة بكلمة الإنجيل وبالأسرار الإلهية، يمكنها، ككلٍّ، ممارسة عصمة الكنيسة، طالما هي متحدة فكراً بالمسيح (بكلمة الإنجيل) وكيانياً (باتحادها بالله من خلال الأسرار)؛ وطالما هي خاضعة خضوعاً كاملاً لرأس الكنيسة وأسقفها الكبير الأول الرب يسوع المسيح، الذي هو الحق (يو 14: 6)، وممتلئة من الروح القدس "روح الحق" (يو 14: 17؛ 15: 26؛ 16: 13) الذي يوجِّه الكنيسة ويُعلِّمها ويقودها إلى كل الحق. والكنيسة، كما يصفها القديس بولس، هي "كنيسة الله الحي، عمود الحق وقاعدته" (1تي 3: 15)، فهي المُفسِّرة والمعلِّمة للحق المسيحي، والتي تحرسه وتقتنيه طاهراً وتسلِّمه للأجيال غير مشوَّه. وبهذا تكون عصمة الكنيسة هي في ضمير الكنيسة ككلٍّ، وليس في فرد بعينه أو قسم من الكنيسة بعينه؛ بل في الكنيسة ككلٍّ: الإكليروس والشعب، المعلِّمون والخدَّام، الرجال والنساء، كل أعضاء جسد المسيح، الذين يُكوِّنون كمال وملء الكنيسة جسد المسيح. هذا الملء والكلُّ فقط هو القادر أن يستعلن عصمة الكنيسة بالصورة التي شرحناها سابقاً، فيتمجَّد اسم الله وسط العالم أجمع. وقد ترجمت دساتير وقوانين الكنيسة هذه المقاييس عملياً، بمحاصرتها أولاً أي ادِّعاء لفرد في الكنيسة أو مجموعة منها بادِّعاء العصمة. فجعلت، ثانياً، مجامع الكنيسة المختلفة متعاونة معاً (مجامع الأساقفة، والقسوس، والشمامسة، مع مقدِّمي وأراخنة الشعب، وكل متعلِّمي وعلماء الكنيسة من شعب الله) في تدبير الكنيسة بكل محبة، وتواضع، وخضوع كامل لشخص المسيح وحده ولوصاياه وتعاليمه، مذكِّرين بعضهم بعضاً، ومُنبِّهين بعضهم بعضاً على مثال الرسل الأوائل، حتى لا يبقى إلاَّ الحق، ولا يعلو إلاَّ اسم المسيح الحق الأزلي، والروح القدس مُعلِّم الحق. (يتبع) (1) العلاَّمة أوريجانوس - عظة 9 على نبوَّة إرميا - Migne, PG 13,349. (2) العلاَّمة أوريجانوس - عظة 20 على نبوَّة دانيال - Migne, PG 10,656. (3) القديس كبريانوس - مقال وحدة الكنيسة 6 - الرسالة 73: 21 - Migne, PL 3:1122. 4,502. (4) القديس كبريانوس - نفس المرجع السابق. (5) العلاَّمة كليمندس الإسكندري - كتاب: "المربِّي" 1: 6 - Migne, PG 8,281. (6) للأسف من الأسماء الأخرى التي صارت تُعمل مسرحيات عنها: "الشيطان". وقد انتشر هذا النوع من المسرحيات في كنائس متعددة، سواء في القاهرة أو المحافظات. وقد احتجَّت والدة إحدى الشابات على استخدام ابنتها لتمثيل شخصية الشيطان، حيث تُلقي بالكتاب المقدس على الأرض وتدهسه بقدميها، وطلبت من الكاهن إلغاء التمثيلية كلها، لأنها ضد التقليد المسيحي، وكان أن استجاب الكاهن لاحتجاج الأُم وألغى التمثيلية. (7) كتاب: "الكنيسة الخالدة"، الطبعة الخامسة: 2005، من ص 185-194. |