دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

من تاريخ كنيستنا:

-43-

الكنيسة القبطية في القرن التاسع

(خاتمة سيرة)

البابا يوساب الأول

البطريرك الثاني والخمسون على الكرسي الإسكندري

(822-840م)

- 5 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

 

+ هذه خاتمة سيرة البابا يوساب الأول الذي زخرت سيرته بأحداث كثيرة ومقاومات متنوعة، مما يدلُّ على أن حال الأقباط والإكليروس قد ازداد سوءاً على مدى 3 قرون (300 سنة) منذ الغزو العربي، وقد بدأت تتسلَّل إلى الكنيسة عادات وتقاليد وعلاقات ومؤامرات مع الولاة نتيجة الاختلاط بالرئاسات الوافدة من خارج البلاد التي لا تطلب شيئاً سوى الجزية والخراج والتمتُّع بخيرات وادي النيل.

+ وقد وقفنا في سرد سيرة البابا يوساب عند الرسول الذي وصل من بغداد حاملاً رسالة من الخليفة لإحضار رخام الكنائس من مصر والإسكندرية، وعمل ما عمل، والبابا تصرَّف بالروح المسيحية المفعمة بالمحبة حتى للمسيئين.

رسامة أسقف بدون رضاء الشعب:

حدث بعد أن تنيَّح أنبا إسحق أسقف أوسيم (الذي كان يُباشر أيضاً أسقفية مصر أي ”القاهرة“، وهو الذي كان يطلب منصب البطريركية قبل رسامة البابا يوساب الأول ورفضه الأراخنة والأساقفة، ثم رسمه البابا يوساب بعد ذلك أسقفاً على أوسيم)(1)؛ بعد أن تنيح هذا الأسقف قدَّم البابا يوساب الشماس ابن أندونة بناءً على سؤال أراخنة القاهرة ليكون أسقفاً على مدينة القاهرة، ورسم آخر اسمه بقيرة الذي تنيح بعد أيام قلائل من رسامته.

وكان للأسقف إسحق المشار إليه ابن اسمه ”تادرس“، هذا كان يسعى أن ينال الأسقفية على كرسي أوسيم، ولكن لم يرضَ به شعب أوسيم، ولم يرضَ الأب البطريرك أن يرسمه بغير اختيار الشعب (وهذا هو تقليد رسامة الأساقفة في الكنيسة القبطية باختيار الشعب). واحتال ”تادرس“ هذا وترك مخافة الله ومضى إلى الوالي المُعيَّن من قِبَل أبي إسحق الخليفة المُسمَّى بـ ”المعتصم“ أخي عبد الله المأمون وابن هارون الرشيد، ووعد الوالي بالمال (بداية الاستقواء بالسلطة المدنية مقابل الرشوة)، فوعده الوالي أن يضغط على الأب البطريرك، فرفض البابا يوساب قائلاً: ”لن يصير أسقفاً أبداً“. فحنق عليه الوالي، وبدأ في هدم كنائس القاهرة، وكان أولها الكنيسة التي في قصر الشمع التي تُسمَّى ”المُعلَّقة“. وبدأوا في هدم الجزء العلوي منها حتى وصلوا إلى وسطها. وكان الأب البطريرك حزيناً جداً ويبكي بدموع. وقد أشار عليه بعض الأراخنة برسامة الأسقف منعاً من هدم الكنائس، ويكون دم هذا الأسقف على رأسه وهو مسئول عن نفسه، فرفض البابا. وطالب الوالي بثلاثة آلاف دينار مقابل وقف هدم الكنائس. فبدأ الشعب يجمع المال، وتقدَّم الأراخنة إلى الوالي وضمنوا له القيام بسداد المطلوب، فهدأ غضبه، لكنه لم يتنازل عن رسامة الأسقف، فرسمه البابا أسقفاً. ثم بدأ البابا مع الشعب يُجدِّدون الكنائس التي هُدِمَت، فصارت أجمل مما كانت.

وأسقف يطلب ”ترقيته“(2) عنوة:

وكان أسقف القاهرة يلتمس من الأب البطريرك رفع درجته إلى ”مطران“ عنوة، وتعرَّف على قاضٍ اسمه ”محمد بن عبد الله“، وكان مخوفاً لا يقدر أحد أن يُقاوم كلامه، لأنه كان مُعتَبَراً عند جميع المسلمين مثل الفقيه والإمام، ولكنه كان ذا سيرة مذمومة من جهة السُّكر والجري وراء اللذَّة بلا خوف من الله ولا حياء من الناس. فأمر القاضي باستدعاء الأب البطريرك، وكان معه في ذلك الوقت أساقفة: ابن أندونة أسقف مصر، وأسقف تل بسطة قرب الزقازيق، وأسقف طحا قرب سمالوط، وأسقف أهناسيا مركز بني سويف، وأسقف البهنسا جهة بني مزار، وزخاريا أسقف البحيرة، وقوم آخرون. وتوجَّهوا جميعهم إلى القاضي.

فسأل القاضي الأب البطريرك: ”مَن جعل لك السلطان أن تكون رئيساً للمسيحيين“؟ فقال له البطريرك: ”الله“. ثم التفت القاضي إلى الأساقفة المذكورين وأسقف القاهرة معهم، وقال لهم: ”لا تسمعوا لهذا البطريرك من اليوم ولا تُسمَّوه أباً؛ بل اجعلوا لكم هذا (مشيراً إلى الأسقف طالب الكرامة عنوة) يكون مُقدِّمكم“. فأجابوه خائفين (يا للطامة الكبرى حينما يخاف الأساقفة من إنسان وليس الله): ”حسناً ما قلتَ أيها القاضي، وليكن ما أمرتَ به“. وكان ذلك باتفاق سابق منهم مع القاضي، إذ وعدوه بمالٍ. فقال الأسقف زخاريا أسقف البحيرة للبابا: ”أَمَا قلتُ لك بالأمس أن لا تمنع الأسقف أنبا أندونة أن لا يعمل جميع ما يهواه بأمر القاضي“؟ فأجابه أبونا أنبا يوساب وقال له بصوت مملوء رهبةً، وباللغة القبطية (وهذا معناه أن التخاطُب بالقبطية كان سائداً على الأقل بين رجال الإكليروس حتى القرن التاسع): ”يا غير الفاهمين كيف ضللتم هذه الضلالة؟ كيف قبلتم هذا الكلام؟ لكن حقاً ما تنبَّأ به عليكم بولس الرسول وأظهر جهلكم أنكم لم تطيعوا حقَّ الله“.

ولكن كان قوم من الفقهاء جلوساً عند القاضي ومنهم مَن كان يفهم اللغة القبطية، ربما لكونهم كانوا مسيحيين قبل ارتدادهم، وكانوا يُلاحظون نغمة الشدَّة والقوة في كلام البطريرك وهو يُخاطب الأساقفة؛ فأعادوا على القاضي ترجمة جميع ما قاله البطريرك. فلما سمع القاضي غضب، وقال للأب البطريرك: ”أنت تظن أن أمري لن يتم“؟ فقال له الأب البطريرك بصوت متضع: ”هل بمقدورك أن تضع يدك على الشمس وتستر ضوءها. فإن كنتَ تقدر، فإنك تستطيع أن تفعل ما قلتَ، أو تقدر أن تُقاوم الله وأمر مولاي الملك الذي أنت جئتَ من قِبَله. وقد سبق أن قلتُ آنفاً إن تقدمتي من الله وليس من إنسان. وأنا معي وثيقة من الخليفة بسلطان يدي عليهم. فالآن عليك أن تقول هذا الكلام لهؤلاء الأساقفة الذين ليس لهم عليَّ سلطان؛ بل سلطاني أنا عليهم من الله والخليفة، وعلى تنفيذ حُكمي في شعبي ورعيتي، ولي أن أقطع كل مَن حاد عن الطريق المستقيم“.

فلما سمع القاضي هذا منه، سأله: ”وهل بيدك سجلٌّ من الملك (الخليفة) أن تفعل ما تريد“؟ فقال أبونا البطريرك: ”نعم“. فطلب منه أن يُبرزه. وكان البابا معه وثائق من الخلفاء ابتداءً من المأمون بن عبد الله بن هارون الرشيد، ومن إبراهيم أخيه، وتجدَّدت هذه الوثائق من الوالي ”الواثق“ ابن إبراهيم؛ فسلَّم له البابا كل هذه الوثائق. فخجل القاضي وافتضح، وأمر الأب البطريرك بالانصراف مُكرَّماً.

فتعجَّب الحاضرون كلهم، وكان هناك أساقفة آخرون مطيعون للبابا البطريرك وهم: مينا أسقف طانة، وشنوده أسقف صا الحجر، وبقية الأساقفة، فكان البابا يوساب يُباركهم. أما الأساقفة الأولون المخالفون، فكان يقول لهم: ”يا ربُّ، لا تحسب عليهم خطيئة“!

- أمرٌ عجيب، ومَثَلٌ فريد، ومنظرٌ مخالِف للواقع المتردِّي. افتراءات ضد البابا البطريرك:

ولم يكد يَسْلَم البابا من هذه التجربة، حتى أثار عليه الشيطان غيرها. وذلك أنه كان من عادة البطاركة أن يبعثوا إرساليات إلى بلاد إثيوبيا ليستحضروا شباناً من هناك ليتعلَّموا قواعد الإيمان المسيحي، حتى يُعيدوا إرسالهم ليكرزوا بين المسيحيين وغيرهم في بلاد أفريقيا. فكان البابا يوساب يعتني بتعليم هؤلاء الشبان، وفتح لهم مدرسة في البطريركية، واهتم بأن يُقدِّم لهم جميع حاجياتهم.

ولكن بسعاية أسقف القاهرة المقطوع (بسبب طلب ترقيته مطراناً رغماً عن موافقة البابا البطريرك)، عَلِمَ القاضي بأمرهم، فأرسل مَن أتى بهم إليه من البطريركية بالقوة، واستدعى الأب البطريرك وعنَّفه مدَّعياً عليه أنه يختطف هؤلاء الصبية ليُحوِّلهم إلى المسيحية. فردَّ عليه الأب البطريرك أن هؤلاء المسيحيين أبناء مسيحيين، وقد أرسلهم لي ملوك الحبشة والنوبة بدلاً من بيعهم عبيداً. فلم ينصت له القاضي، بل أنزل الرعب في نفوس هؤلاء الصبية وجعلهم يشهدون بأنهم أسلموا، وعرض على البابا البطريرك أن يأخذ مالاً ثمناً لهم. فقال له البابا: ”إن كنتَ تريد أن تستعبد الأحرار، فما لي أنا في هذا، لأن هؤلاء أحرار وأعضاء من جسمي، والله يدينك بسببهم“. فأمر القاضي بقسمة الغلمان بين المسلمين. وصبر الأب على هذا الحزن، وكان يُصلِّي ليلاً نهاراً ويقول: ”يا رب، ليس من أجل خطيئتي ترفض شعبك“.

الرهبان يصلُّون من أجل البابا البطريرك:

ويذكر كاتب سيرة البابا يوساب الأول أنَّ في زمانه كان يوجد رهبان قديسون يصلُّون من أجل الأب البطريرك، بأن يهبه الصبر على ما يناله من التجارب. ويذكر اسم واحد من هؤلاء واسمه آمون يسكن في دير القديس يؤانس القصير؛ وآخر اسمه مينا السائح في جبل أرمون(3)، وقد أُعطِيَ روح النبوَّة، وكان يشفي جميع الأمراض، وشهد له جماعة أن له سلطاناً على الأرواح النجسة ليُخرجها من الناس.

وهذا يعني أن الرهبنة كانت ما تزال بخير، إن لم يكن كلها فعلى الأقل بعضها، وذلك بما تبقَّى فيها من آباء متوحِّدين وسائحين لا يطلبون إلاَّ وجه الله ولا يرزقهم إلاَّ الله.

تجارب جديدة على البابا البطريرك:

وفي السنة الخامسة عشرة من بطريركية البابا يوساب، توفي البطريرك الأنطاكي السرياني ديونيسيوس، وأُقيم عِوَضاً عنه آخر اسمه ”يوحنا“، كان رجلاً كاملاً. فكتب رسالة محبة إلى البابا الإسكندري كالعادة وأرسلها مع مطران أوفيمية ومطران حمص، فتلقَّاها البابا الإسكندري بسرور وقرأها على مسمع من الشعب.

وكان للقاضي المذكور نائب بالإسكندرية يفوق رئيسه شراً وظلماً، ويُدعى ”محمد بن بشير“. فأشار عليه بعض الأشرار أن يهين البطريرك أمام المطرانَيْن السريانيَّيْن، فأطاع مشورتهم، واستدعاه إليه مع المطرانين، وسأله عن الغلمان الذين أمره قاضي مصر بعدم قبولهم. فأجابه: ”لم أَرَهُم منذ أخذتموهم مني“. فأمر بأن يضربوه، فضربه الجنود على ”قفاه“ وهو مُطْرَق الرأس لا يرفعها، ولم يُسمع منه سوى قوله: ”أشكرك يا سيدي يسوع المسيح“. فبكى الشعب الواقف، وتعجَّب المطرانان من ثباته.

- وفي السنة الثامنة عشرة من بطريركيته، تولى على مدينة الإسكندرية شخصٌ يُدعى ”هرثمة بن نصر“، وكان ظالماً عاتياً. فأتى هو وسراريه إلى البطريركية، وأكل وشرب معهن. ثم قام وطاف جميع مساكن البطريركية حتى انتهى إلى المخدع الذي يضطجع عليه البابا، فطرده منه وأدخل سراريه ونام معهن.

- وبعد سماعه وشاية بأن ملوك الروم يعطون البطريرك مالاً وهو يُكاتبهم ويحثهم على المجيء إلى مصر، أمر باعتقاله في موضع ضيق، وعزم على معاقبته إلى أن يدفع 1000 دينار. وظل يُعذِّبه وهو صابرٌ، إلى أن استقر الحال على 400 دينار فقط. واستمر يُهدِّد البابا البطريرك حتى دفع المبلغ، ولم يكد يستلمه حتى أُذيع خبر موته بعد أن ضربه الله بمرض أصابه في أحشائه وكان الدم يتدفق من جسمه دون أن يستريح نهاراً ولا ليلاً.

وخرج البابا من السجن محفوفاً بالإكرام. واستمر مجاهداً محتملاً التعب والضيق والحزن والشدة، إلى أن أراد الله أن يُريحه من جميع أتعابه ويدعوه إلى المساكن النيِّرة ليكون في الحياة الأبدية. فاعتلَّ البطريرك بعد ذلك بحمى شديدة، وفي اليوم السابع من مرضه افتقده الرب وأخذه إليه، وتنيح في اليوم الثالث والعشرين من بابة سنة 840م، وكان يوم أحد وقت تناوله الأسرار المقدسة. وكانت مدة مقامه على الكرسي البطريركي الرسولي 18 سنة و11 شهراً. (انتهت سيرة البابا يوساب الأول)

 

(1) مجلة مرقس: يونية 2006 - ص41؛ أكتوبر 2006 - ص 43.

(2) بداية النظر إلى الرتب الكهنوتية بنظرة غير الخدمة والبذل على مثال المسيح، بل الأُبَّهة والسلطة والوجاهة، ومن هذه النظرة نشأت فكرة ”الترقية“ من درجة إلى درجة، بينما هي تُسمَّى في كتاب ”الرسامات الكهنوتية“ "انتداباً".

(3) وهي قرية قديمة عُرفت باسم أرميون بمركز كفر الشيخ، تمَّ تدميرها غالباً في أثناء قمع ثورات البشمور. وقد نزل أهلها سنة 1785م في قرية محلة الشيخ بالبحيرة، وأعطوها اسم منشاة أريمون.