تأملات في
شخص المسيح الحي
- 61 -



المسيح

ثالثاً: المسيح الملك القائم من بين الأموات (7)
جسد تغيَّر، ولكنه مُمجَّد:

إنَّ جسد المسيح القائم مـن بين الأموات كـان يوصف أيضاً بأنه ”جسد مُختلف“، إنه ”جسد مُمجَّد“ (في 3: 21)، إنه جسد الأبديـة، جسدٌ يستطيع أن يدخل والأبواب مُغلَّقة، وأن يخترق الجدران في أيِّ وقـت. والمسيح كان يَظْهَر للناس أو لا يَظْهَر، أو يختفي فجأةً. وحتى الذيـن يعرفونه جيِّداً لم يكونوا يتعرَّفون عليه سريعاً (لو 24: 15-16، 51).

+ ولكن بالرغم من كلِّ هذا، فإنَّ جسد القيامة كـان امتداداً واستمراراً للجسد الذي مـات على الصليب، وقد ظهرت في يدَيِّ الرب ورجليه آثار المسامير وفي جَنْبه آثار الحَرْبة التي طعنه بها الجندي الروماني.

+ وأحياناً كـان المسيح يَظهَر في حالة مجدٍ وتغيُّر. إنـه ليس فقط مجرَّد جسد ودم طبيعيَّيْن، بل وأيضاً هـو جسدٌ مُمجَّد، حسب شرح العلاَّمة أوريجانوس(1).

+ كل هذا وجسده هو نفس الجسد، فبالرغم من أنه كان يحمل آثار المسامير في جسده، إلاَّ أنه كان مُمجَّداً، ويحمل إشعاعاً من المجد الإلهي الذي فيه.

+ وقد أخطأَت ”مريم المجدلية“ في التعرُّف عليه يوم القيامة، إذ ظنَّت أنه ”البستاني“، إلى أن ناداهـا الرب: ”يا مريم“، فعرفته في الحال أنـه المسيَّا (يو 20: 15)!

+ والتلميذان اللذان كانا في طريق السَّفَر لم يتعرَّفا عليه في الحـال، إلى أن عرفـاه وهـو يكسر الخبز أمامهما (كما كان يفعل قبل موتـه)، إذ «أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَـنْ مَعْرِفَتِـهِ» (لـو 24: 31،30،16).

+ لقد كان قادراً على أن يظهر، وأن يختفي، أو يتحرَّك، مـا بين حالةٍ وأُخرى، مـع الحفاظ على شخصيَّته وهـو في الجسد الأرضي؛ تماماً كما كان يظهر فجأة وسط تلاميذه دون سابق إنذار (مر 16: 12؛ لو 24: 31؛ 1كو 15: 51-52).

جسد المؤمنين، وجسد القائم من الموت:

قيامة المسيح وقيامتنا: إنَّ حياة المسيح قادرة على تحقيق الحياة الروحية للمؤمنين: «وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ» (رو 8: 11).

+ كما يكتب القديس بولس في رسالته الثانية إلى مسيحيِّي كورنثورس: بأننا نعرف أنَّ «الذي أقام الرب يسوع من بين الأموات سيُقيمنا نحن أيضاً مع يسوع، ويجعلنا وإيَّاكم بين يديه» (2كو 4: 14 - الترجمة العربية الجديدة).

هل جسد الإنسان ودمه يرثان الملكوت؟ كردٍّ على هـذا السؤال، وكما وَرَدَ في الرسالة الأولى للقديس بولس إلى أهـل كورنثوس (15: 50): «إنَّ اللحم والدم لا يمكنهما أن يرثا ملكوت الله». ولكن القديس بولس لم يرفض قيامة الجسد، لكنه يقول بأنَّ المُذنبين بأعمال وخطايـا الجسد والدم ليسوا مُهيَّئين لينالوا الملكوت.

جسـد القيامة: ويكتب القديس بولس بأنَّ الرب في مجيئـه الآتي، سوف «يُبدِّل جسدنـا الوضيع، فيجعله على صورة جسده المجيد»، بما له من قدرة أنه «سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَـدِ مَجْـدِهِ» (في 3: 21). في ذلك اليوم، فإنَّ الذين يشتركون في قيامـة المسيح، سوف يشتركون في ”جسـده الروحاني“، الذي سوف يُقام في الخلود في غير فنـاءٍ: «وهـذه هي الحـال في قيامـة الأموات: يُدفن الجسمُ بفسادٍ (مائتاً) ويقومُ بغير فساد (خالـداً). يُدفـن بـلا كرامة ويقوم بمجدٍ. يُدفـن بضعفٍ ويقوم بقـوةٍ. يُدفـن جسماً بشريـاً ويقوم جسماً روحانيـاً. وإذ كـان هنـاك جسمٌ بشـري، فهنـاك أيضاً جسـمٌ روحاني» (1كـو 15: 42-44 - الترجمة العربية الجديدة).

الدوام، ولكن مـع تغيُّر الهيئة: جسد القيامة يتميَّز باستمرارية الجسد الأرضي؛ ولكـن هـذا الجسد، وفي نفس الوقت، ينال التحوُّل وقـد نال الحياة. فـالجسد العتيق بمثابـة ”البذرة“ بالنسبة ”للثمـرة“ [«الَّذِي تَزْرَعُـهُ لاَ يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُـتْ. وَالَّذِي تَزْرَعُـهُ، لَسْتَ تَزْرَعُ الْجِسْمَ الَّذِي سَوْفَ يَصِيرُ، بَلْ حَبَّةً مُجَرَّدَةً» (1كو 15: 37،36)].

+ قيامة المسيح تجعل مـن أجسادنـا القابلة للفسـاد، تجعلها أجساداً روحانيـة، حيث يصير الجسد مُقدَّساً بالروح القدس.

الجسد المُمجَّد:

مـن جسد نفساني، إلى جسد روحـاني: في القيامة، تغيَّر جسد المسيح من جسد طبيعي إلى جسـد روحاني. وفي الإنسان يصير جسـده في القيامة مُمتلئاً مـن الروح القدس، خاضعاً كُلِّيَّةً للروح. (ويفترق جسد المسيح عن جسد الإنسان، أنَّ المسيح قبل صَلْبه لم يكن الروح القدس مُفترقاً عنه)؛ كما أنَّ جسده كان حتى قبل قيامته يُسيطر على الطبيعة، كما نقـرأ عنه أنَّ تلاميذه أبصروه ”ماشياً على البحر“ (مت 14: 25).

+ وفـي الرسـالة الأولـى إلى مسـيحيِّي كورنثوس، يُقارِن القديس بولس مـا قبل القيامة (الجسد الطبيعي) مـع مـا بعـد القيامة (الجسد الروحـاني). فـالجسد الأول يتمـيَّز بالحيويـة البسيطة؛ والآخـر يتميَّز بخضوع الجسد للروح، أي رَوْحنة الجسد (1كو 15: 43-54).

+ فالجسد قادرٌ على أن يحيا بواسطة النفس، ويُلْهَم بالروح. النفس تُعطي الحياة للجسد الذي قد لا يستجيب؛ أمَّا الروح فهي تُلْهِم الجسد، وتسمح له أن يدخل في علاقة مع روح الله.

+ ففي هـذه الحياة الحاضرة، لو أنَّ الجسد يستجيب في الحال للنفس الحيوانية المُتدنِّية، فإنها في النهاية سوف تتشجَّع.

+ فـإن تغيَّر جسـد الإنسـان إلى الجسـد المُمجَّد، فسوف يُنعِم (الجسد المُمجَّد) على النفس بالقيامـة والخلـود، ويُنعـم عليها بالقـوَّة التي لا يقتنيها اللحم والدم طبيعياً، إنها القوة القادرة أن تجعل الإنسان يرث ملكوت الله.

+ إنَّ الجسـد المُمجَّد للذيـن حياتهم مخفيَّة في المسيح، هو جسدٌ روحاني، يُشبه جسد الرب الذي صعد إلى أعلى السموات (ولكنه يظلُّ إنساناً روحانياً فقط).

الجسد الروحاني: الجسد والنفس البشريَّان اللذان هما الوسيط لوجودنا البشري الحاضر، قد تحوَّلا في قيامة المسيح، إلى الجسد/ الروح؛ إلى الرباط بين جسد القيامة أو الجسد الروحاني وبين الروح الذي أقام المسيح من بين الأموات (رو 8: 11).

+ والجسد/ النفس الذي نعيشه نحـن الآن، والذي يفترق عن جسد ونفس الحيوان، يكمن في أنَّ الإنسان يقتني موهبة حرية الاختيار المُرتبطة بالحريـة الإنسانية. والجسد الروحاني هـو نفس الجسد الحالي الذي نلبسه، ولكنـه لا يرث الفساد (1كو 15: 50-53). الجسد الروحاني لا ينقصه الجسد المادي، لكنه جسدٌ في حالة مجد روحاني، إذا عاش الإنسان بحسب إنجيل المسيح.

التغـيُّر مـن الجسـد الطبيعي إلى الجسـد الروحاني: إنـه تغيُّر من عار الخطية وخِزْيها، ومن الضعف البشـري، ومن الفسـاد الأخلاقي، وأخيراً مـن الموت؛ إلى المجد، والقوَّة، وعـدم الفساد، وأخيراً، إلى الخلود (أي عدم الموت).

+ هذا الجسد المُمجَّد هو خاضعٌ لعمل الروح القدس: «وَيُقَامُ جِسْماً رُوحانِيًّا» (1كو 15: 44). وهذا الجسد المُمجَّد يقتني طاقة غزيرة، وسهولة القـدرة على التحـرُّك: «وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ» (1كو 15: 43). كما أنَّ هـذا الجسد المُمجَّد لا يتألَّم: «وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ» (1كو 15: 42).

+ وهذا الجسد نوراني: «حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ» (مت 13: 43). فحالة المجد هـذه التي في هـذا الجسد المُمجَّد، تستوفي كرامة عالية وقصداً روحانياً من الله.

الجسـد المُمجَّـد في السماء يتسامَى عـن الشهوات: الجسد القائـم مـن الموت لا يتزوَّج، بحسـب تعليـم المسيح: «لأَنَّهُـمْ فِـي الْقِيَامَـةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ» (مت 22: 30). ففي قيامة الأجساد لا يوجـد صراعٌ مـع الشهوات الجسدية التي كان المؤمنون في العالم والقدِّيسون يتعاملـون معها بالجهاد، كما يقـول القديـس أُغسطينوس(2).

الحيـاة المسيحيـة الحاضـرة في المسيح: المؤمـن المسيحي الآن يحيـا حياتـه مُتمسِّكاً بـالمسيح، أي ”مولود مـن فـوق“ بقوّة الروح القدس، مُجسِّداً ومُبشِّراً بـالأخبار السـارة عـن المسيح بالحياة الصالحة التي يعيشها، مُعلناً أخبار المسيح والخلاص الأبـدي الذي أتى بـه المسيح إلينا، واضعاً الرجاء في الحياة الأبدية أمام عينيه ليلَ نهار. وهكـذا يعيش في الحياة الجديدة على رجاء القيامة مع المسيح في آخر الزمان.

دليل القيامة، هل هو كافٍ؟

نختم هذا القسم من عنوان ”قيامة المسيح من بين الأموات“ بهـذا البحث العقلاني: هـل القبر الفارغ الذي دُفِنَ فيه المسيح، ثم وُجِـدَ فارغاً بالرغم من حراسة الجنود الرومان، هـو تبريرٌ كـافٍ لـدى الجماعة المسيحية القديمة منذ القرن الأول الميلادي، بأنَّ المسيح قد قام مـن القبر وهو مُغلَقٌ من الخارج وتحت حراسة الجنود الرومان؟

وللإجابة على هـذا التساؤل، يجب أن تكون الأدلة كمحاولة عادلة في ظِلِّ عـدم التحيُّز وفي مُحاولة غير مسبوقة.

ظَهَرَ لكثيرين:

إنَّ النصوص الواردة في الأنـاجيل الأربعـة تُبيِّن أنـه لابـد أن يكون هناك إيمان قبل رؤية الرب القائم من الموت.

+ ”توما“ التلميذ ”الشكَّاك“ للمسيح، كان لابد أن يقتنع بالرؤية قبل الإيمان، لأنه لم يكن حاضراً وقت مجيء المسيح للتلاميذ في المرة الأولى، فلما قالوا له بعد ذلك، قـال لهم: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ». ولكن بعد ثمانية أيام جاء الرب يسوع، وكان توما مع التلاميذ؛ فلما رأى كل شيء، آمن بقيامة الرب (يو 20: 24-29). وهكذا، فـإنَّ تلميذَي عمواس اللذين كانـا مُسافرَيْن ورأيـا المسيح في الطريق، لم يتعرَّفا عليه؛ ولكنهم عرفـاه عند كَسْـر الخبز حسب عادتـه، فانفتحت أعينهما، وآمنا (يو 24: 31،30).

+ ولا أحد يستطيع أن يقرأ العهد الجديد دون أن يهتمَّ بأن يفحص الآيات التي تُشير إلى الرب القائم من بين الأموات. فالأناجيل الأربعة تُسجِّل تقارير عديدة عن مثل هذه الأحداث.

+ لقد رأته مريم المجدلية وهي ذاهبة إلى قبره ومعها الحنوط، فلم تنتبه إلى شخص المسيح، وظنَّت أنـه البستاني (يو 20: 15). ونساء أُخريات رجعنَ مـن القبر (مـت 28: 8-19)، وكـذلك بطرس الرسول (لو 24: 34؛ 1كو 15: 5).

+ ثم رآه التلاميذ في العليَّة (فيما عدا ”توما“) (يو 20: 19-23)، ثم ظهر الرب لهم مرةً أخرى وكان معهم ”توما“، في الأحد التالي (يو 20: 26-28). ثم ظهـر الـرب للتلاميذ السبعة بما فيهم «سِمْعَانُ بُطْرُسُ، وَتُومَـا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، وَنَثَنَائِيلُ الَّذِي مِنْ قَانَا الْجَلِيلِ، وَابْنَا زَبْدِي، وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِـنْ تَلاَمِيذِهِ» على بحر طبرية (يو 21: 2،1). «وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِـدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى الآنَ. وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَـدْ رَقَدُوا» (1كـو 15: 6). «وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ» (1كو 15: 7). وكل هؤلاء شهدوا عياناً بصعود المسيح (مـت 28: 18-20؛ مر 16: 19؛ أع 1: 3-12). وقـد أضاف بولس الرسـول نفسه لهـذه القائمة (1كو 15: 8). ويذكـر سِفْر أعمال الرسـل أنَّ هـذه الظهـورات امتدَّت إلى 40 يومـاً (1: 3)، غير الظهورات التي لم تُسجَّل. (يتبع)

(1) Origen, OFP, pp. 252-54.
(2) Augustine, CG, FC 24, pp. 458-72.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis