دراسة الكتاب المقدس


مقدِّمات الأسفار
- 42 -

ثالثاً: الأسفار الشعرية
1 - سِفْر أيـوب (4)

(تكملة) أقوال آبائية عن السِّفْر:

27. التسبيح يليق بالله دائماً: [لأنه هو وحده القادر على كلِّ شيء، ويُلاحِظ كل مَن يتَّصف بالعقوق، ولكن توسَّلْ إليه، إذا كان بإمكانك أن تُسبِّحه تسبيحاً لائقاً (انظر أي 35: 14 حسب النص). إذا كان قد أقام محكمةً ونَشَرَ قراراته لكان لك أن لا تُسبِّحه ولكان لك أن لا تُمجِّده، كما يستحقُّ، إزاء ما قد حدث لك، لأنك لا تظنُّ أنك قد عُوقِبتَ ظُلماً. فإن كنتَ لستَ قادراً على مدح الله وحَمْده، كما يستحقُّ، فذلك ليس أَمْراً خطيراً جدّاً، ولكـن كوننا لسنا قادرين على حمده كما يَحِقُّ عند مثولنا أمامه، فهذا هـو حقّاً أَمْرٌ خطير](27) - القديس يوحنا ذهبي الفم.

28. السحاب يُمثِّل السماء: [في رأيي كأنَّ الله قد وَضَعَ في هذه المرحلة سحابة فوق هذا الرجل الصالح من أجل رفع أفكاره ولإقناعه بأنَّ ”ذلك الصوت“ جاء له ”من فوق“ («صوت الرب من العاصفة» - انظر أي 38: 1)، كما في حالة ”كرسي الرحمة“ الذي كان موضوعاً فوق تابوت العهد (انظر عد 7: 89). فبما أنَّ السحابة هي رمز للسماء، فهو كما لو كان الله أراد أن يضع السماء نفسها فوق أيوب، كما لو أنـه قد نَقَلَ عرشه إلى جوار أيوب. هذا ما حدث أيضاً على الجبل عندما استقرَّت عليه السحابة (أيام موسى النبي)، حتى نتعلَّم أنَّ «الصوت جاء من فوق» (انظر خر 19: 16). دَعنا نُنصِت جيِّداً، لأنه هو سيِّد الكون كله الذي يتكلَّم. دعونا نرى كيف يخصُّ أيوب. هل تراه يفعل ذلك بنفس الأسلوب الفج الذي للبشر؟ كلاَّ بالمرَّة. الآن نجد حلاًّ لجميع الأسئلة ال‍مُقلقة السابقة، للأصدقاء الأعزَّاء، التي سألها أيوب، والتي كُنَّا نحاول أن نجد لها حلاًّ](28) - القديس يوحنا ذهبي الفم.

29. المعنى الرمزي لوحيد القرن: [«أَيَرْضَى وَحيد القَرْن (الثَّوْرُ الْوَحْشِيُّ) أَنْ يَخْدُمُكَ؟» (أي 39: 9-11)، هذا الحيوان، كما هو مذكور، هو شبيه بالثور الوحشي، ويعيش في المناطق الاستوائية، وهو مُحَصَّنٌ بقَرنٍ واحد. ووحيد القَرْن هذا لا يخضع على الإطلاق للعبوديَّة في العالم. وفي هذا تلميحٌ خَفِيٌّ. ويُقال عنه إنه مُسلَّحٌ بقَرْنٍ واحد. لأن البار له حقٌّ واحدٌ (يتحصَّن به). كذلك النفس البشريـة تُقارَن بوحيد القرن، وهي يجب أن يتمَّ تعريفها على أن‍ها ذات قَرْنٍ واحدٍ طالما كـانت تقودها حركةٌ واحدةٌ إلى أعلى. وعلاوة على ذلك يُقال إنه لا يمكن القبض على وحيد القرن حيث إنَّ قوَّته وخطورته شديدتان. لكن الصياد البِكْر يمكنه أن يفوز به إذا أَسَرَته مُتعة الجمال. هكذا يتمُّ الإمساك بالنفس وقهرها بواسطة الأشياء التي تحبُّها](29) - القديس أفرام السرياني.

30. النعامة وفراخها رمزٌ لمعبد اليهود (أي 39: 13-18): [يبدو أنَّ نوع الأجنحة الموصوفة هنا يُشير إلى معبد أولئك الذين قادوا المسيح إلى الصليب. فمَن هي الأُم التي ولدتْ العديد من الأطفال، ولكن أطفالها ليسوا أولادها؟ بالتأكيد، لا يمكن إلاَّ أن تكون الأُم تلك التي أنجبت الأنبياء، ، وجاء من نسلها الرسل، ولكنهم ليسوا من أولادها. فكلٌّ من الأنبياء والرسل بعد أن تبنَّتهم الكنيسة تخلَّت عنهم أُمُّهم](30) - القديس أفرام السرياني.

31. النسر هـو المسيح (أي 39: 27-30): [النسر هـو المسيح، هـو الصخرة العالية، هـو الصليب. والصغار الذيـن يلعقون الدم هم أرواح القدِّيسين الذين يتغذَّون على دم المسيح ال‍مُتدفق من جنبه، هذا الدم هو أيضاً الذي يتمتَّع به أيضاً الأُمم من المؤمنين مثل صغار النسور من النسر السمائي](31) - القديس أفرام السرياني.

32. الغرض من تجارب أيوب (أي 40: 6-8): [إنه (الله) يتكلَّم هنا إمَّا عن تدخُّله الحالي كما لو كان يقول: أنا لا أتكلَّم هكذا لأجل إدانتك، ولكن لإظهار برِّك، أو هو يريد التحدُّث عن محاكمته من أجل الوصول إلى إعلان براءته. هذا يعني: ”لا تظُنُّ أنني أدرتُ الأمور ب‍هذه الطريقة لأيِّ سببٍ آخر“. فهو لم يَقُل: إنَّ ذلك كان من أجل أن تصير بارّاً، ولكن لكي أُظهِرَ برَّك، كما لو كنتُ فعلاً هكذا، لكي تُعلِّم الآخرين. وأخيراً، فإنَّ الله يرغب في الحديث عن تدخُّله الحالي كما لو كـان يقول: إذا قلتُ ذلك، فمِن أجل أن يُستَعْلَن برُّك بعد الكلمات التي عبَّرتُ عنها ليس لإدانتك. ثم إنه يضعه مرَّةً أخرى أمام قوَّته وكراهيته للأشرار. قائـلاً: لأنني لستُ قـويّاً فحسب، ولكني أتصـرَّف وأستخدم قـوَّتي ضـدَّ الأشرار](32) - القديس يوحنا ذهبي الفم.

33. خيرُ الله الكامل (أي 40: 6-8): [«أنا أسألك فتُجيبني» (أي 40: 7 حسب النص). يتمُّ حجز المكافآت الكبرى للنضالات بعد هذه الحياة لأولئك الذين قاتلوا بشجاعة. لكن نعمة الله تُقدِّم نوعاً من العربون للأبطال. لهذا السبب واجهت أيوب أصعب المعارك حينما خسر كل ثرواته وامتدح الله الذي أعطاه هذه الآلام. وبعد أن فَقَدَ أولاده قام بتمجيد ذاك الذي أخذهم منه. وبينما كان يُدرك أنَّ الديدان نمتْ في جسده لم ينهزم من قِبَل أمراضه. لقد أعطاه الله باكورات وعربون جهاداته من خلال التحدُّث إليه من خلال السحاب والرياح. وبعد أن كان قد استمع إلى خطابات الله السابقة عندما كان من الضروري التحدُّث إلى الله، ظل صامتاً كما لو كان لا يوجد لديه قُدرة التحدُّث معه. في الحقيقة لم يكن يعرف بعد ماذا كان سيكتبه موسى: «تكلَّم موسى وأجاب الله بصوتٍ» (خر 19: 19 حسب النص). لذلك فقد كان مثل شخصٍ لا يعرف أنـه لا يجب أن يُجيب على الله. لكـن الله مَنَحه المغفرة والصفح في الكـلام. فـإنَّ خيريَّة الله ظهرتْ في كونه لم يلعب دور القاضي بل دور المحامي الذي يُناقش القضية مع إنسان](33) - العلاَّمة أوريجانوس.

34. أيوب يتبرَّر عندما يديـن نفسه: «أنـدم في التراب والرماد» (أي 42: 6): [قـال الله له بوضوح: هل تعتقد أنني عاملتك بأيِّ طريقة سوى أن أجعلك تبدو بارّاً؟ كان هذا من أجل أن أجعلك تتحدَّث الآن وليس من أجل إدانتك، وهذا مُبرِّرٌ لكلِّ ما حدث مِن قبل. وفي الواقع، لم يكن قد تمَّ إنقاذه بعد من تجربته عندما تحدَّث الله معه هكذا. ولكنه كان لا يزال في خِضمِّ محنته عندما تراجع عـن موقفه، وهو يقول: إني لا أُعلِّق أي أهمية على نفسي، وإنما سأقوم فقط بعرض تبريـر الله فيما يتعلَّق بما حدث مـن قبل؛ ولم أكـن حتى مُستحقّاً لذلك. فعندما أَدان أيوب نفسه فـإنَّ الله بـرَّره. وماذا قـال الرب؟ لقد قـال لأصدقاء أيـوب، إنـه يجب عليهم الشعور بالذنب والاتِّصال بأيوب خادمه](34) - القديس يوحنا ذهبي الفم.

35. الأصدقاء يُقدِّمون ذبائح تكفير عن حماقتهم (أي 42: 8): [لم يكن يأمر الله بذلك إذا كان هناك ناموس، ولكن الآن صار (أيوب) كاهناً، في حين جَلَب (أصدقاؤه) قرابين. كـان أيوب يُقرِّب القرابين والذبائح لأجل أولاده، والآن هو يُقرِّب‍ها مـن أجل أصدقائـه. انظر كيف يُظهر الله أصدقاء أيوب كشهود على فضائل الرجل، ويُظهر بنفس القدر خطورة خطئهم من خلال الأهمية الفائقة لتقديم القرابين، فإنه لم يكن بحاجة إلى مثل هذه الضحايا العظيمة التي كُلِّفوا ب‍ها لو لم يكـن عصيان‍هم في غاية الخطورة. كما يظهر أنَّ الذبيحة المطلوبة لم تكن كافية، لأنه يقول: ”ولكن من أجله لَما كنتُ شفيتكم من ذنبكم“. وب‍هذه الطريقة يُظهر أنه قد غفر لهم كذلك، قائلاً أيضاً «كنتُ قد قضيتُ عليكم، ولكني لم أفعل ذلك من أجله، لأنكم لم تقولوا فيَّ الصواب كعبدي أيوب» (أي 42: 7 حسب النص). لاحِظ أنه على الرغم مـن أن‍هم يستطيعون التحدُّث بحماسة قدر ما يُريدون، إلاَّ أن‍هم مُتَّهمون بقول ما هـو ليس بصحيح، أو بالأحـرى، لم يتحدَّثوا بالحماس الصادق المناسب لله. في هذه الحالة لكان قد غَفَر لهم. هـذا هـو أيضاً السبب الذي مـن أجله هاجمهم أيوب. من خلال هذا نتعلَّم أنَّ الشخص الذي يتَّهم الصدِّيقين يجب أن يُكفِّر عن خطأ خطير](35) - القديس يوحنا ذهبي الفم.

36. «ثُمَّ مَاتَ أَيُّوبُ شَيْخاً وَشَبْعَانَ الأَيَّامِ» (أي 42: 17): [تُشير الكُتُب المقدَّسة إلى أنَّ الله زاد بمقدار النصف جميع ممتلكات أيوب باستثناء الأبناء. فمِن الواضح أيضاً، أنَّ مدَّة حياته قد زادت بمقدار النصف. فإذا كان قد عاش 170 سنة عندما أُنقذ من تجربته، فإنه يتَّضح أنه قد عاش مقدار 85 سنة بالإضافة إلى ذلك حتى ن‍هاية حياته، أي أنه عاش نصف الـ 170 سنة فوقها. والآن، إذا أَضفنا 85 سنة على الـ 170 سنة التي عاشها قبلاً، فيكون مجموع حياته على الأرض 255 سنة. إلاَّ أنه، في الواقع، أنَّ الكُتُب المقدَّسة تذكر أن أيوب قد عاش 248 سنة، وهكذا فإنَّ السبع سنوات التي أُسقِطَتْ من المجموع، هي السنوات التي قضاها في تجربته. ولسببٍ وجيه لم يتمَّ احتساب‍ها لأنه يبدو أن‍ها تنتمي لفترةٍ أقرب إلى الموت منه إلى الحياة](36) - القديس أفرام السرياني.

(+( (

وهكذا نرى أنَّ أيوب قد عرف الرب كفادٍ (أي 19: 25-27). وصرخ من أجل وسيط (أي 9: 33؛ 25: 4؛ 33: 23). ولقد أثار السِّفْر أسئلة ومشاكل، وأُجيب عليها في المسيح الذي هو «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» (عب 4: 15).

(يتبع)

(27) St Chrysostom: Commentary on Job 35: 11-16; PTS 35: 178.
(28) St. John Chrysostom: Ibid, 38: 1; PTS 35: 181.
(29) St.Ephrem the Syrian: Commentary on Job 39.9; ESOO 2: 17.
(30) St.Ephrem the Syrian: Ibid, 39.13; ESOO 2: 17.
(31) St.Ephrem the Syrian: Ibid, 39.27; ESOO 2: 27.
(32) St. John Chrysostom: Ibid, 40: 8; PTS 35: 188.
(33) Origen: Fragments on Job 28.7; PTS 53: 321.
(34) St. John Chrysostom: Ibid, 42: 6; PTS 35: 190.
(35) St. John Chrysostom: Ibid, 42: 8; PTS 35: 198-99.
(36) St. Ephrem the Syrian: Ibid, 42.16; ESOO 2: 19.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis