تأملات روحية



«لما جاء ملء الزمان
أرسل الله ابنه»
(غل 4: 4)

ملء الزمان:

عندما شَرَعَ الله في خَلْق الإنسان، خَلَقَه على صورته ومثاله، وأعطاه نصيباً في قوَّة كلمته، أي وهبه الإمكانية ليصير على مثال الصورة الإلهية التي جُبِلَ عليها، ولكي يحيا في شركةٍ حقيقية مع الله، إلى أن يصل إلى الاتِّحاد الكامل بالله. لقـد نَفَخَ الله في أنف الإنسان نسمة الحياة، التي قـال عنهـا القديس كيرلـس الكبير إنهـا ”الـروح القدس“؛ هذه العطية الإلهية التي تَهَـب الإنسان القـدرة على مُماثلة صورة الله التي خُلِقَ على شبهها، وتمنحه البنوَّة لله الآب في ابنـه الوحيد، ليصل إلى كمال الشركة في الطبيعة الإلهية.

هذه هي خطة الله من نحو الإنسان، وذلك من قبـل تأسيس العالم: «مُبَارَكٌ اللهُ أَبُـو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَـارَكَنَا بِكُـلِّ بَرَكَـةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّـاتِ فِي الْمَسِيحِ، كَمَا اخْتَارَنَـا فِيهِ قَبْـلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّـةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِـهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ» (أف 1: 2-5). فقد كان مـن المُفتَرَض - بحسب خطة الله - أن يتحقَّق ملكوت الله بواسطة الإنسان، عندمـا يتمُّ التطابُق بين الأصل الإلهي والصورة التي جُبِلَت على مثال هذا الأصل الإلهي.

ولكـن، للأسف الشديـد، لم يستمر الحـال كما وَضَعَ الله في خطته الإلهيـة، إذ خالَـف الإنسان وصية الله، ولم يخضع لأوامـره الإلهيـة، وفَصَم ربـاط المحبـة الذي يربطـه بـالله خالقه؛ وذلك عندمـا سمع وقَبِلَ كلمـات الغوايـة مـن الحيَّـة القديمـة - إبليس - وارتضى أن يصير إلهاً بدون نعمة الله؛ فسقط مـن النعمة الإلهية، وتعرَّى من الروح القدس الـذي نَفَخَه الله فيـه منذ خلقتـه؛ فتشوَّهت صورة الله التي جُبِلَ على مثالها، وفَقَـدَ المقدرة على مُشابهة هذه الصورة الإلهية. وعندئـذ، سـاده الفسـاد، وتسلَّط عليـه الموت، وبَدَأَت تدبُّ في أوصاله عوامل الفناء.

ولكـن الله الآب مـن فيض محبتـه لخليقتـه التي جبلها على صورتـه ومثاله، لم يتركها هكـذا يسـود عليهـا الفسـاد والمـوت، ويتسلَّط عليهـا الشيطان الذي له سلطان المـوت. فكـان العلاج الإلهي بأنَّ صورة الله الحقيقية الأصلية، أي ابن الله الحي، يتجسَّد ويصير إنساناً، مع بقائه إلهاً كما هـو بحسب طبيعته الإلهية. لأنـه - بحسب خطـة الله وعلمه السابق - فـإنَّ الصورة الإلهية التي خُلِقَ على مثالها الإنسان، والتي تشوَّهـت بفعل الخطية والتعدِّي، لا يمكـن إصلاحها، لا بواسطة ملاك أو رئيس ملائكة أو بأيِّ كائـنٍ آخـر أو بأيَّـة وسيلة أخرى؛ سـوى بأن يأتي كلمة الله نفسه إلى عالمنا الساقط، ويتَّحد بطبيعتنا البشرية، ويُشابهنا في كـلِّ شيء مـا خـلا الخطية وحدها، ويعيش معنا على أرضنا - كواحدٍ منَّا - ثم يتقبَّل في جسده الخاص المتَّحد بلاهوته مُعاناة الموت. وحينئذ يتقابل الموتُ مـع الحيـاة نفسها في ناسـوت الـرب المتَّحـد بلاهوتـه؛ فتَبتَلِع الحياةُ الموتَ الدخيـل، وتُمـيت المـوتَ نفسـه، وينتصر الرب بقيامتـه لحسابنـا على الخطية والمـوت ومَـن له سلطان الموت، ويُعيـد للإنسـان السـاقط بهـاء الصورة الإلهية التي جُبِلَ عليها، ويَهَـب روحـه القدوس للإنسان مرَّةً أخرى، ذلك الروح الذي ينقل للإنسان كلَّ ثمار عمل المسيح وبركات خلاصه الثمين.

وكما يقـول الكاهن في صلاة الصلح: ”يا الله العظيم الأبـدي، الذي جَبَـل الإنسـان على غير فسـاد. والمـوتُ الذي دخـل إلى العالم بحَسَـد إبليس، هَـدَمتَه بـالظهـور المُحيي الـذي لابنك الوحيد ربِّنا وإلهنا ومُخلِّصنا يسوع المسيح“.

إذن، كان لابد أن يتَّحد ابن الله - وهو صورة الله الحقيقية الأصلية - بالإنسان الذي جُبِـلَ على مثال هذه الصورة الإلهية، وذلك من خلال تجسُّده في ملء الزمان.

وعبارة ”مِـلء الزمـان“ تعني ”كمـال“ أو ”اكتمال“ الزمان. كمـا لـو أنَّ زمـان افتقاد الله للإنسان لم يَحِن بعد إلاَّ في الوقت الذي حدَّده الله سَلَفاً بحسب علمه السابق. فقد استكمل الله إعداد كلِّ شيء لكي يستقبل عالمنـا الساقط ابـن الله في الجسد، ليعتق الإنسان مـن قيود الخطية، وتسلُّط الموت، وسلطان إبليس المُتحكِّم في حياته. وليس ذلك فقط، بل وليُحرِّره من عبودية الناموس الجاثم على صـدره وكاهله، وخرافات الوثنية وأساطيرها التي تغلغلت في عقـول البشـر، وقيـود القوانين البشرية التي كبَّلت الإنسان وساقته كعبدٍ مأسور.

+ ويقـول الأب متى المسكين في شرحـه لعبارة ”ملء الزمان“:

[ملء الزمان، يعني انتهاء زمان الإنسان، زمان الخطية والشقاء واللعنة، ومجيء أيام الله: «أيام ابن الإنسان» (لو 17: 26)، «أنا اليوم ولدتُك» (عب 1: 5)، التي ليست مـن هذا الزمان بعد. وهي أيـام الخلاص والـبر والمُصالحة والحياة الجديدة التي لا تَمُتُّ إلى هذا الزمان. فهي بمثابة انفتـاح السماء على الإنسان لتلَقِّي روح حيـاة جديدة، ليست مـن هـذا الزمان، ولا مـن هذا العالم. حيث اليوم فيها بألف سنة زمـان، وحيث لا يولَد الإنسان بعد ليَدُبَّ على الأرض كحيوان الخِلْقة الأولى، بل يُولَد من فوق ليعيش لفوق... فأصبح وجودنا على الأرض هـو للعبور وليس للاستيطان بعد، العبور إلى الوطن الأفضل. لذلك فنحـن الآن، نعيش غربتنـا على أرض الشقاء بالجسد، أمَّا بالروح فنحن قُمنا لحياةٍ جديدة](1).

«لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ». معنى هذه الآية أنَّ الزمان كان خاوياً وفارغاً من نعمة الله، ولكن من خلال تعاقُب أحداث الزمان وتوالي مسارات التاريخ - كما رسمها الله - بدأ الزمان يأخـذ معناه، عندما اكتملت أحداث هـذا التاريخ الإنساني ووصل الزمان إلى مِلْئه واكتماله، كما حـدَّده الله بحسب علمه السابق. فقـد أرسل الله أنبيـاءه القدِّيسين ليتنبَّأوا بقُـرْب مجيء أزمنـة الخلاص، ووَضَع الكثير مـن الرموز والأحداث التي تُشير إلى زمـن المسيَّا. كمـا هيَّأ الله العالم لاستقبال ابنه الوحيد مُتجسِّداً، سواء مـن خـلال نبوَّات الأنبياء في العهد القديم، أو حكمة الفلاسفة والمُفكِّرين في العالم اليونـاني، أو حُكْم وسيطرة الدولة الرومانية التي وَضَعَت الكثير من القوانين التي تضبط معاملات ومعيشة الإنسان، وكـذلك بناء المدن الحديثـة وتعبيد الطُّـرُق التي تـربط أوصال الإمبراطورية المُترامية الأطراف.

«قد كَمَلَ الزمان، واقترب ملكوت الله»:

«قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ» هـذه الآية التي قالها الرب في (مر 1: 5)، تُشير كما لو أنَّ تدبير الله من نحو خلاص الإنسان، ورَدِّه إلى رُتبته الأولى مرَّةً أخرى؛ يتحقَّق على مراحـل متعدِّدة، إلى أن يقترب الموعد المُحدَّد لمجيء ابـن الله في الجسد، وحينئذ يكتمل زمن الخلاص بنزوله إلى عالمنا واتِّحاده ببشريتنا.

فالله، مـن جهة تدبيره الفائق وعلمه السابق، كـان يعرف مُسبقاً الوقت المُناسـب والمُعيَّن سَلَفاً قبل تأسيس العالم، لنزول ابنـه الوحيد إلى عالمنا وتجسُّده من أجل تكميل خلاصنا، وليفتدي الإنسان مـن الخطية والموت وسلطان إبليس، ولكي يسكب علينا بغنًي روحه القدوس، ويَهَبنا التبنِّي لله الآب في شخصه المُبارَك بالروح القدس المُعطَى لنا.

ونقول إنَّ الله سَبَقَ وحدَّد في مشورته الأزلية، زمان مجيء ابنه الوحيد إلى عالمنا مُتجسِّداً، وقد حدَّد هذا الزمان بعلاماتٍ واضحة، ورمـوزٍ ذات دلالات ساطعة، ونبـوَّاتٍ تُشير إلى اكتمال زمـان الخلاص بمجيء المسيَّا ابن الله في الجسـد. فتحقيق نبوَّات العهد القديم كـان مرهوناً بمجيء ابن الله في الجسد، وظهوره كإنسانٍ مُشابهاً لنا في كـلِّ شيء ما خلا الخطية، مع بقائه إلهاً. ففي شخصه القدوس اتَّحـدت الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشريـة بغـير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، ونقـول أيضاً بغير انقسام ولا افتراق بين الطبيعتين في شخصه الإلهي.

لقد انتهى زمان العبودية والخطية وسطوة الموت وسلطان إبليس، وبَـدَأ زمانٌ جديـد، نستطيع أن نقول عنه إنـه ”الدهر الجديد“، أو ”دهر النعمة“ أي نعمة الخلاص. فابـن الله الحي «الَّذِي إِذْ كَـانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ... أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِـدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ» (في 2: 6-9).

فإذا كـان هناك زمان الخِلْقة، فإن هناك زمان السقوط مـن النعمة، ويوجـد أيضاً زمـان تهيئة العالم لقبول التدخُّـل الإلهي مـن نحـو خـلاص الإنسان وتجديـد الخليقة العتيقة. ثم تكتمل هـذه الأزمنـة بـنزول ابـن الله إلى أرضنا وتجسُّـده، ليتحقَّق زمـان خـلاص الإنسان، وتأسيس ملكوت الله في القلوب أولاً ثم اكتماله في الأبدية السعيدة.

«الأيام الأخيرة»:

يُشير سِفْر التثنية بـوضوح إلى مجيء زمان المسيَّا قائـلاً: «عِنْدَمَا ضُيِّقَ عَلَيْكَ وَأَصَابَتْكَ كُلُّ هذِهِ الأُمُورِ فِي آخِرِ الأَيَّامِ، تَرْجِعُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِكَ وَتَسْمَعُ لِقَوْلِهِ» (تث 4: 30). وكـذلك سمع دانيال النبـي في الرؤيـا التـي رآهـا هـذا الصـوت: «... وَجِئْتُ لأُفْهِمَكَ مَـا يُصِيبُ شَعْبَكَ فِي الأَيَّـامِ الأَخِيرَةِ، لأَنَّ الرُّؤْيَا إِلَى أَيَّامٍ بَعْدُ» (دا 10: 14).

ويقـول بطرس الرسـول للجموع المحتشدة بعـد حلول الروح القدس، مُستشهداً بنبوَّة يوئيل النبي: «يَقُـولُ اللهُ: وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِـنْ رُوحِي عَلَى كُـلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُـمْ، وَيَـرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً» (أع 2: 17). ويقول بولس الرسول في رسالتـه إلى العبرانيين: «اللهُ، بَعْدَمَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُـرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ» (عب 1: 2،1).

كما يُصلِّي الكاهن في القدَّاس الإلهي: ”... لم تتركنا عنك أيضاً إلى الانقضاء، بل تعهدَّتنا دائماً بأنبيائك القدِّيسين. وفي آخـر الأيـام ظهرتَ لنا، نحن الجلوسَ في الظلمة وظـلال الموت، بابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومُخلِّصنا يسوع المسيح“.

+ ويقول الأب متى المسكين:

[... على أنه كان في عُرف اليهود العلماء أنَّ الزمن الحاضر هـو زمـن العجز والقصور وعدم الكمال والتجارب، وأنَّ الدهر الآتي هو زمـن الحُكْم العادل لله؛ ثم يضعـون ”أيـام المسيَّا“، إمَّا تبع هذا الدهر، أو الدهر الآتي. وأحيانـاً كانوا يضعونه بمفرده، كزمنٍ مُتميِّز عن الزمانين الآخرين (الحاضر والآتي).

ولكن الأمر الذي ساد على فكر علماء اليهود، أنـه بين الانتقال مـن هـذا الدهـر (الحاضر) إلى الدهـر الآتي، ستكون فـترة زمنية مملوءة بـالأحزان والأوجـاع كـآلام المخاض قبـل الولادة الجديـدة... لـذلك فـإنَّ الآبـاء الرسل كانـوا يستشعرون بهـذه الضيقة الروحية التي كانوا يعبرونها، وكانوا يصفون أيامهم باعتبارها ”الأيـام الأخيرة“... كما عبَّر عـن ذلك يوحنا الرسـول أنها الساعة الأخيرة: «أَيُّهَا الأَوْلاَدُ هِيَ السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ» (1يو 2: 18)... ومن هـذه التعبيرات المُتعدِّدة التي جاءت في أقوال الرسل عـن وصف الزمـان الأخـير، يُفهَـم فكران واضحان: الأول: هـو تعبيرهم حينئـذ عـن آخر النظام الحالي (أو الحاضر)؛ والثاني: عمل مُقارنة بين الحاضر الزمني والنظام في المستقبل (في تلك الأيام)](2).

إذن، مفهوم ”الأيام الأخيرة“، بحسب مـا جاء على لسـان بولس الرسول: «اللهُ... كَلَّمَنَا فِي هـذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ»، هي ”أيام المسيَّا“. وهـذه الأيـام الأخيرة - بحسب فَهْم علماء اليهود - هي الزمـان الوسيط بين هـذا ”الدهـر الحاضر“ وبين ”الدهـر الآتي“. وهي - بحسب الفَهْم المسيحي - على لسان بطرس الرسول، هي الأيام الذي يُتمِّم فيها ابـن الله المُتجسِّـد تدبـير الخلاص: مـن تجسُّده، وصَلْبه، وموته، وقيامته مـن بين الأموات، وصعوده إلى السموات، وجلوسـه عـن يمـين الآب بناسوته المُتَّحد بلاهوتـه، وإرساله الروح القدس؛ حتى تنتهي ”أزمنـة رَدِّ كـلِّ شيء“ (أع 3: 21)، أي تكميل كلِّ شيء وتجميع كلِّ شيء في المسيح يسوع، إلى أن يـأتي في مجيئـه الثانـي بمجـد أبيـه الصالـح والروح القدس!

(1) ”شـرح رسالـة القديس بولس الرسول إلى أهـل غلاطية“، الطبعة الأولى: 1996، ص 265.
(2) ”الرسـالة إلى العبرانيين - شـرح ودراسة“، الطبعة الأولى: 1993، ص 131-132.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis