|
|
|
«طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ،
لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ» (مت 5: 6)
أهمية الشهية للطعام وللروحيات:
يقول لنا الخبراء في الطب إنَّ أولئك الذيـن يُعانون من فُقدان الشهيَّة، يبدو عليهم دائماً الشبع الكامـل، لأن عُصارات وإفرازات مُعيَّنة تفيض معاً في الجـزء العلوي مـن المعدة. ولذلك فلا تكون لهم رغبة في الطعام الصحِّي، حيث تكون شهيتهم الطبيعية قـد تدمَّرت بتُخمة كاذبة. ولكن إذا استُعْمِلَ عـلاج طبي، تزول العصارات التي تسدُّ تجاويف المعدة بدواء مُليِّن، فترجع الشهيَّة الصحيَّة للطعام المُغـذِّي، لأن الوظائف الطبيعية لا تُعيقها بعـد مـادة غريبـة. وعندمـا يتناول المرضى الطعام بـدون إجبار على ذلـك، بـل برغبةٍ وشهيَّة؛ تكون هذه علامة على الصحَّة(2).
ولماذا أبدأ هـذه الافتتاحية؟ إن الكلمة (كلمة الله المُتجسِّد) الذي يُواصل بمراحل متتالية، يقتادنا باليد إلى خطواتٍ أعلى في سُلَّم التطويبات. وهو قـد رتَّب خطواتٍ جميلة في قلوبنا؛ وهكذا بعد المصاعد التي تمَّت في التطويبات السابقة، يُرينا خطوةً أخـرى بقوله: «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُـمْ يُشْبَعُونَ». فـأعتقد أنـه مـن الصواب بعد أن تكون التُّخمة الوفيرة قـد أُزيلت بقدر الإمكان، نكون قد امتلأنا بالشهوة المُباركة إلى ذلك الطعام والشراب، لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون قويّاً إن لم تُدعَّم عافيته بطعامٍ كافٍ، ولا يمكنه أن يأخذ طعاماً بدون أَكْـل أو يأكل بدون شهيَّة. إذن، فإنَّ العافية هي إحدى الأمور الجيدة للحياة. إنَّ العافية تبقى بـالشبع الكافي، والشبع يجلبه الطعام، ولكـن الأَكـل يعتمد على الشهيَّة. إذن، فـالشهيَّة لابـد أن تكـون شيئاً مُبارَكـاً للمخلوقات الحيَّة طـالما أنها هي أصـل وسبب عافيتنا. وبخصـوص الطعام المادي فلسنا جميعاً نتقبَّـل نفس الأصناف، ولكـن رغبات البشـر تختلف: فالبعض يحب الأصناف الحلوة، وآخرون يحبون الأصناف اللاذعة، وغيرهم يحب الصنف المالح. ولكـن يحـدث كثيراً ألاَّ يكـون تذوُّق الشخص هـو للأصناف النافعة له... (فالإنسان) إذا كـانت له شهيَّة لِمَا هـو صحِّي، يعيش في صحـةٍ جيـدة، لأن الطعام يـؤدِّي - في نفس الوقت – إلى خير الإنسان.
هكـذا أيضاً يكـون الحال بالنسبة إلى طعام الروح. فإنَّ شهية الجميع لا تكون لنفس الأشياء. فـإنَّ البعض يشتهي المجد أو الثروة أو الشهرة، وآخـرون تكون شهوتهم مائلة إلى مـا هو على المائدة، وآخرون أيضاً يشتهون طعاماً فيه ضررٌ لهم، كما أنَّ هناك البعض أيضاً يشتهـون أشياء طبيعتها جيِّـدة. والأشياء الجيِّدة بطبيعتها تكـون هكـذا للجميع وفي كـلِّ الأوقات، وهـو الشيء المرغوب في ذاتـه وليس شيئاً آخـر، والتُّخمة لا يمكن أن تُلغي جاذبيته إطلاقاً. وهكـذا فـإنَّ الكلمة يعتبرهم مُطوَّبين، أولئك الذيـن يجوعون وتكون شهوتهم متَّجهة نحو البرِّ الحقيقي.
ما هو البرُّ؟
إذن، فما هـو البرُّ؟ عندما يظهر جماله يمكن أن تثور فينا الشهوة إليه. يقـول المُفكِّرون الذين فحصوا هـذه الأمور، إنَّ الـبرَّ هـو المَيْل إلى التوزيع بالتساوي لكـلِّ واحـد حسب استحقاقه. فمثلاً، إذا كان إنسانٌ مسئولاً عـن توزيع نقود، فهو يُعتَبَر عادلاً إذا قَصَد الإنصاف وجعل العطية مُلائمة لاحتياجات الذين يتلقونها. والإنسان الذي مُنِحَ سلطة القاضي لـن يحكم بحسب الاستحسان أو عدم الاستحسان، بل إنه سيكون مُنقاداً بطبيعة الحال ويُعاقب الذين يستحقُّون العقاب بينما يُبرِّئ البريء؛ وفي أمـورٍ أخرى يُصدر حُكْماً بحسب الحقِّ. مثل هذا الإنسان يُسمَّى بارّاً...
ولكـن إذ أرفـع بصـري إلى نـواميس الله السامية، أتحقَّق من أنَّ المرء يحب أن يرى شيئاً في البرِّ أكثر سموّاً مِمَّا قد ناقشناه حتى الآن. إنَّ كلمة الخلاص تُمنح بالتأكيد كصالح عام للبشرية كلها، ولكـن ليس كـل إنسان يهتمُّ بالأمور التي ذكرنـاها. لأن قليلين فقط يُدعَوْن لكي يملكوا أو يحكمـوا لكي يقضوا أو تكـون لهم سلطة تدبير المال أو مصادر الدخـل الأخـرى، في حين أنَّ معظم الناس يكونون خاضعين للحُكَّام والمُدبِّرين. فكيف يمكـن، إذن، أن يقبل الإنسان ما لا يعني المساواة للجميع كبرٍّ حقيقي؟ لأنه إن كان، حسب كلام أولئك الذين هم خارج الحظيرة، الغرض من الإنسان البار هـو المساواة؛ ولكـن، من الناحية الأخرى، يستلزم التفوُّق عدم المساواة. فإنَّ هـذا التعريف للبرِّ لا يمكن اعتباره صحيحاً، لأنه يُفنَّد في الحال تماماً بعدم المساواة في الحياة.
فماذا، إذن، يكون البرُّ الذي ينتمي إلى الكلِّ، والـذي يجب أن يشتهيه الجميـع، والذي ينتمي لقائمة وصايا الإنجيل؟ فسواء كان الإنسان غنيّاً أو فقيراً، خادماً أو سيِّداً، من أُسرة نبيلة أو عبداً؛ فإنَّ حاله لا يُزيد أو يُنقص من نوع البرِّ. لأنه إذا كـان البرُّ موجـوداً فقط في إنسانٍ ذي سلطان وشهرة، فكيف أمكـن للعازر المسكين أن يكون بارّاً؟ فقد كان مُلقى خارج بيت الغَني، ولم يكن له ما يؤدِّي إلى البرِّ. لم يكن له قوَّة ولا سلطان ولا بيت ولا مائدة ولا أي شيء آخر يمكـن بـه أن يُنسب له البر في هذه الحياة. لأنـه إن كان البرُّ يتكـوَّن مـن التسلُّط أو تدبير أي شيء، فإنَّ أي واحـد ليس له هذا السلطان، يكون خارجاً عـن مجال البرِّ. ولكـن كيف يكـون إنسانٌ مستحقّاً للراحة الأبدية، وهـو ليس لديه تلك الأمور التي يتميَّز بها البرُّ؟ فيجب أن نبحث عـن ذلك النوع من البرِّ الذي يُبشِّر بثمره ذاك الذي يشتهيه.
إننا نحتاج إلى إقرار عظيم فيما يخصُّ الأمور العديدة والمختلفة التي نستعملها والتي تضطرنا الطبيعة البشرية إلى اشتهائها. لأنه يجب أن نُميِّز بين أنواع الطعام النافع والضار، وإلاَّ فإنَّ الطعام الذي تتناوله النفس قـد يؤدِّي إلى موتها. ولذلك فقد لا يكون مـن الخطأ أن نُوضِّح الشعور بذلك باستفسارٍ أكثر من الإنجيل.
إنَّ الرب الذي كان لديه كل شيء مثلنا ما عدا الخطية، والذي شاركنا في جميع آلامنا، لم يعتقد أنَّ الجوع خطيَّة. لذلك فهـو لم يأبَى أن يتحمَّل هـذه الخبرة، ولكنه قَبِلَ غريزة الرغبة الطبيعية في الطعام. وإذ ظـلَّ أربعين يوماً بدون طعام أصبح بعدها جائعاً، لأنه عندما رغب في الطعام سمح لطبيعته البشريـة أن تتصـرَّف بطريقتها الطبيعية. ولكـن عندمـا تحقَّـق أبـو التجارب (الشيطان) مـن أنَّ الرب أيضاً قد تأثَّر بالجوع، نصحه أن يُشبع رغبته بالحجارة (مـت 4: 3)! وهـذا يعني أنه يقلب الرغبة إلى الطعام الطبيعي إلى شيء خارج عـن الطبيعة. فما هو الخطأ في فلاحـة الأرض؟ وعلى أيِّ أساس تُرفض البذور ويُعتَبَر الطعام الذي تُنتجه مُحتَقَراً؟ ولماذا يحكم الشيطان على حكمة الخالق وكأنه لا يُطعم البشر جيّداً بالحنطة؟ فلو كانت الحجارة مُناسبة لإطعام الناس لكـان قـد عمـل الله منها طعاماً لأجـل الحياة البشرية. وهكـذا يُكلِّم الشيطان الآن أولئك المُجرَّبين مـن شهوتهم ويحثُّ الذين يلتفتون إليه أن يصنعوا مـن الحجارة طعاماً لهم. لأنه عندما تتعـدَّى الشهوة حـدود الاحتياج المشروع، فماذا يكـون ذلك سوى مشورة الشيطان الذي يرفض بـازدراء الطعام المصنوع مـن البـذور، ويُثير الشهوة إلى ما هو فوق حدود الطبيعة!
وما هو الجوع؟
فماذا يكون الجوع؟ إنه بالتأكيد الرغبة في الطعام الذي يحتاجه المـرء. وحينما تضعف العافية الجسدية يسدُّ الجسد احتياجه بتناول الغذاء الضروري. ومَـن يتغلَّب على تجربـة العدو لا يتخلَّص مـن الجوع الطبيعي وكأنه هـو سبب الشر، بل إنه يُزيل القلق الذي تجعله مشـورة العدو يختلط بالاحتياج، ويترك للطبيعة أن تضبط ذاتها داخـل حدودهـا. والكلمة يفحص ويُميِّز ما هو غريب عن الطبيعة بتأمُّله الرقيق والأكثر كمالاً. وهكذا فهو لا يهمل الجوع طالما أنه يحتاج إليه لحفظ الحياة، ولكنه يُقرِّر الأشياء الزائدة عـن الحاجة ويُلقيها خارجـاً، تـلك التي أصبحت ممزوجة بذلك الاحتياج، وذلك عندما يقول إنه يعرف خبزاً يُغذِّي بالحقيقة؛ لأن كلمة الله قـد جعله مُناسباً للطبيعة البشرية. فإن كان يسوع قد جاع، فلابد أنَّ جوعنا الذي هـو مثل جوعه، يكـون حقّاً مُبارَكاً. وبذلك، فإذا عرفنا ما هو الذي جاع إليه الرب، لعرفنا بالتأكيد أيضاً معنى التطويب الذي نهتمُّ به الآن.
وما هو الطعام الذي لم يخجل يسوع من أن يشتهيه؟ إنـه بعد حديثه مـع السامرية، قـال لتلاميذه: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يـو 4: 34)؛ ولكن مشيئة الآب واضحة، وهي أنه «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تي 2: 4). فحيث إنَّ الآب يُريد لنا أن نخلُص جميعاً، وإذا كـانت حياتنا هي في طعام المسيح، فـإننا نعرف كيف نستعمل حـالة جوع الروح هـذه. ومـا هي؟ هي أننا يجب أن نجـوع إلى خـلاصنا، وأن نعطش إلى المشيئة الإلهية التي هي أن نخلُص.
وأن نعطش أيضاً:
فـإذا اشتهى إنسانٌ بـرَّ الله، يكون قـد وجد مـا ينبغي حقّـاً أن يُشتَهَى. وهـو يُشبِع رغبتـه ليس فقط فيما يمكـن أن تتخـذه إحـدى أشكال هـذه الشهيَّة، لأن الرب يُريدنا أن نُشارِك في البرِّ فقط كطعامٍ، وإلاَّ فـإنَّ ذلك لا يكون كاملاً. فقـد دبَّـر الرب، مـن ناحيةٍ أخرى، أنَّ هـذا الـبر يمكـن أيضاً أن يُشرَب حتى يظهر اشتياق الرغبة الشديد في ألم العطش. لأنه عندما نكون عطشانين نكـون كأننا قـد أصبحنا محترقين مـن الجفاف؛ وهكذا نميل إلى الشُّرب بابتهاج يُطفئ هذا الظمأ... لـذلك يُوضِّح الكلمة الرغبة الشديـدة للصـلاح، ويُسمِّي أولئك الذين يتألَّمون مـن الجوع والعطش إلى البرِّ، مُطوَّبين بقوله: «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ». وهـل إذا تطلَّع الإنسان إلى أيَّة فضيلة أخرى لا يُعتَبَر مُطوَّباً؟ بل إنه يجب اعتبار أنَّ البرَّ هـو أحـد الفضائـل التي تُشتَهَى. والرب يَعِدُ الجياع والعطاش إليه بأنهم سيُشبعون.
... فنحن نتعلَّم من الرب هذا التعليم السامي: إنَّ الشيء الوحيد الموجود حقّاً وبثبات إنما هو غيرتنا على الفضيلة. لأنه إذا أكمل الإنسان نفسه بأيٍّ من الأمور السامية مثل العفَّة وضبط النفس والتكريس لله أو أي تعاليم إنجيلية سامية أخرى؛ فـإن فرحه بهذه الإنجازات لا يختفي سريعاً، ولكنه يكـون حقّاً صلباً وباقياً في حياتـه كلها. ولِمَ ذلك؟ لأن هـذه الأمور يمكن إنجازها باستمرار، فلا توجد لحظة في الحياة كلها نكون فيها مُعاقين مـن عمل الخير! لأنه يمكننا باستمرار أن نُمارِس ضبط النفس والطهارة، ويمكننا أن نكون مُخلِصين في كـلِّ ما هـو صالح ونمتنع عـن الشرِّ، طالما أننا نهدف إلى الفضيلة التي مُمارستها تجلب معها الفرح...
ولـذلك فـإنَّ الله الكلمة يَعِـدُ أولئك الذيـن يجوعـون (ويعطشـون) لتلـك الأمـور أنهـم سيُشبعون، وإذ يشبعون فـإنَّ شهوتهم لن تفتر بل بالحري تشتعل من جديد...
يبدو لي أنـه بواسطة أفكـار الفضيلة والبر يعرض الرب نفسه لشهوة سامعيه، لأنـه «صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» (1كـو 1: 30)؛ بل أيضاً خبزاً نازلاً من السماء وماءً حيّاً. وداود النبي يُقـرُّ بعطشه لذلك عندما يُقدِّم هـذا الاشتياق المُبارَك لله، فيقول: «عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَـرَاءَى قُدَّامَ اللهِ؟» (مز 42: 2)! ويبدو لي أنَّ قوَّة الروح قد أوصته مُسْبقاً، في تعاليم الرب السامية هذه، حيث إنـه قـال إنَّ شهوته سوف تُشبَع: «أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ» (مـز 17: 15). إنَّ الله الكلمة ذاته هـو الفضيلة التي غطَّت السماء، كما قال حبقوق النبي (انظر حب 3: 3)، وحقّاً إنَّ الذيـن يجوعون لبرِّ الله هـذا يُدعَوْنَ مُطوَّبين، لأنه إذا ذاق الإنسانُ الربَّ كما يقول المزمور (انظـر مز 34: 8)، أي إذا قَبِلَ الله في نفسه، يمتلئ بذاك الذي عطش وجاع إليه كما وَعَـدَ بقوله: «يُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (14: 23). فدعونا نجوع ونعطش إلى برِّ الله حتى نشبع به في المسيح يسوع ربنا، الذي له المجد إلى الأبد، آمين.
(يتبع)
(1) مُترجم من كتاب:
Ancient Christian Writers, Vol. 18, p. 85.
(2) وقـد تحقَّقنا مـن الأطباء أنَّ هذا يتفق مع الطب الحديث.