من تاريخ كنيستنا
- 173 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا كيرلس الخامس
البطريرك الثاني عشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1874 - 1927م)
- 4 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تكملة) تفاصيل الخلاف بين العلمانيين

ورجال الكهنوت حول إنشاء المجلس الملِّي:

بعد أن تقابَـل بطرس باشا غالي مـع البابا كيرلـس الخامس، واتَّفقا على نسيان مـا مضى وتعديـل لائحة المجلس الملِّي، بما يتَّفق ومكانـة وكرامة الأب البطريرك؛ ذاع خبر هـذا الاتفاق، مِمَّا كـان له صدًى مُفرح في قلـوب الأقباط، وبالتالي أَخَذَت رسائـل التهاني تنهال على الدار البطريركية وعلى بطرس باشا غالي.

+ وكنتيجة لهـذا الاتفاق، كـاد الخلاف أن يزول أَثَـره، والوئام يشتدُّ أَزْرُهُ، لولا أنَّ ذلك الاتفاق لم يكن مُلائماً لأغراض أعضاء المجلس الملِّي؛ فأرسلوا مندوبين، بعد كتابة الاتفاق بأيامٍ، إلى غبطة البطريـرك، لتقديم اقتراحاتٍ جديـدة، وطلبوا الردَّ عليها في مـدَّة يومٍ واحد. وهدَّدوا، في حالة عـدم الردِّ، بعمل ما يمكنهم عمله. فلم يشأ غبطة البطريرك أن يـردَّ عليهم؛ بـل كَتَبَ لبطرس باشا بقبوله فقط للاتفاق الذي أبرماه معاً، وأخبره أيضاً بتشبُّث رجال المجلس بطلباتهم.

+ وهكـذا انقطع حَبْل الوفـاق مـرَّةً ثانيةً، فأََسِفَت الأُمَّة لذلك، وعـادت إلى حزنها. فقـام غبطة البطريـرك حينئذ، وسافر إلى الإسكندرية ليُقيم هناك.

+ وفي 26 أغسطس سنة 1892م، أعلـن المجلس إلغاء ذلـك الاتفاق، وقـرَّر تعيين أسقف ”صنبو“ الأنبا أثناسيوس وكيلاً للبطريركية ورئيساً للمجلس. وأصدرت الإرادة السنيَّة (حاكـم مصر) قراراً بالموافقة. وتوجَّه مقار بـك إلى صنبو لتهنئة أسقفها بمركزه الجديد، وإحضاره معه؛ فأَبَى مُرافقته إلى القاهرة إلاَّ بطلب رسمي مـن وزارة الداخلية. فجاءته الموافقة على الطلب بعد ساعاتٍ، وكَتَبَ هو يُعلِن الأب البطريرك بذلك.

+ فأرسـل غبطة البطريـرك إلى أسقف بني سويف لينتظر أسقف ”صنبو“ الأنبا أثناسيوس على المحطة عند وصوله إلى القاهرة، ليُعلنه بالحَرْم إذا خالَف قوانين الكنيسة. وهكـذا انتظره حسب الأَمر، وأعلن له الحُكْم البطريركي. فلم يعبأ أسقف ”صنبو“ بـه، وقوبـل بمحطة مصر مقابلة رسمية، وكـان أعضاء المجلس الملِّي يهتفـون له قائلين: ”يعيش الأنبا أثناسيوس“. أمَّا غبطة البطريرك فأمر أسقف الخرطوم وأحد قسوس الكنيسة، بمَنْع أسقف صنبو مـن دخول البطريـركية. فاجتمع بعض الرهبان وفقراء الأحباش والخَدَم داخل البطريركية، وأغلقوا الأبواب الخارجية؛ ولكـن أسقف الخرطـوم رفض الاشتراك معهم في هذه المُقاومة، وظلَّ مُقيماً بمصر القديمة.

+ وقيـل إنَّ القسوس الذيـن رافقـوا أسقف ”صنبو“ توجَّهوا إلى البطريركية، فوجدوا أبوابها مُغلقة، فرجعوا على أعقابهم. وكـان الأولاد في الشارع يصرخون وراءهم قائلين: ”يا محرومون، يا محرومون“. أما أسقف صنبو فتوجَّه إلى دار ”عوض بك سعد الله“، ونزل ضيفاً حتى تُفتَح له أبواب البطريركية.

+ وعلى أَثَر ذلك، اجتمع بالدار البطريركية الأساقفة والكهنة الموجوديـن بها، وقرَّروا قَطْع الأنبا أثناسيوس مـن كامل وظائفه الكهنوتية، ثم كَتَب غبطة البطريرك حاشية في أسفل هذا القرار باعتماده. وكان الأب البطريرك قد كَتَب للمُطوَّب الذِّكْـر الأنبا باسيليوس مطـران كرسي أورشليم يُعْلِمه بما حصل من أسقف صنبو. فجاء الرد من نيافته تلغرافياً بوجوب معاملة هذا الأسقف حسب القوانين الكنسية.

+ ولمَّـا رأى أعضـاء المجلس أن أبـواب البطريركية (بالإسكندرية) مُغلقة في وجوههم، وأنَّ غبطة البطريـرك ومطران الإسكندرية موجـودان بالدار البطريركية؛ دعوا إلى تأخير إجراءاتهم حتى اجتمعوا في 26 مسـرى 1608ش/ 31 أغسطس 1892م، وشكَّلوا مجلساً روحياً مـن القسوس الذين انضمُّوا إليهم، وهم: القس بشاي خادم كنيسة حارة زويلة، والقمص جرجـس بشـاي خـادم كنيسة الدمشيرية، والقمص بولس جرجـس وكيل قضايا البطريركية، والإيغومانس (القمص) فيلوثاؤس رئيس الكنيسـة الكبرى (أي كنيسة البطريركية). وباتِّفاق المجلسَيْن (المجلس الملِّي والمجلس الروحي)، تقرَّر إبعاد غبطة البطريرك إلى ديـر البراموس، ونيافة مطران الإسكندرية إلى دير أنبا بولا. وأُرسِلَ القرار إلى مجلـس النُّظَّار (مجلـس الوزراء في وقتنـا الحاضر)، فأقرَّه المجلس سريعاً.

+ وبناءً على ذلك، توجَّه محافظ الإسكندرية يـوم الخميس أول سبتمبر 1892م إلى غبطـة البطريـرك، وأَعْلَمَه بهـذا الأمر؛ فقَبِله بسرور، ووَعَـدَ بالسَّفَر في الغـد. وأُحيطت البطريركية بالإسكندرية بالجنود. وفي صباح يـوم الجمعة، سافـر غبطة البطريـرك تاركاً لأرباب المجلس بالإسكندرية ألف ومائتي فنتو (وهي عُملة نقدية)، وأوصى أن لا تُصرَف، بل تكون وَقْفاً؛ كما ترك لهم بالقاهرة ثمانمائة فنتو وبعض القِطَع الذهبية، وساعة ذهبية أُهدِيَت له من إسماعيل باشا، وغير ذلك من الأثاثات الخاصة به، والتي لم يهتم بأَخْذ شيء منها، ومن ضمنها سجَّادته الخصوصية. أمَّا ملابسه، فقـد فـرَّق بعضها في الطريق، وفرَّق الباقي على الرهبان فور وصوله الدير.

+ ولمَّا وَصَل إلى محطة الطرَّانة، شاهَـد ”حمزة بك“ عمدة الطرَّانـة أنهم أعدُّوا للبطريرك جَمَلاً ليحمله إلى الديـر الذي كـان يبعد عـن المحطـة نحـو 24 ساعـة؛ وعَلِمَ ”حمزة بك“ ما يُعانيه غبطة البطريرك من الوَهَن، الأمر الذي بسببه لا يمكن للبطريرك أن يقطع المسافة راكباً جملاً؛ فـاستحضر جـواده الخاص وسار مـع البطريـرك إلى منتصف المسافة، ولم يرجع إلاَّ بإلحاحٍ شديد مـن البابا، ففارقه موَدِّعاً. وبعد أن استراح البابا بالدير قليلاً، خلع ثيابه، ولَبِسَ ثياب الرهبان، وساوَى نفسه بأقلِّهم، واشترك معهم في كافة الأعمال.

+ وكـانت بالديـر حديقـة، جعلها موضوع عنايته. وكـان يمضي جُـلَّ وقته عاملاً في غَرْس البـذور وتنقيتها وريِّها وحـرث الأرض، حتى أينعت المزروعات وصـارت روضة زاهرة. أمَّا نيافة مطران الإسكندرية، فأُخِذَ إلى القاهرة، ومنها إلى بني سويف، ومنها إلى دير القديس أنبا بولا.

+ هـذا، وبعـد ذلك، قـام أعضاء المجلس، تصحبهم قوَّة عسكريـة، لفَتْح أبـواب البطريركية. وعندمـا فُتِحَت، دخلها أسقف صنبو والإيغومـانس فيلوثاؤس، وأقاما بها. وقيل إنـه في يـوم الأحد 4 سبتمبر 1892م، أقـام أسقف صنبـو أول قدَّاس بالكنيسة الكبرى، وأُعطِيَ الإنجيل ليقرأ منه الفصل المُعيَّن لذلك اليوم. ولكنه تـلا خطأً فصلاً فحـواه خيانة يهوذا للمسيح وتسليمه إيَّاه. فنَبَّهه الإيغومانس فيلوثاؤس، فجَزَعَ لاسيما لمَّا تمثَّل نفسه أُسوةً بيهوذا الإسخريوطي؛ إلاَّ أنه لم يَكُفَّ عن تلاوة ذلك الفصل حتى انتهى من قراءته وهـو غائبٌ عـن الشعور، لا يدري: هل هو بالقاهرة أم بصنبو؟

+ كما أنَّ الإيغومانس فيلوثاؤس بينما كـان يرفع الأسرار المقدَّسة، سقطت الصينية مـن بين يديه؛ فتشاءم الكثيرون. ومن الغرائب أيضاً، أنه في نفس هذا اليوم، وقَعَ الكأس مـن يـد الكاهن الذي كـان يخدم بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية. وبعد أسبوع وقعت مبخرة البخور (الشورية) من يد الإيغومانس نفسه، حتى كادت تحرق السجَّادة. ومن كـل هذه الحوادث، استخلص الناس أنَّ الله غير راضٍ عن أعمال المجلس وأنصاره!

+ ومـا إن بلغت هـذه الحوادث ”الجمعية الأرثوذكسية“، حتى عملت على استثمارها؛ فكتبت منشـوراً تدعو فيه الشعب الأرثوذكسي أن يمتنع عن الصلاة مع ذلك الأسقف وكهنته المحرومين، وأن يتوجَّهوا للصـلاة بكنيسة الروم الأرثـوذكس بالحمـزاوي. فلبَّى كثيرون هـذا النداء، وكـانوا يتوجَّهون إلى كنيسة الـروم. وقـد أَظْهَر هـؤلاء الأروام الأرثـوذكس، عظيم سرورهـم، وجعلوا الصلاة باللغة العربية. وقيل إنَّ بعضهم تبرَّع ببناء كنيسـة ومدرسـة بالشماشرجي للذيـن ينفصلون عـن الكنيسة القبطية، وينضمُّـون لكنيسة الروم الأرثوذكس.

+ وهنا خشي أعضاء المجلس عاقبة هذا الأمر، وعوَّلوا على استدعاء الأساقفة مـن كـلِّ الجهات ليحلُّوا المحرومين. وكـان جُـلُّ الأساقفة قد تركوا مراكـزهم وانطلقوا إلى الأديـرة، وهم أساقفة: بني سـويف وإسنا ومنفلوط. ولم يستَجِب إلى دعـوة المجلس سـوى أساقفـة: المنيـا وأخميم وجرجـا وأسيوط؛ إلاَّ أنهم عِـوَضاً عـن أن يستجيبوا لطلب المجلس، أعلنوا موافقتهم لأحكام رئيسهـم غبطـة البطريرك، وجدَّدوا شَجْب المشجوبين؛ بـل امتنعوا عـن المـرور مـن الدَّرب الواسـع الكائنة بـه البطريركية، ونزلوا إلى عزبة دير أنبا بولا بدرب الجنينة. وبعد أن أقاموا بالقاهرة مدَّةً، لم يَنَلْ منهم في أثنائها أعضاء المجلس طائلاً، فعادوا إلى مراكزهم. وهكـذا تعطَّلت الشعائـر الدينية بالقاهـرة، إذ لم يقبل أحـدٌ أن يستدعـي أحـد الكهنـة المحرومين لإجـراء شعائـر الإكليل والتعميد والصـلاة على المُنتقلين، وغير ذلك.

+ ومِـن ثمَّ توالَى رَفْـع عرائض الاسترحام العديدة مـن أبناء الطائفة إلى الخديـوي بطلب استرجاع بطريـركهم يـوم السبت 19 بابـة 1609ش (1892م). كما تقدَّم وفـدٌ مـن أعيان الأُمَّة إلى مصطفى باشـا رئيس مجلـس النُّظَّار (مجلـس الـوزراء) رافعين نفس الطلب. فوَعَدَ مصطفى باشا الوفد خيراً. وبعد ذلك، تمكَّن نفس الوفد مـن مُقابلة الخديوي، وأعاد على مسامعه رغبة الأُمّة في رجوع بطريركها.

+ وبالجملة، فقد بَذَل الشعب مع الأساقفة كلَّ مجهودٍ لديهم في سبيل عـودة بطريركهم، حتى صَدَر أمـر خديوي كريم في 20 يناير 1893م، بالسماح بعودة غبطة البطريرك ونيافة المطران. فما إن ذاع هذا الخبر، حتى أُقيمت معالم الأفراح وبَدَا السرور على كل الوجوه، وانطلق كل لسان يشكر الله.

+ ووصل أخبار الأَمر الكريم مسامع غبطة البطريرك، وتوجَّه إليه مائتا نفس من أبناء الأُمَّة يـوم الخميس 26 طوبـة 1609ش (1893م)، وطلبوا منه أن ينزل من الدير يوم الاثنين ليُعدّوا له مكانـاً خاصاً يـوم الثلاثاء. ولكـن الظروف قَضَت أن يبرح الدير يوم الجمعة 27 طوبة.

+ وكـان العربـان طـوال الطريق يُنشدون الأنـاشيد، ويُطلقـون الرصـاص مـن بنادقهـم، ويركضـون على صهوات خيولهم، حتى وَصَـل الرَّكْب إلى محطة كفر داود. فـأَقْبَل الناس يلثمون (أي يُقبِّلون) يد غبطته، وهو يدعو لهم ويُباركهم.

+ وكـان الذيـن أتـوا لاستحضار غبطـة البطريرك قد صمَّموا على السَّفَر في قطارٍ خاص؛ فقـال لهم غبطته: إننا لا نُسافـر إلاَّ في قطار الرُّكَّاب. فـألحُّوا عليه كثيراً، فلم يقبل. وبينما هم كذلك، إذا بتلغراف يُفيد عـدم إمكان تجهيز قطار خاص! فأمرهم البابا أن يقطعوا التذاكر حتى يذهب لزيارة بعض أهالي تلك البلدة التي كانت تبعد عن المحطة مقـدار ثُلث ساعة. فالتمسوا منه أن يبقى لئلا يبرحهم القطار، فقال لهم: لا تخافوا، فسكتوا. وبينما هم في غاية الحَيْرة، قالوا لغبطته: لابد من إرجاء السَّفَر للغد. وبعد قليل، وصل إلى مسامعهم أنَّ بعض آلات القطار قـد تعطَّلـت، وأنَّ القطار سيتأخر عن ميعاده ساعتين؛ فتعجَّبوا، ومجَّدوا الله. وهكذا تمكَّـن غبطة البابـا ومَـن معه من السَّفَر صباح السبت 28 طوبة.

+ وكانت البطريركية مُزدحمة بألوف المُبتهجين بعودة بطريركهم، بينما كانت أجراس الكنيسة تدقُّ مُبشِّرة بقدومه. واستُقْبِلَ غبطة البطريرك في كـلِّ المحطَّات التي مرَّ عليها القطار استقبالاً عظيماً من الكهنة والشمامسة بالتراتيل.

+ أمَّا الاحتفال بقدومه إلى القاهرة، فحدِّث عنه ولا حَـرَجْ؛ حيث كـانت الجماهير تموج كـالبحر الزاخـر، وأصـوات الدعـاء للخديـوي ورئيس الوزراء، وصلوات غبطة البابا، تشقُّ عنان السماء.

(يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis