وجهٌ مُشرق، وابتسامة عذبة، كلمات معزِّية تُشِيع السَّلام في نفس كل مَن يسمعها: هذا هو الانطباع الذي يرتسم أمام عيوننا على الفور بمجرَّد أن يُذَكْر اسم ”أنبا إبيفانيوس“.
وُلِد تادرس زكي تادرس في مدينة طنطا – بمحافظة الغربية – يوم 27 يونيو 1954م، وبعد أن أنهى دراسته وتخرج في كليّة الطّبّ عام 1978، عَمِل كطبيب جراح أنف وأذن وحنجرة لبضع سنوات. بعد ذلك التحق بدَير القدِّيس أنبا مقار في 17 فبراير 1984، حيث سِيم راهبًا باسم ”الراهب/ إبيفانيوس المقاري“ وذلك في يوم سبت النُّور الموافق 21 إبريل من نفس العام.
نظرًا لتفانيه الكثير واستعداده للخدمة ودماثة خُلقه، رُشِّح – عن جدارة واستحقاق – للعناية بالآباء المرضى وخدمتهم ليس فقط داخل الدَّير، بل وأيضًا إذا استلزم الأمر السَّفر معهم للعلاج بالخارج، وعلى ذلك فقد اختير لمرافقة الأب متّى المسكين في رحلته إلى الولايات المتَّحدة الأمريكية عام 1997 لإجراء جراحة في القلب، ثمّ الأب يوحنَّا المقاري في رحلته العلاجيَّة إلى ألمانيا عام 2002، وأخيراً الأب لوقا والأب باناجياس في رحلتهما إلى ألمانيا عام 2008 للعلاج من السَّرطان. وبعد عودته من الرِّحلة الأخيرة، تابع خدمة هذين الرَّاهبين بمنتهى التَّفاني والإخلاص، إلى حتى يوم انتقالهما للحياة الأخرى.
لم تَغِبْ قدراتُه العقليّة الاستثنائيّة عن أبيه الرُّوحيّ الأب متّى المسكين، منذ دخوله الدَّير. فراح الأب يشجِّعه بحماس، وهو لا يزال بعد راهباً مبتدئاً على دراسة الآباء وتقليد الكنيسة، ويُزوِّده بالمراجع والكتب اللَّازمة. أمَّا الرَّاهب الصَّغير فقد دفَعَتْه محبَّتُه للتَّقليد إلى صرف السّاعات الطِّوال مُنْكبًّا على قراءة كتابات الآباء، والأدب الرَّهبانيّ القديم والدِّراسات اللِّيتورجيَّة. ولهذا فقد عُهِدَ إليه بعد فترة قليلة بالاهتمام بمكتبة الدَّير، وإليه يعود الفضل الأعظم في التَّسجيل الرَّقميّ لما تحويه من كتب.
دقَّتُه الفائقة جعلت منه شخصًا ملائمًا أشدَّ الملاءمة للمشاركة في مراجعة مطبوعات الدَّير. لذلك فقد طُلِبَ منه أيضًا المساعدة في العمل في المطبعة، الأمر الذي أتاح له أيضًا الفرصة كي يشارك في تحرير ”مجلَّة مرقس“ (وهي دورية شهرية تصدر عن الدير)، حيث كتب فيها العديد من المقالات جُمع بعضها فيما بعد في كتاب منفصل.
على صعيد آخر فقد أهَّلَتْه هذه المـَزيَّة عينها – أعني مَزِيَّة الدِّقَّة – وقدرته الكبيرة على المثابرة في العمل، لأن يكون جديرًا أيضًا بالمشاركة في قطاع حسابات الدَّير المالية. وقد استمر يباشر هذه المهمَّة – السَّقيمة نوعًا ما – على مدى سنوات طويلة امتدت منذ بداية التِّسعينيَّات وحتَّى نهاية حياته.
في عام 2002، وبسبب شيخوخة الرُّهبان الكهنة المنوط بهم إقامة الإفخارستيا، وتقدُّمهم في العمر، قام الأب متّى المسكين باختيار بعض الرُّهبان – ومن بينهم أبونا إبيفانيوس – لرسامتهم كهنة، لكي يُخَفِّفوا من العبء الواقع على كاهل الكهنة القدامى في الخدمات اللِّيتورجيَّة. وبالرَّغم من طلب أبينا إبيفانيوس بدموع إعفاءه من تقلُّد هذه الرُّتبة بسبب عدم استحقاقه، التزم – باضطرار الطَّاعة – أن يخضع لهذه الرِّسامة. مذ ذاك، وبسبب بساطته وروحانيَّته، كان يقع الاختيار عليه ومعه أبونا باناجياس، للاشتراك مع مدبِّر الدَّير (في ذلك الحين الأب كيرلّس المقاري)، في الصَّلاة في جميع الأعياد السَّيِّديَّة ومعظم أيَّام الآحاد السنوية. فكان أبونا باناجياس عقب كلِّ صلاة، يَفِرُّ إلى الحظيرة للقيام بحليب البقر، ليتخلَّص من أيّ أثر للمجد الباطل يكون قد لصق به، وأمَّا أبونا إبيفانيوس فكان يواظب هو الآخر لنفس هذا السبب على تقديم خدماته المملوءة اتِّضاعًا لكلّ من له احتياج.
كانت الفرصة متاحة له، بحُكم عمله كأمين للمكتبة، أن يتقابل مع شخصيَّاتٍ عديدةً من زائري الدَّير. وكان في استطاعة جميع هؤلاء أن يُقَدِّروا دماثته واتِّساع أفقه وانفتاحه، تلك الخصال التي كانت تُتَرجَم بابتسامةِ ترحيبٍ لا يعرف أحدٌ أن يحاكيها، كما يذكر الأب فيليب لوزييه، عالم القبطيَّات المشهور: ”كنتُ قد قابلتُه عندما كان أمينًا للمكتبة، ثمَّ رأيتُه مرَّة أخرى أبًا للدَّير وأسقفًا، فكان على الدوام هو هو كما عرفته مسبقًا، بنفس الابتسامة التي لا يعرف غيره أن يحاكيها“. كذلك لم يكن عسيرًا على أولئك الَّذين حظُوا بالحديث معه أن يقدِّروا اتساع آفاق معرفته، والَّتي، رغم ذلك، لم تمنعه من أن يَعتبر نفسه دائمًا مبتدئًا في كافة المجالات. فقد حدث ذات مرَّةٍ أنْ دُعِيَ إلى مؤتمر وطُلب منه أن يُلقِي إحدى الكلمات الافتتاحيّة، فأخذ مكانه على المنصَّة مع بقيَّة الشخصيَّات الهامّة. لكن في اليوم التَّالي رؤِيَ جالسًا بين الحضور في آخر القاعة، وعندما طُلِب منه أن يتقدَّم ليأخذ مكانه على المنصّة، أجاب ببساطة: ”بالأمس كنتُ مُحاضِرًا، واليوم جئتُ لأتعلَّم“.
في عام 2013، وبعد عمل اقتراع للأصوات بمبادرة من قداسة البابا، اختارته أغلبيَّة الرُّهبان ليكون أسقفاً ورئيسًا للدَّير، وعلى ذلك تمَّت رسامته أسقفًا بيد قداسة البابا تواضروس الثاني (يوم 10/3/2013، وتجليسه 18/3/2013م)، غير أنه ظلَّ على الدَّوام هو هو. فلم يَقبل مطلقًا أن يَعمل له أحدٌ ميطانية، وكان يقول لذاك الذي يُصِرّ على هذا: ”إنْ أنت سجدتَ أمامي، فسأسجد أنا أيضًا أمامك!“. بل وفي اللِّيتورجيّة كان يرفض أن تقال له الألحان التي تُرتَّل للأساقفة، ولم يجلس أبدًا على كرسيّ الأسقفيَّة، والَّذي لم يكن رغم هذا سوى كرسيٍّ بسيط، بل كان يجلس على الأرض كبقيَّة الرُّهبان. وفي الصَّلوات اللِّيتورجيّة بالدَّير كان يرفض أن يرتدي الملابس الفاخرة الخاصّة بالآباء الأساقفة، بل كان يكتفي بتونية بيضاء بسيطة مثل بقيَّة الخدَّام، وإن سأله أحدٌ عن السبب، كان يقول: ”هذه الملابس الفاخرة إنَّما صُنعَت لأساقفة الإيبارشيَّات، أمَّا في الدَّير فيجب علينا أن نحافظ على بساطتنا الرَّهبانيَّة“. وفي المناسبات التي كان ينبغي فيها أن يرشم بالزيت كلَّ واحدٍ من الحاضرين (مثل يوم جمعة ختام الصَّوم وليلة سبت النُّور)، ما كان لينتظر أن يأتيه كلُّ أحد، بل يأخذ هو بنفسه قنِّينة الزَّيت ويمرّ بين صفوف الرهبان ليدهن كلَّ واحدٍ منهم في مكانه. بالحقّ ِلقد كان يُجسِّد أمامنا صورة ذاك الذي قال لتلاميذه: «أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدُمُ» (لو 22: 27). وكان يَعتبر أنَّ مهمَّته الأساسيّة كأسقف هي أن يرأس خدمة قدّاس الأحد ويوزِّع جسد الرّبّ على مجمع رهبانه. وهذه كانت، في نظره، أفضل وسيلة يساهم بها في تحقيق القصد النّهائيّ من الخليقة كلها، وهو «انجماع الكلّ في المسيح» (أف 1: 10). ولهذا السبب كان حريصًا على ألا يتغيَّب أبدًا عن قدّاس الأحد، إلّا رغمًا عنه لدواعي السفر أو المرض، وكان يشجِّع رهبانه على السلوك بنفس هذا النهج. وبهذه التوجُّهات كان يُعتبر بحق سليلًا جديرًا لأساقفة القرون الأولى، أمثال إغناطيوس وكبريانوس وإيرينيئوس وبطرس خاتم الشهداء، واستحق أن يختم حياته بالاستشهاد وسفك الدم على غرارهم.
منذ السّنوات الأولى له في الدَّير، كرَّس الأب إبيفانيوس وقته لنساخة كتب ميامر القديس ”مار إسحق السرياني“ الخمسة على الكمبيوتر. ومن بعدها كتاب «بستان الرُّهبان»، مع تحقيقه على المخطوطات المتوفرَّة لدينا في الدَّير، وترقيم الأقوال المختلفة، وفوق هذا كله – وهو ما استنفد منه وقتًا طائلاً – اكتشاف ارتباط كلّ قول مع ما يقابله في المجموعات الأخرى لأقوال آباء البريَّة (أبوفثجماتا) في اللُّغات القديمة المختلفة([1]). وإنَّه لَمِنَ العسير علينا أن نُقَدِّر كم من الوقت صرفه في قراءة هذه المجموعات المتعددة، والَّتي منها ما يتألَّف من عدَّة مجلَّدات. إذ لم يكن عليه أن يقرأ وحسب، بل يتحتم أيضاً أن يكون شديد الانتباه كي يكتشف الأقوال التي لها مقابل في البستان العربي.
هذا العمل جعله يعيش في صُحبة آباء البرِّيَّة أيَّامًا طويلة، بل شهورًا، بل سنين. ونتيجة لعشرته الطويلة معهم، سرَت إليه منهم – إن جاز القول – العدوى، وانتهى به الأمر إلى مشابهتهم، في محبّتهم للوَحدة والسُّكون، وفي السَّلام الدَّاخليّ العميق الذي يشعّ من حوله، وفي نسكه الشَّخصيّ وفقر قلَّايته، وفي تواضعه ورفضه لكلّ نوع من التَّمجيد، وفي إنكاره لنفسه، وفي نَسْبِهِ لذاته أخطاء الآخرين، وفي امتناعه عن الرَّدّ على الإساءات، إلا بمزيد من المحبة واللطف([2]). لقد وَجد في روح آباء البرِّيَّة اللُّؤلؤة الكثيرة الثَّمن التي تقود مباشرةً إلى الملكوت وإلى الاتحاد بالمسيح. ومن أجل هذا، ولكي ينقل هذه اللُّؤلؤة إلى رهبانه، كان يُصِرُّ على أن يقرأ بنفسه «بستان الرُّهبان»كلَّ يوم في المائدة. وفيما هو يقرأ، كنَّا نرى أمام عيوننا تجسيدًا حيًّا لِمَا نسمعه، ممَّا كان يضاعف الفائدة. وكان يَعتبر أنّ هذه القراءة المشتركة اليوميَّة للبستان هي أفضل وسيلة – مع قدَّاس الأحد – لتوحيد الجماعة في روحٍ واحد.
([1]) هذا المجهود تكلَّل أخيرًا بإصدار أوَّل طبعة علميَّة لبستان الرهبان: الراهب إبيفانيوس المقاريّ، بستان الرُّهبان، مطبعة دير القدِّيس أنبا مقار، 2013. تتميَّز هذه الطَّبعة عن جميع الطَّبعات الَّتي سَبَقَتها بترقيم متسلسل للأقوال، ووجود جدول في نهاية الكتاب يضع أمام كلّ قول ما يقابله في المجموعات الأخرى لأقوال آباء البرِّيَّة (أبوفثجماتا)، في اللُّغات اليونانيَّة واللَّاتينيَّة والسِّريانيَّة والقبطيَّة والأرمينيَّة والإثيوبيَّة.
([2]) كانت مجموعة الرُّهبان المناوئة له في الدَّير قد كوَّنَت مجموعة مراسلة تليفونيَّة (Whatsapp)، لم تكفَّ فيها عن انتقاده، دون أن تراعِي دائمًا حدود اللِّياقة. وحينما كان الرُّهبان القريبون له يترجَّونه أن يأمر بإغلاق هذه المجموعة، كان يجيب ببساطة: «أنا أحترم حرِّيَّة الرَّأي؛ إنَّنا بالمحبَّة لا بالقهر ينبغي أن نربحهم».
ثاني مجالات اهتمامه، والَّذي حَظِيَ بعنايةٍ منه ليست بأقلَّ ممَّا لسابقه، هو دراسة اللِّيتورجيَّات القديمة. فقد بدأ يهتمُّ، وهو بعدُ راهبٌ صغير، بإيجاد النَّصّ اليونانيّ الأصليّ للقدَّاسات الثَّلاثة المستخدَمة حاليًا في الكنيسة القبطيَّة (قدَّاس ق. باسيليوس، وقدَّاس ق. غريغوريوس، وقدَّاس ق. كيرلُّس)، وانشغف أيَّما انشغاف بنكهة هذه النُّصوص في لغتها الأصليَّة، تلك النَّكهة التي تنقلنا لنعيش في زمن الآباء. من ثَمَّ فقد نشر هذا النَّصّ اليونانيّ، مصحوبًا بترجمة عربيَّة ومزوَّدًا بالكثير من الحواشي([1]). وفي دراسته لثالث هذه القدَّاسات (قدَّاس القدِّيس مرقس/كيرلس) لم يكتفِ بنَشْر النَّصّ اليوناني مع ترجمة له، بل قام بدراسة كلَّ الأشكال البدائيَّة التي وصلَتنا لهذا القدَّاس في المخطوطات القديمة (مثل مخطوطات ستراسبورج، ودير البلايزا، وفيينا، وبرشلونة، وأخريات عن أصول هذا القداس)، وهكذا فالقارئ مدعوٌّ لأن يسافر معه عبر الزَّمن، ويزور الجماعات المسيحيَّة القديمة، ويَحضُر قدَّاساتِهم، ويتذوَّق حرارة إيمانهم وبساطته. وقد أثار انتباهه كذلك مصدرٌ ليتورجيٌّ آخر بالغ الأهميَّة، وهو الخولاجي الكبير للدَّير الأبيض، وكان الأب عمَّانوئيل لان Dom Emmanuel Lanne قد نشره سابقًا بالقبطيَّة مع ترجمة فرنسيَّة. وقد استمال هذا المخطوط اهتمام أنبا إبيفانيوس لما وجده فيه من القدَّاسات القديمة التي كانت تُشَكِّل جزءًا من ميراثنا اللِّيتورجيّ، لكنَّها فُقِدَت فيما بعد (مثل قدَّاس القدِّيس متَّى، والقدِّيس توما، وتيموثاوس بطريرك الإسكندرية، وآخرين). فقام بين عامَي 2010 و2013 بنشر مُحتوَى هذا الخولاجي، باللُّغة القبطيَّة الصّعيديّة واللُّغة العربيَّة، في حوالَي عشرة مقالات، في مجلّة مدرسة الإسكندريّة، ثمَّ قام بعد ذلك بتجميع كلّ هذه المقالات في كتاب واحد في عام 2014([2]).
([1]) الرَّاهب إبيفانيوس المقاريّ، القدَّاس الباسيليّ، مطبعة دير القديس أنبا مقار، 2011. السَّابق، القدَّاس الغريغوري، مطبعة دير القديس أنبا مقار، 2013. أنبا إبيفانيوس، قدَّاس القدِّيس مرقس (القدَّاس الكيرِلُّسي)، مطبعة دير القديس أنبا مقار، 2015.
([2]) أنبا إبيفانيوس، خولاجي الدَّير الأبيض، مدرسة الإسكندريّة، القاهرة، 2014.
مجالٌ ثالثٌ استقطب اهتمامه، بجانب التقليد الرَّهباني واللِّيتورجيّات القديمة، هو دراسة علم الآباء. فكما قلنا آنفًا إنَّه منذ دخوله الدَّير قد تلقَّى تشجيعًا من الأب متَّى المسكين على التَّبحُّر في دراسة التَّقليد وآباء الكنيسة، وكابنٍ مطيع لأبيه الرُّوحيّ، انكبَّ الرَّاهب الشاب، دؤوبًا، على دراسة الكتب الأساسيّة لعلم الآباء وتاريخ العقيدة، مثل كتب كواستن Quasten، وكيللي Kelly، وتورانس Torrance، وبريستيجPrestige ، وميرش Mersch، وغيرها الكثير. وبهذا استطاع أن يُقَدِّر الغِنى اللَّاهوتيّ والرُّوحيّ لآبائنا، وكذلك المسافة التي تفصلنا عنهم، والَّتي يُعتبر أحد أهمّ أسبابها هو اختلاف اللُّغة، وبالتَّالي اختلاف الثَّقافة وأسلوب التَّفكير. وكان قد سمع أكثر من مرَّة من أبيه الرُّوحيّ (الأب متَّى المسكين) كيف أنَّنا فقدنا لغتنا مرَّتين: الأولى على أثر مجمع خلقيدونية (451م) بفقدنا التدريجي للُّغة اليونانيَّة، والثَّانية على أثر دخول العرب (640م) بفقدنا أيضًا اللُّغة القبطيَّة على مرور الزمن، وهكذا أمسَينا كأطفالٍ لا يعرفون لغة آبائهم. وهذا الإدراك يفسِّر لماذا بذل أنبا إبيفانيوس جهودًا حثيثة لإتقان اليونانيَّة، ولماذا كان يُشجِّع رهبانه كلَّ التَّشجيع على دراسة اليونانيّة وبقيَّة اللُّغات القديمة، حينما صار أسقفًا فيما بعد. لقد قدَّم لنا برهانًا جليًّا على نهجه هذا في كتابه مفاهيم إنجيليّة([1])، الذي يشرح فيه معنى اللَّفظة اليونانيَّة المستخدمة في العهد الجديد، ثمَّ يستعين بأقوال عديدة للآباء لكي يقدِّم مفهوم هذه الكلمة بكلِّ أبعاده. أمَّا بالنِّسبة للعهد القديم، فلقد وَعَى جيِّدًا أنَّنا لسنا نقرأ بعدُ نفس النَّصّ الذي كان يقرأه الآباء، ولكي يوازن هذا، بدأ مشروع نشر نَصّ التَّرجمة السَّبعينيَّة اليونانيَّة مع ترجمة عربيَّة مقابلة في عمودَين. وقد دشَّنَ هو نفسُه هذا المشروع الضَّخم، بإنجازه أسفار التَّكوين والخروج وإشعياء (هذه الأخير تحت الطَّبع)، ومن ناحيةٍ أخرى شجَّع رهبانًا آخرين من ديره ومن خارج ديره لاستكمال باقي الأسفار، بل وبدأ بالفعل في مراجعة بعضٍ من إنجازاتهم.
([1]) السَّابق، مفاهيم إنجيليَّة، مطبعة دير القدِّيس أنبا مقار، 2017.
لقد نالت العلاقة مع المسيحيِّين من الكنائس الأخرى، الشيء الكثير من اهتمام الأنبا إبيفانيوس. فانفتاح روحه، وثقافته الواسعة، واحترامه لرأي الآخر، ودماثة أخلاقه، كلُّ هذا كان يُعدُّه أفضلَ إعدادٍ لهذا المجال. ولهذا السبب فقد وقع عليه الاختيار من قِبَل قداسة البابا تواضروس الثَّاني، فيما يقرب من عشرين مرَّة خلال فترة حبريته القصيرة لكي يمثل الكنيسة القبطيَّة في المؤتمرات والنَّدوات المختلفة، فكان يُشَرِّف كنيسته دائمًا فيها ويقدِّم عنها صورةً صادقة ًوجذَّابةً في آنٍ واحد. وكتلميذٍ أمينٍ للأب متَّى المسكين، كان مقتنعًا أنَّ الوَحدة المسيحيَّة تحتاج أن تُعاش قبل أن تُناقَش: ”منطق الإنسان هو أن تُرفَع الفوارق أوَّلًا فتتمَّ الوَحدة. أمَّا منطق الله، كما ينطقه الوحي في الأصحاح الثَّاني من رسالة أفسس «جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا، نَاقِضًا حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطِ» (أف 2: 14)، فهو أن تتمَّ الوَحدة أوَّلًا فيُنقَض حائط السِّياج المتوسِّط“([1]). وهذا هو السبب وراء اهتمام الأنبا إبيفانيوس، في كلِّ الاجتماعات التي كان يشارك فيها، أن يعيش الوَحدة وشَرِكَةَ المحبَّة مع زملائه، أكثر من أن يدخل معهم في جدالٍ. فقد حدث مرَّةً، عندما كان في دير ”بوزي“ في إيطاليا أنه كان يتناول وجبته مع الآباء الأساقفة الآخرين وممثِّلي الكنائس المختلفة، أنْ قال لهم: «ها نحن جالسون معًا على نفس المائدة ونشترك بالمحبّة في نفس العشاء، فما الذي يمنعنا أن نشترك معًا في مائدة الرَّبّ؟». ودَفعةً أخرى، وكان ذلك أيضًا خلال جلسةٍ في ”بوزي“، تطرَّق الحديث إلى انقسام الكنائس، وما هي أسبابه، وما الذي يمكن عمله لحَلِّ هذه الخلافات. وبينما كان النِّقاش حامِيَ الوطيس، كان الأنبا إبيفانيوس يجلس في هدوء محتفظًا بصمته، وفي نهاية الأمر قال مقرِّر الجلسة: ”هلُمَّ نَرى ما لآباء البرِّيَّة أن يقولوه بخصوص هذه المشكلة“، وأَعطى الكلمة للأنبا إبيفانيوس. فإذا بالأخير يجيب قائلًا: ”اغفروا لي، فما أنا بلاهوتيّ، ولستُ أفهم شيئًا في الخلافات، بل إنِّي أفهم فقط في وَحدة الكنيسة“، فما كان من الجميع إلَّا أن ظلّوا يصفِّقون لهذه الإجابة عِدَّة دقائق متواصلة. وقد أفْضى لبعض الإخوة في ”بوزي“ بإحدى قناعاته الداخلية قائلًا: ”حينما يتقدَّم لي مسيحيٌّ مُعَمَّد للتَّناول من جسد المسيح، ويكون له إيمانٌ أنَّ هذا هو بالحقيقة جسد المسيح، فليس من حقِّي أن أمنعه عنه“. ولكن بالرِّغم من هذا، فإنَّ فهمه للشَّرِكَة الكنسية كان يجعله يلتزم بقرارات مجمع أساقفة كنيسته، مما كان يُسبِّب له تمزُّقًا داخليًّا في كلِّ مرَّة يتعرَّض لمثل هذا الموقف.
([1]) الأب متَّى المسكين، الوَحدة المسيحيَّة، الطَّبعة الثَّالثة 1985، ص 12. وفي موضعٍ آخر يعود الأب متَّى المسكين لنفس هذه الفكرة، إذ يقول: «يتحتَّم … أن نعيش معًا في جوهر العقيدة الواحد قبل أن نتَّفق على المضمون» الوَحدة الحقيقيَّة ستكون إلهامًا للعالم، الطَّبعة الثَّانية، 1988، ص 8.
والآن يمكننا أن ندرك مقدار فداحة الخَسارة التي أصابتنا، ليس على مستوى دَيرنا أو الكنيسة القبطيَّة وحسب، بل وعلى مستوى الكنيسة في العالم أجمع، جسد المسيح بكامل أبعاده. لكنْ يبدو أنَّ الأنبا إبيفانيوس كان من نوعية هؤلاء الأشخاص الَّذين قال عنهم الكتاب إن «الْعَالَم لم يَكُنِ مُسْتَحِقًّا لَهُمْ» (عب 11: 38). لقد حَكَمَ الرَّبُّ هكذا: إنَّه من العلاء سوف يكون له تأثير أعظم ممَّا لو كان قد بَقِيَ بيننا. سيمكنه أن يخدم الكنيسة التي أحبَّها بمثل هذا الحب بشكلٍ أفضل. فلنؤمن أنَّ الرَّبَّ يعرف ما هو نافع أكثر منَّا، ولنتعلَّم أن نَبسُطَ أيدِيَنا نحوه، كما علَّمَنا أنبا مقار، الذي صار له أنبا إبيفانيوس ابنًا جديرًا بأبيه، ونقول معهما:
«يا ربُّ، كما تحب، وكما تريد»([1]).
([1]) بستان الرهبان، قول رقم 53. وأقوال آباء البرية باليونانية، المجموعة الأبجديَّة، القدِّيس مكاريوس، القول 19.
الصفحة تحت الإنشاء
الصفحة تحت الإنشاء