الكلام عن أبينا اللابس الروح القمص متى المسكين ليس بالأمر الهين، فهو لا يكفيه آلاف الصفحات ولا عشرات المجلدات، ومهما كتبنا سنظل مُقصِّرين، وستبقى هناك فراغات كبيرة تحتاج إلى ملء وتكميل، وسيذكر التاريخ بعدنا أموراً أخرى كانت غائبة عنَّا أو كانت غير مفهومة لنا في حياته. نعم هو كان يسبق عصره بكثير، وكُتبه هي خير شاهد.
هو ثروة الله للكنيسة في مصر في القرن العشرين، شخصية من النادر أن تتكرر. هو عَلمٌ من أعلام الرهبنة ومثال مُضيء في تاريخها المجيد الطويل. نعم هو من العمالقة الذين لن تنساهم الكنيسة أبداً، وستظل كتاباته وآثاره محل تقدير لأجيال كثيرة قادمة.
لم يعُد هذا الرجل مِلكاً خاصاً لدير أنبا مقار أو لأولاده الرهبان، بل صارت حياته وتراثه مِلكاً مشاعاً للكنيسة جمعاء، ليس فقط في مصر بل وفي العالم أجمع، وترجمة كتاباته في أربع عشر لغة أجنبية حتى الآن يشهد لمقدار قبول العالم المسيحي بكافة كنائسه لهذا التراث الروحي الأصيل.
علينا الآن أن ندرس هذا التراث، تماماً كما ندرس تاريخ آبائنا الرهبان الأوائل: الأنبا أنطونيوس والأنبا مقاريوس والأنبا باخوميوس والأنبا شنودة رئيس المتوحدين…
ولكن نحن هنا لسنا بصدد عرض لحياته أو مبادئه أو توثيق لكتاباته أو استعراض لمنجزاته… فهذه كلها قد سبق الكتابة عنها بتفصيل في الكُتب العديدة التي صدرت عنه من الدير، ولكننا سنحاول في هذه الصفحات القليلة تقديم بعض شهادات وومضات خاطفة وشذرات سريعة عن أمور قد تكون خَفية في بعض جوانب شخصية وحياة أبينا متى المسكين، وذلك من فم أولاده وأحبائه ومُريديه الذين لامسوه وعايشوه عن قُرب لمدة تزيد عن الخمسين عاماً.
الاسم العلماني — يوسف اسكندر يوسف
تاريخ الميلاد — 20 سبتمبر 1919
محل الميلاد — المنصورة
المؤهل العلمي — بكالوريوس صيدلة سنة 1943 جامعة فؤاد الأول (القاهرة)
تاريخ الرهبنة — 10 أغسطس 1948في دير الأنبا صموئيل
الذهاب لدير السريان — 1951
رسامته قساً بدير السريان بيد الأنبا ثيؤفيلوس — 19 مارس1951
انتدابه وكيلاً لبطريركية الإسكندرية — مارس 1954
العودة من الإسكندرية إلى دير السريان — مايو 1955
الرجوع إلى دير الأنبا صموئيل — 20 يوليو 1956
إنشاء بيت التكريس بحدائق القبة — 1958
انتقال بيت التكريس إلى حلوان — مارس 1959
الذهاب إلى دير السريان — 28 يناير 1960
الخروج الثاني من دير السريان — 9 أبريل 1960
الذهاب إلى وادي الريان — 13 أغسطس 1960
دعوة البابا كيرلس السادس له بتعمير دير القديس أنبا مقار — 9 مايو 1969
تاريخ النياحة — فجر الخميس 8 يونيو 2006
ربما كان أهم وأعظم عطية أنعم بها الرب لأبينا متى هي روح الأبوة. تلك الطاقة الحانية المُحبة الغافرة الباذلة الساعية لأجل خلاص أولاده ونموهم الروحي. هذه الموهبة كانت هي أعظم ما يُوصف بها آباء الرهبنة العظام الأوائل: أنطونيوس ومكاريوس، أنهم كانوا ”محبين لأولادهم“. والعجيب أن هذه النعمة نالها أبونا متى مُبكراً جداً حيث لم يكُن قد مضى على دخوله الدير إلا سنوات قليلة. وغالبية الجماعة الرهبانية التي صاحبته في تجواله في الأديرة والبراري إلى أن وصلوا دير أنبا مقار سنة 1969 كانوا قد تتلمذوا عليه في السنوات الأولى لرهبنته.
وكان أبونا متى يُتابع بكل تدقيق نمو أولاده الروحي، ولم يتأخر يوماً عن إجابة أسئلتهم، والبعض منهم مازال يحتفظ بهذه الأوراق كتذكار غالٍ من أب لأبنائه.
وعندما كان أبونا متى يغيب عن أولاده فترات قد تقصُر أو تطول، كانت رسائله لهم هي خير تعويض، وكان يبثُهم فيها كل واحد بمفرده سلامه ودعاءه له، بل يُنبِّر على ضعفه واحتياجه الروحي. وفي عودته كان كل راهب منَّا يُراجع نفسه وحياته، ويشعر أن عين أبينا الروحية سوف تخترقه وتفضح خفاياه ومدى التزامه ونموه الروحي أثناء فترة غيابه.
وكان أسعد أيام مجمعنا هو اليوم الذي يجتمع أبونا فيه مع الرهبان ليقول لهم كلمة روحية، وكنَّا نحس فعلاً أن الله يُريد أن يُرسل لنا رسالة روحية من خلاله. وكان كل واحد يخرج بعد الاجتماع مُلتهباً بالروح، وهو شاعر يقيناً أن الكلمة مُوجَّهة إليه شخصياً، وتُوصيه أن يفعل هذا ويترك ذاك.
والعجيب أن أبانا متى كان يحس باحتياج أبنائه والحرب الواقعة عليهم حتى ولو هم أخفوها عنه سواء خجلاً أو منعاً للتثقيل عليه، فكان هو يختزل هذا الحاجز ويستدعيهم ويُريحهم ويُصلي لهم، ويخرج الراهب من أمامه وهو يكاد يطير فرحاً.
ولم يكُن أبونا متى أباً روحياً فريداً فقط، بل كان بمثابة أب جسدي ونفسي لكل راهب. فما أن ينمو لعلمه بمرض أحدهم أو احتياجه لشيء حتى يُوصي بالأطباء ويُتابع العلاج حتى يتعافى الراهب تماماً.
والحق أن أبوة وحنان أبينا متى لم تقتصرا فقط على الرهبان بل إن كثيرًا من العلمانيين من الزوار والعمال وعائلاتهم لمسوا هذا العطاء الفائض والمحبة الغزيرة، والقصص هنا كثيرة وشهودها موجودون.
عندما طولب مرة أبونا متى أن يُعرِّف نفسه لم يجد أقصر ولا أدل من التعبير المتواضع والغني في نفس الوقت أنه: فلاح إنجيلي.
ولعل شُهرة أبينا متى الكبيرة التي طبقت الآفاق في الشرق والغرب كانت بسبب مؤلفاته الروحية القيَّمة التي أثرى بها الكنيسة. فلم يحدث قط في تاريخ الرهبنة أو المسيحية عموماً أن قام مسيحي بتأليف هذا العدد الضخم من الكُتب التي يربو عددها على المائة وثمانين كتاباً، غير مئات المقالات والرسائل والعظات في مختلف مناحي المعرفة الدينية: من لاهوت، وروحيات، وتقليد كنسي، وشروحات وتفسير للمزامير وغالبية أسفار ورسائل العهد الجديد … والبعض من هذه المؤلفات تُرجم إلى لغات عديدة. وتتميز تلك الكتابات بالعمق الروحي واللاهوتي بآن واحد، وجمع أبونا متى فيها، وفي تضافر عجيب، بين روح وفِكر الآباء التقليدي الأصيل، وفي نفس الوقت بين الانفتاح على الفكر المعاصر والرجوع إلى كبار مفسري الكتاب المقدس من الكنائس الأخرى.
ودائماً أبونا متى لا يُكرر نفسه في كتاباته، فمع أنه يعود إلى نفس المواضيع التي يلذُ له التكلم والكتابة فيها وبالأخص الصليب والآلام؛ إلا أنك تجده يقول كل مرة جديداً، ويقول إن الروح غني وعطاءه مُتجدد.
لم يجف قلم أبينا متى أبداً منذ أن صدر له كتابه الأول: ”حياة الصلاة“ سنة 1952، وحتى قبل نياحته بشهور قليلة كان يكتب مقالات ”مع المسيح“، وهي عبارة عن تأملات سريعة وعميقة في آيات الإنجيل. وقد تم تجميعها معاً لتصدر في أربعة أجزاء، ومن يدري لو أن الله كان قد مدَّ في عمره كم سيكون عددها؟!
والأمر الملُفت أن أبانا متى، الصيدلي السابق، لم يدرس في حياته السابقة سوى كتب الكيمياء والعلوم الطبية، ولم تسمح له الظروف في بدايات حياته أن يقرأ في أي مجالات أخرى، والسؤال هنا هو كيف تحصَّل على هذه الموهبة الأدبية الفائقة والعبارات الرصينة والمفردات الثرية للغة العربية؟ لا إجابة لدينا سوى إنها عمل النعمة، والأمانة للإنجيل والإخلاص التام للوصية.
والطابع الغالب في كتاباته أنها تدور دائمًا حول ما هو جوهري في الحياة المسيحية. فمهما تنوَّعت وتشعَّبت المواضيع التي يتناولها، تستطيع دائمًا أن تتلمَّس بين السطور علاقة هذا الموضوع بما هو جوهري في الحياة المسيحية، أي بالعلاقة الحية مع الرب وبعمل الروح القدس فينا.
في الحقيقة إن عبقرية أبينا متى جرَّت عليه الكثير والكثير من الحروب والمتاعب. وبدأت هذه المعاكسات مُبكراً جداً معه، منذ أن كان وكيلاً للبطريركية في الإسكندرية سنة 1954. ولم تكُن تنقلاته الكثيرة بين الأديرة على مدار السنين إلا لأنه كان مُحباً للسلام، لا يُريد أن يدخل في نزاعات مع أحد. فلم يكُن أبونا متى أبداً رجلاً صِدامياً، فما أسهل أن يتخلى عن ديره وعن كل الأتعاب التي بذلها في تعميره إذا أحس أنها تُسبب مشاكل أو عثرة.
وأوضح مثال على ذلك هو تخلِّيه ببساطة عن كل ما بناه بدير الأنبا صموئيل من قلالي ومائدة جديدة، بمجرَّد أن جاءه الأمر بذلك([1]) .
كذلك نأى أبونا متى عن الدفاع عن نفسه ضد كثيرين من الذين هاجموه وانتقدوه، فلم نسمع له قط دفاعاً أو حتى توضيحاً، بل إنه كان يوصي أولاده توصية مُشددة بألا يُدافعوا عنه حين يذكره أي أحد بسوء.
ورغبة في الدفاع عن أبينا متى بدأ أحد تلاميذه الأخصاء بكتابة مجموعة كُتب دراسية ليُثبت فيها أصولية كتاباته، ولكن أبونا متى رفض ذلك بشدة، وأمر بعدم تداول هذه الكُتب لِما فيها من إساءة للذين ينتقدونه، ولم تُستكمَل السلسلة.
وحدث أن كان أبونا متى يتكلم مرة في عظة أمام المجمع، وطلب في بدايتها من الأب المسئول عن النشر أن يكتُب توضيحاً في مجلة مرقس عن عبارة كتبها وسط مقالة وانتُزعت من سياقها وانتُقدت، على أن يصدر هذا التوضيح في العدد القادم. ثم بدأ العظة وجاء في سياقها آية سفر إشعياء: «ظُلم أما هو فتذلل»، واستنارت هذه الآية أمامه فجأة، وكأنه كان يسمعها للمرة الأولى، فإذا به يتوقف ويُشير إلى الأب الذي كلَّمه سابقاً ويقول له: ”اسمع يا أبونا! لا تكتب شيئاً، لا توضيحاً ولا دفاعاً، سأعمل مثل سيدي: «ظُلم، أما هو فتذلل»، المسيح لم يُدافع عن نفسه“.
وخُذ على هذا عشرات المواقف الصادمة لمن لا يعرف أبانا متى، ويتساءل كيف يترك الآخرين يفترون عليه هكذا، كيف لا يُدافع عن نفسه، لماذا لا يرُد؛ وباب النشر مفتوح أمامه في مجلة الدير الشهرية…ولكنه أبداً لم يفعل هكذا والتزم الصمت طيلة حياته.
فمنذ اليوم الأول لدخوله الدير (دير الأنبا صموئيل) كتب بالمركوركروم وبالخط الكبير على جدار قلايته عبارة: ”علينا واجبات وليست لنا حقوق“، وعاش طيلة حياته بمقتضاها، يعتبر من واجبه أن يخدم الكنيسة بكل ما أوتي من قوة، وفي المقابل ليس من حقه أن ينال منها أي تقدير أو اعتراف بالفضل. بل إنه كتب في إنجيله وهو مازال في العالم هذه العبارة: ”هذا عهدي ودعائي، أن أخدم بيعة أجدادي“، لتظل هاتان المقولتان نبراساً له طيلة حياته.
أما عن آلامه الجسدية، فقد حاباه الله بعدة شوكات في الجسد، ولم يخلُ يوم من أيامه من الآلام المرة. فمنذ أن عرفناه في الستينات من القرن الماضي، قيلَ لنا أن الأطباء لا يتوقعون بأن يعيش أكثر من شهور قليلة، بسبب أمراضه المستعصية، ولكنه استمر بعد ذلك خمسين سنة يعيش بنعمة الله، مُتحملاً كل يوم آلاماً كفيلة بأن تؤدي للموت.
وهكذا أعطاه الرب أن يعيش عملياً كل ما كتبه عن الآلام في أنها شركة حب مع الرب و”معبرنا إلى المجد“.
([1]) قال مرة أحد الأصدقاء لأبينا متى بعد أن رأى حركة التعمير الضخمة بدير أنبا مقار: ”ألم تأخذ درساً من الماضي، إذ أنك كل دير تُعمِّره يُخرجونك منه“؟ فأجابه أبونا: ”نحن نعمل ليس من أجل الناس بل من أجل الله“.
وأقصد هنا إخوتنا المسلمين. وقد نجح أبونا متى في توطيد هذه العلاقة وبناء جسور الثقة بين الدير وبينهم نجاحاً كبيراً. وقد اهتم بزوار الدير المسلمين اهتماماً بالغًا، وأكرم وفادتهم والترحيب بهم ولم يتقيَّد معهم بالمواعيد التي كان حدَّدها للزيارة.، لدرجة أن أحدهم قال: ”لقد أبهرني الأب متى في حبه الصادق والواثق للمسلمين، وشتان بين الحب عن ثقة وصدق نفس، والحب عن مبدأ “مُجبر أخاك لا بطل”“. وكان مبدؤه: ”إن الدين جزء من الشخصية البشرية، فلا يُمكن أن أحترم إنساناً دون أن أحترم دينه“. وهكذا لم ينتقد دين الآخرين لأن هذا يُهيِّج غضبهم. ولكن ليس معنى هذا أن نُنكر المسيح بل على العكس، نعترف به في المواقف التي تستلزم ذلك. وعند مقابلته للرئيس السادات كان يقول له آيات إنجيلية، وكان الرئيس يستحسنها، ويطلب منه أن يُعيدها ثانية، فكان يُكررها على مسامعه.
اعتادت إحدى فرق الجيش أن تُعسكر بالقرب من الدير سنوياً، وكانت تستمر في مشروع تدريبها لمدة تزيد على الأسبوع، وكانت هذه الوحدة بكل ضباطها وجنودها (الذين يصل عددهم إلى 300 فرد) تأخذ من الدير كل احتياجاتها من أطعمة ومعلبات وخبز وشاي وسكر وخلافه، وفي اليوم الأخير لمعسكرهم تُعمل لهم حفلة كبيرة لتُقدم لكل منهم هدية تذكارية، وبالمقابل كان رئيس الوحدة يُهدي الدير ممثلاً في أحد آبائه هدية القوات المسلحة شُكراً وامتنانا على تعاونهم وصدق محبتهم.
كذلك اعتاد أبونا متى أن يُرسل بصفة دورية عربة الدير مُحمَّلة ببعض من مُنتجات الدير إلى المسجونين بسجون وادي النطرون. الأمر الذي كان له أبلغ التقدير سواء من المسجونين أو حتى من مأمور السجن الذي كان يتعجب من أولئك الذين يرسلون هدايا لمسجونين لا يعرفونهم.
وقد توثَّقت علاقة الدير بعرب وادي النطرون ويأتي المئات منهم للدير في أعيادنا المسيحية بل في عيد أنبا مقار ليُعيِّدوا على الرهبان، ويولِم لهم الدير مائدة كبيرة، ويأخذ كل واحد منهم بركة مالية من الكبير إلى الصغير.
وحدث أن طلبت قرية بني سلامة المجاورة للدير مُساهمة الدير في بناء مدرسة، فساهم الدير بمبلغ كبير، إلا أن المسئولين صرفوا المبلغ في أعمال إدارية ولم يفعلوا شيئاً، فالتجئوا ثانية للدير (ديسمبر 1987)، فقرر أبونا متى أن يتكفَّل الدير ببناء الفصول المطلوبة لهذه المدرسة من ألِفها ليائها بواسطة الآباء الرهبان وعمال الدير. وكان أهالي هذه القرية يتعجبون من محبة أولئك الرهبان الذين تركوا ديرهم ليعملوا في قريتهم… وفعلاً تم بناء هذه المدرسة في فترة وجيزة وتكفَّل الدير بشراء كافة المستلزمات التعليمية والتثقيفية والرياضية، لدرجة أن محافظ البحيرة عندما افتتح هذه المدرسة في احتفال شعبي تعجب للغاية أن توجد مثل هذه الوسائل الحديثة في مدرسة قروية بينما لا توجد مثيلتها حتى في المحافظة نفسها. وقد تأثر المحافظ جداً بما قدمه الدير والآباء الرهبان، وقام في نفس هذا اليوم بزيارة الدير ومعه وفد من هيئة التدريس والطلاب بالمدرسة وبعض أهالي القرية، وقدموا الشكر للأب متى المسكين وآباء الدير في لوحة تذكارية تحمل كل معاني العرفان والتقدير والشكر ([1]) .
وهكذا عاش الدير سنين طويلة في سلام ومحبة وأُلفة مع جيرانه من عرب بني سلامة، وأهل مدينة وادي النطرون، بل مع كافة المصالح الحكومية الني كان الدير يتعامل معها.
وللدير أرض في الساحل الشمالي، وفي مقابلها مباشرة يسكن عرب البدو، وقد اهتم بهم أبونا متى اهتماماً بالغًا، فأحبوه ووثقوا به (وكانوا يسمونه الشايب)، لدرجة أنهم كثيراً ما كانوا يلجئون إليه عند أي ظروف طبية مفاجئة لأحدهم، فتقوم عربة الدير في الحال بتوصيل مريضهم لأحد المستشفيات الخاصة، ويتابعه الدير لحين شفائه.
([1]) وقد أثمرت المحبة التي أظهرها أبونا متى لسكان مدينة وادي النطرون وقرية بني سلامة في شهادة شيخ الجامع هناك أثناء قضية ادعاء أحد الأشخاص بأن أرض الدير مِلكٌ له، بأن هذا الشخص مدَّع وهو ليس من أهل المنطقة، وأن أرض الدير هي مِلكٌ للرهبان وعامرة بهم طوال السنين الماضية. ورُفضت الدعوى بناء على هذه الشهادة.
عاصر أبونا متى ثلاثة آباء بطاركة: الأنبا يوساب الثاني، الأنبا كيرلس السادس، والأنبا شنوده الثالث. ولعل من الأمور الهامة في حياته هو الحرص التام على عدم إقحام نفسه في مجال السياسات الكنسية. وكان مثالاً يُحتذى في الالتزام الكامل بتكريمهم والخضوع لهم وعدم المساس بالكلام أو التعليق أو الشكوى من أي تصرف منهم ولو بدا قاسياً متسرعاً.
ومع أن أبانا متى كان يؤمن بالرهبنة لأجل الرهبنة؛ إلا أنه من أجل طاعة البابا يوساب قَبلَ (على مضض) أن يذهب ليكون وكيلاً بطريركياً في الإسكندرية بناء على تزكية المجلس الملي.
ويشهد تاريخ الرجل أنه خضع لقرار البابا كيرلس السادس سنة 1960بمغادرة القاهرة، فذهب مع مجموعة من الرهبان لبرية وادي الريان.
كذلك موقفه الداعم لتقليد الكنيسة والمدافع عن الأنبا شنوده الثالث إبان أحداث سبتمبر سنة 1981 الشهيرة، وما تبع ذلك من تأويلات واتهامات وأحكام متسرعة من البعض دون وجه حق، وجميعها تقبَلها أبونا متى باستسلام وهدوء كامِلَين كأنها من يد المسيح نفسه.
تبدأ قصة هذا التعارف في عام 1978، حينما نجحت تجربة زراعة بنجر السكر وبنجر العلف([1]) في أرض الدير ولأول مرة في مصر. وقام أبونا متى بتقديم النتائج للسيد الرئيس، الذي أرسل الوزير حسب الله الكفراوي لمعاينة التجربة على الطبيعة، وقد تأثر الوزير جداً بالدير وبالمجهودات التي تتم فيه، وتغيرت فكرته تماماً عن الرهبنة والمسيحية عموماً، وبسبب التقرير الإيجابي الذي قدمه الوزير، أصدر السيد الرئيس أوامره بإهداء الدير 1000 فدان من الأراضي الصحراوية المحيطة بالدير لاستكمال تجاربه الزراعية، كما أهدى الدير جرارين زراعيين، وحفر بئر أعماق لتوفير الماء اللازم للزراعة.
على أن أول لقاء لأبينا متى بالسادات كان سنة 1979، حين دعا محافظ البحيرة الأب متى للاشتراك في معرض المحافظة للإنتاج الزراعي والحيواني، وهناك أشاد الرئيس السادات بجهود الدير في مجال الأمن الغذائي واستصلاح الأراضي، وأكَّد على إهداء الدير الألف فدان. كما أمر يومها بتعميم تجربة بنجر السكر. ومما يُذكر في هذا اليوم أن السيد المحافظ أقام وليمة كبيرة للسيد الرئيس وضيوفه، وبحث الرئيس عن أبينا متى فلم يجده، إذ كان قد انسحب بهدوء تاركاً المجال لأصحابه، إلا إنه عاد بعد انتهاء الوليمة لتوديع الرئيس عند انصرافه. وانطبع هذا الموقف في ذهن السيد الرئيس فترك كل المودعين له من كبار الزوار، وذهب هو بنفسه لأبينا الروحي ليُعانقه ويُقبِّله.
بالرغم من أن أبانا متى مرسوم كاهناً سنة 1951؛ إلا أننا لم نره ولا مرة واحدة يُصلي قداساً، فكان يحضر الكنيسة مبكراً، كأي راهب عادي، ويُسلِّم على كل الموجودين، ويظل واقفاً طيلة القداس، ويتناول من يد أبنائه الرهبان.
في الحقيقة كان أبونا متى متفوقاً ونابغاً في كل شيء، كل ما كان يصنعه كان ينجح فيه. وهو لا يقبل بأنصاف الحلول، يريد الوصول للكمال في كل ما يعمله، يحب الطبيعة والزهور، ولعل أرض الدير في الساحل الشمالي كانت هي خير شاهد. حباه الله بمواهب في كافة مجالات الحياة. بلا مبالغة كان متخصصا في كافة الأعمال.
فهو الفنان الذي رسم صورة الأنبا مقار الشهيرة والتي نطبع منها الآن سنوياً آلاف النُسخ.
وهو المهندس المعماري الذي وضع التخطيط الكروكي الأول للدير بوضعه الحالي منذ لحظة وصوله للدير سنة 1969.
وهو المدير الناجح الذي قال عنه مرة أحد رجال الأعمال الأمريكيين بعد زيارته لمواقع العمل بالدير: You are the best organizer I have ever seen in my life (أنت أفضل رجل تخطيط سبق لي أن رأيته في حياتي).
وهو المهندس الزراعي الذي حوَّل رمال الصحراء الجرداء لحقول مُثمرة خضراء.
وهو الطبيب البيطري الذي يسأله المتخصصون فيجيبهم.
وهو العالم الأثري الذي استطاع ترميم جميع مباني الدير الأثرية والكنائس القديمة والحصن، وكانت كلها في حالة يُرثى لها وقريبة من الانهيار، الأمر الذي شهد واعترف به خبراء الآثار المصريين والأجانب بأنها أكثر من ممتازة.
وأبونا متى هو الفقيه القانوني الذي يستطيع أن يكتب أقوى المُذكرات القانونية: حدث أن ادعى أحدهم (مدفوعاً من آخرين) بأنه يملك أرض الدير، وتطور الأمر للمحاكم، فما كان من أبينا متى إلا أن اعتكف فترة في القاهرة وقام بنفسه بدراسة القضية، وقدَّم الدفوع القوية، واستخرج النصوص القانونية، ليُقدمها بعدها جاهزة خالصة لمحاميّ الدير ليستخدموها في القضية.
أبونا متى كان يستطيع أن يُجالس أكبر المتخصصين في مجال تخصصهم يسألونه ويحاجونه ويتعلمون منه (لقاؤه المشهور مع د. نصر حامد أبو زيد ود. جابر عصفور ود. عاطف العراقي)، كذلك مقابلته مع أ. د. حسين فوزي (سندباد مصري) مدير الجامعة الأسبق، وحديث رائع عن الألحان القبطية القديمة.
كذلك كان أبونا متى يستطيع أن يتعامل مع البُسطاء الأميين من العمال ويتكلم معهم بلغة بسيطة وسهلة يفهمونها.
في الحقيقة كان لأبينا متى دائما نظرة مُستقبلية أبعد جداً من نظرتنا نحن، وعندما كُنا نعرض عليه موضوعاً أو مشكلة، كانت إجاباته وحلوله غير متوقعة بالنسبة لنا، وربما وقفنا أمامها متعجبين متسائلين: لماذا فعل أبونا هكذا؟! ولكن الحق يُقال إننا بعد فترة نكتشف أننا كُنا قصيري النظر محدودي الفكر.
ولم يكن أبونا يتخذ قراراته إلا بعد صلاة وصوم، وكثيراً ما كُنا نسمع أن أبانا معتكف في قلايته أو ذهب للمغارة، ونعرف بعدها أن الدير يواجه مشكلة أو أزمة ما، وهو ذهب يُصلي لأجلها، مع العلم إن صوم أبينا كان بالامتناع تماماً عن الطعام.
أما عن كرم أبينا متى فحدِّث ولا حرج؛ فهو رجل العطاء الذي لا يُجارى سواء لمن يعرفهم ولمن لا يعرفهم. كان أبونا متى مرة يُجري عملية جراحية في إحدى المستشفيات، ولاحظ أن واحدة من الحكيمات تبدو وكأنها مكسورة القلب مهمومة، فسألها أبونا عمَّا بها، فقالت إن ابنتها مولودة بعيب خلقي وهي تحتاج عملية كبيرة لا تقدر على تكلفتها… والباقي معروف، فقد أوصى أبونا بعلاجها عند أكبر الأطباء، وتكفََّل الدير بتحمُل مصاريف العلاج، ولم يمر الأسبوع إلا وكانت السيدة تحمل ابنتها التي شُفيت تماماً وتشكره.
ولعل الأثر الأخير الذي أراد أبونا متى أن يودعه للكنيسة قبل أن يترك الأرض هو: ”مشروع رئيس الملائكة ميخائيل لإعانة المحتاجين“ الذي أنشأه سنة 2000.
لقد أحس أبونا متى أن الدير استكمل تقريباً كل أعماله الإنشائية، ويستطيع أن يصرف على نفسه، فوضع بنفسه أساسيات ونظام هذا المشروع الخيري لخدمة الفقراء، واضعاً في نفسه أن أول مبادئ الرهبنة هي أن الراهب لا يخرج أبداً من ديره. لذلك فإن المواد التموينية والأموال المخصصة لذلك سيتم توزيعها بواسطة مجموعة من الخُدام الأمناء المتطوعين.
وفي الحقيقة كان لأبينا متى اشتياقات بل طموحات كبيرة من أجل أن يقوم الدير بالمساعدة في مشروع الأمن الغذائي للبلاد وخصوصاً بعد ارتفاع الأسعار. وكان يقول للرهبان: إنه يشتاق لليوم الذي فيه يعول الواحد منكم ألف نسمة!
في السنوات الأخيرة زادت الأعباء والأمراض على أبينا متى واضمحلت قواه، وكان من الصعب عليه مُتابعة كل صغيرة وكبيرة في تدبير الدير، فآثر الابتعاد، واعتكف في استراحة الدير بالساحل الشمالي، ولكن كان ذلك أيضاً عن قصد وحكمة لإعطاء الفرصة لأولاده الرهبان لكي يستكملوا المسيرة من بعده.
ولكنه بالرغم من ذلك كان يُتابع أحوال الدير مع الآباء المسئولين الذين كانوا يأخذون مشورته في كافة تدابيرهم، ويُعطيهم التوجيه والرسائل عند أي استفسار.
وكان وجود أبينا متى في هذا المكان المنعزل فرصة رائعة لكثير من الآباء الذين كانوا يأخذون خلوة روحية هناك، وربما كانوا يتقابلون معه ويتحدث معهم. ويا سعد الرهبان بهم عندما كانوا يرجعون الدير ويحكون لإخوتهم عن مقابلتهم لأبينا الروحي وعن بعض النصائح الروحية التي قالها أبونا لهم.
وتُعتبر هذه الفترة التي قضاها أبونا متى المسكين في الساحل الشمالي (1/1988 ـــ 5/2006) من أخصب سنوات عمر أبينا متى من حيث المؤلفات التي سطّرها قلمه، وخصوصاً تلك المتعلقة بتفسير الأناجيل، والتي كان يجب أن يتوفر لها الهدوء والوقت.
ولم تكن هذه الفترة عاطلة من حيث البناء والتعمير، فأينما حلَّ أبونا كان لا يكُف عن العمل، وبالأخص ممارسة العمل الذي يهواه عن غيره، وهو الزراعة، سواء أشجار مثمرة أو محاصيل حقلية أو ورود زينة. وفي الحقيقة لقد تحول المكان هناك إلى فردوس أرضي، لا ينساه أبداً كل من زاره ولو لمرة واحدة.
تعرض أبونا متى في الشهور الأخيرة من حياته على الأرض لأزمة صحية لعلها بسبب الضعف العام وأمراض الشيخوخة، ورفض أبونا في البداية الذهاب للمستشفى، ولكن حدث أن أُصيب بالتهاب رئوي، مما اضطره للذهاب للمستشفى، وتأرجحت فيها حالته بين التحسن والتدهور، وظل فيها حوالي 6 أسابيع، إلى أن أسلم الروح بين يدي المسيح الذي أحبه وخدمه وظل أمينا له طيلة حياته، وكان ذلك في فجر الخميس 8 يونيو سنة 2006.
وكان أبونا متى قد طلب قبل انتقاله بثلاث سنوات أن يُحفر القبر الذي سيُدفن فيه في الصحراء، بل إنه أمر أن لا يقولوا لأحد عن مكانه.
فعلاً عاش مُخلياً لذاته ومات مُخلياً لذاته، وأعطى بطريقة دفنه أقوى عظة صامته عن الإخلاء للأجيال القادمة.
الصفحة تحت الإنشاء
قائمة كتابات الأب متى المسكين
============
1- سلسلة تفاسير الكتاب المقدس
2- مجلدات ذات موضوعات أخرى
3- سلسلة الرؤية الإلهية للأعياد الكنسية
4- كتيبات ومقالات في المناسبات والأعياد الكنسية (بعض هذه المقالات مكررة من المجموعات السابقة ولكنها تتميَّز هنا بأنها في هيأة نبذات منفردة) 4أ- التجسد وعيدَي الميلاد والغطاس
4ب- الصوم الأربعيني المقدس
4ج- الصليب وأسبوع الآلام
4د- عيد القيامة المجيد وعيد الصعود المجيد
4هـ- عيد العنصرة المجيد وحلول الروح القدس
4و- صوم الرسل وصوم العذراء وذكرى الشهداء
5-. كتب ومقالات رهبانية
6- سلسلة دراسات في التقليد الكنسي
7- مقالات تصلح للخدام والشباب
8- مجموعة مقالات في اللاهوت (ألقاب المسيح)
9- كتب في موضوعات متنوعة 9أ- الكنيسة والوحدة المسيحية
9ب- التوبة والحياة الروحية العامة
9ج- في بعض القضايا اللاهوتية
9د- موضوعات اجتماعية ووطنية
10- سلسلة قصص مسيحية للحياة
11- سلسلة مع المسيح ومع العذراء (آخر ما كتب الأب متى المسكين)
12- كتب صدرت بعد انتقال الأب متى المسكين (8 يونية 2006م)
للاشتراك في النشرة الإخبارية باللغة العربية
Website Designed and Developed by Nicholas Rizkalla and St. Macarius the Great Monastery تبرع لمساندة أنشطة الدير ونشكر أي مساهمة منكم مهما كانت صغيرة. ويمكنكم التبرع لمشروع إخوة الرب وهو مشروع لمعونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل) أسسه الأب متى المسكين ويعوله دير القديس أنبا مقار.
Donate to support the Monastery’s activities or for the “Archangel Michael Coptic Care” program which helps orphans and needy people in Egypt.
FOR US CITIZENS
“Archangel Michael Coptic Care” has been registered in the USA to serve and help the poor of Egypt in a significant way. Our Tax ID # is: 43-1957120. Your contribution is all TAX DEDUCTIBLE. You will receive a yearly report of your contribution for your tax record.
Please write the check to:
Archangel Michael Coptic Care.
Mail your check to:
P.O. Box # 1574, Centreville, VA 20122, USA
or donate with credit card or Paypal.
|