دعوة إلى: صوم جماعي وتوبة جماعية
لقد مهَّد يوحنا المعمدان، بالتوبة، الطريق لمعرفة المسيح وظهوره!!
بدون توبة عن الخطية، وندم على حياة الاستهتار، وعودة القلب إلى مخافة الله؛ يتعذَّر استعلان معرفة المسيح وينحجب ظهوره الإلهي عن النفس! «وأنا لم أكن أعرفه لكن ليُظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمِّد بالماء ... وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله» (يو 1: 31 و34).
إذن، فكانت معمودية يوحنا بالماء للتوبة، ضرورة مطلقة حتى يُستعلن المسيح! ...
ولا تزال التوبة في كل حين وحتى هذه الساعة هي الطريق الوحيد الذي يوصِّلنا إلى التعرُّف على شخصية المسيح. فمن لخلال ضغطة الحزن على الخطية والإحساس بالندم القاتل، نستكشف رحمة يسوع وقيمة دمه وقدرة لاهوته على الإقامة من الموت والهاوية!! ...
إذا لم نقف على خطر الخطية العاملة فينا ونحس في أعماقنا بسر الإثم، لن نقف يوماً على قيمة الدم الإلهي، ولن نحس أبداً بسر الفداء!! وإن كنا لا نفحص ضمائرنا ونلومها وننازع أنفسنا عن قبائح حياتنا الداخلية وندينها، ونكشف في أخطائنا وشهواتنا وعيوبنا ونجاساتنا حقيقة أنفسنا، فلن نشعر بأي حاجة إلى المسيح، ولن نجد ضرورة ملحة للتعرُّف عليه، ويظل لاهوته مجرِّد موضوع للإيمان يزداد ويتناقص بمقدار البرهان الفكري، أما الدم المسفوك على الصليب فيبدو وكأنه بلا داعٍ، أو كأنه لازمة من لوازم قصة الصليب وحسب!! ...
ولكن يا لجلال الرب للقلب التائب!! ويا لقوة الدم للضمير الذي يئن من ثقل الخطية!!
حينما تبلغ النفس إلى حقيقة ذاتها بعد أن تكون قد واجهت خطيئتها بشجاعة وصمود دون تهرُّب أو اعتذار أو عطف كاذب ... فحينئذ لا ترى مفراً من السقوط تحت خشبة الصليب!! ... ولا تعود ترى في يسوع موضوعاً فكرياً للإيمان، بل حقيقة حياة من الموت وخلاص من الهاوية.
سؤال: وماذا يحتاج الإنسان الخاطي ليقبل الإيمان بالمسيح، فيقبل الحياة والخلاص؟
الجواب: لا شيء!! فقط لا يعاند الصوت الداخلي، ولا يقاوم الدعوة!!
+ «الحق الحق أقول لكم: إنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات (بالخطية) صوت ابن الله والسامعون يحيون.»! (يو 5: 25)
بداية سيرة الخاطي مع الله، كبداية ميت في القبر ...
ليس عليه واجبات، لأن ليس له حقوق في شيء! «ليس في الموت مَنْ يذكر ولا في الجحيم مَنْ يعترف لكَ» (مز 6: 5 السبعينية) ...
إن الخاطي الذي غرَّته الخطية وقتلته يبدو وكأنه بلا نفس، بلا قوَّة على العمل، بلا حركة في الروح، بلا أُذُن للسمع؛ من أجل هذا جاء ابن الله، كلمة الله الحية، وأرسل صوته بالإنجيل ليزرع بكلمته أُذناً جديدة في النفس الميتة لتسمع الإيمان وتعيه ... وحين يسمع الخاطي صوت ابن الله يحيا ويقوم من بين الأموات!! ...
الخاطي إنسان في عُرف الروح ميت! ... ولكن لا توجد خليقة مدلَّلة ومحبوبة لدى الله قط مثل الميت المنتن بالخطية! ... فقد كان معروفاً عن المسيح أنه: «محب للعشارين والخطاة.» (مت 11: 19)!!
فكل خليقة في الوجود، إن في السماء أو على الأرض، عليها أن تتحرَّك وتجهد وتثابر لتحيا، إلا الخاطي، فلا يطالَب من الله أن يتحرك إلى شيء أو يجهد من أجل شيء أو يثابر على شيء، إلا أن يقبل فقط صوت الله الحنون ولا يرفض دعوة حبه! «والسامعون يحيون»!! ...
صوت الله قوَّة ليست محيية فقط بل وجاذبة أيضاً، تستطيع أن تجذب النفس من أعماق الموت والهاوية وتقيمها من قبر الشهوات وتفكها وتدفعها. هذه الأمور يستحيل على النفس أن تؤدِّيها من ذاتها، بل ويستحيل عليها حتى أن تتشارك فيها ولا بشيء من الجهد، ولكنها مطالَبة فقط أن لا ترفضها ...
+ «لا يقدر أحد أن يُقبـِل إليَّ إن لم يجتذبه الآب» (يو 6: 44).
+ «... ومَنْ يُقبـِل إليَّ لا أُخرجه خارجاً.» (يو 6: 37)
وفي اللحظة التي يتقبَّل فيها الخاطي صوت الله تنـزرع في نفسه الميتة أذن روحية «يوقظ كل صباح، يوقظ لي أُذناً لأسمع كالمتعلِّمين، السيد الرب فتح لي أذناً وأنا لم أعاند، إلى الوراء لم أرتد.» (إش 50: 4 و5)
وحينما تتفاعل الأذن الروحية مع هذا الصوت بنجاح، فالروح ينسكب في النفس خالقاً قلباً جديداً روحيًّا للإنسان من صنع الله، يبدأ في الحال ينبض بالإيمان والولاء للذي فداه من الموت وخلصه. وحينئذ يأخذ الإنسان قوَّة على التحرُّك نحو الله والاجتهاد لإرضائه والمثابرة على حبه ...
هنا تبدأ سيرة جديدة للخاطي تجاه الله الذي دعاه، واجتذبه من موت الخطية وفداه، وطهره من نجاساته وأحياه بدم يسوع المسيح وقوة قيامته من الموات؛ هنا يصبح الخاطي مطالباً - بعد أن ذاق ذلة الموت وتذوق مجد الحياة - أن لا يعود يسير بقدميه في طريق الموت! ... وأن يبغض الطرق الخادعة المؤدية إلى الهلاك! ... ويبغض الإثم! ...
وبقدر ما طهره الله - ببر يسوع المسيح - من نجاسات الخطية القاتلة، أصبح مطالباً أن يسعى في أثر القداسة للحياة مع الله بقوة الله «نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين» (1بط 1: 15)!!
بل وأصبح من صميم سيرة الخاطي المطهر بالدم الإلهي أن يُسر ويفرح ويخبر بفضل الذي دعاه من الظلمة إلى نوره العجيب (1بط 2: 9)!!
فإن كانت بغضة الخطية القاتلة هي من صميم فعل الندامة والتوبة، فالفرح ببر المسيح وفعل دمه الماحي للذنوب والخطايا هو نور التوبة وبهجتها، الذي يحفظ الخاطي من النظر إلى الوراء ويؤمِّنه ضد رعبة الموت الوهمية ...
وهكذا يصبح الخاطي - بعد أن يحصل على قوَّة التوبة بفرح بر المسيح - قادراً أن ينطلق باستمرار من تعقب الظلمة له ومخاوفها، ويواجه نور الحاضر ورجاء المستقبل؛ «الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته» (كو 1: 13)، ويصارع ضد شرور هذا الزمان بلا خوف، مستتراً في المسيح ومتشبثاً بدعوته حسب إرادته وبقوة دمه ... «الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الحاضر الشرير حسب إرادة الله وأبينا» (غل 1: 5).
الخاطي يسعى بتوبته لميراث الملكوت، ولا يملك إلا قوَّة الدعوة التي حظي بها، كبرهان اختيار ونعمة، تحوي في داخلها سر الدم الإلهي القادر أن يغسل ويطهر ويقدس إلى التمام، وحتى النهاية، بدون نقص أو عجز أو ملل من جهة الله!!
ولكن كل خطية يقترفها الإنسان بعد ذلك عن وعي وإرادة ويكرِّرها بعدم مخافة وبلا ندم وتوبة، قادرة أن تصيب الأذن الروحية بالصمم والقلب الجديد بالتلف؛ فلا يعود صوت الله يُسمع بقوته المغذية، ولا يعود القلب ينبض بالإيمان الحي، ولا تعود النفس قادرة على التحرُّك أو الاجتهاد أو المثابرة كما ينبغي ... وحينئذ تدب في النفس شيخوخة روحية مبكرة تنذر بالخوف والخطر!! «وإن ارتد لا تُسر به نفسي.» (عب 10: 12) كلمة الله لا تحيي مرَّة، بل تحيي مرات ومرات لا تُحصى وبلا عدد، وصوت الله قوَّة لا تقيم من الموت فقط بل تقيم من الهاوية، ولكن لابد أن يعرف الإنسان من أين سقط!! ... ولابد أن يحصر خطيته، ولابد أن يتوب عنها باكياً نادماً في التراب حتى ولو كان ملكاً!! ... ولابد أن يطرح نفسه تحت توبيخ الكلمة وانتهارها مهما كان عظيماً، كمريض مدنف على الموت يسلم جسده لسلاح طبيب جراح. فالخطية سرطان الروح إذا استؤصلت مبكراً تنجو النفس، وإذا استهين بها توغلت واستشرت وخربت؛ فهي لا تعيش إلا ليموت الإنسان! ... «فاذكر من أين سقطت وتب، واعمل الأعمال الأُولى، وإلا فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتب» (رؤ 2: 5).
دعوة إلى: صوم جماعي وتوبة جماعية
”احنوا رؤوسكم للرب“:
تاس كيفلاس إيمون تو كريو إكليناتيه ...(1)
بهذه الجملة المهيبة يهتف الشماس وهو واقف بجوار المذبح يدعو الشعب وكل الإكليروس أن يطأطئوا رؤوسهم لله قبل التقدُّم للتناول قبل أن يصرخ الكاهن قائلاً: ”القُدسات للقديسين“.
ولكن لشدة الأسف لا يستجيب الشعب أو الإكليروس لهذا النداء كما ينبغي فبعضهم يسمع النداء ولا ينحني وبعضهم يسمعه فيسجد وكلاهما يخطئ السمع والفهم والاستجابة ...
إن الدعوة هنا إلى إحناء الرأس للرب، لأنها لحظة توبة واعتراف بالخطايا، حتى يؤهَّل الشعب لقبول صلاة الحل من فم الكاهن.
فالكاهن في هذه اللحظات، والشعب كله منحنٍ، يعترف عن الشعب ومع الشعب لدى الله: [اللهم يا حامل خطية العالم ابدأ بقبول توبة عبيدك من أيديهم نوراً للمعرفة وغفراناً للخطايا ... اللهم حاللنا وحالل كل شعبك من كل خطية ومن كل لعنة ومن كل جحود ومن كل يمين كاذب ...].
أما لماذا يكون هنا إحناء رأس وليس سجوداً، فلأن الدعوة هنا ليست للعبادة وتكريم الله، بل الدعوة إلى الاعتراف بالخطايا في انسحاق وخوف وتذلُّل، فالشماس بهذا النداء المحدَّد لإحناء الرأس إنما يقصد أن يذكِّرنا بموقف معين هو موقف العشار الذي ذكره المسيح: «أما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء بل قرع صدره قائلاً اللهم ارحمني أنا الخاطئ» (لو 18: 13)
إذن، فالذي يحني رأسنا في هذه اللحظات الرهيبة - قبل التناول - هي الخطية، المسألة ليست طقساً وحسب، بل حزن وتوجُّع وخجل مع الإحساس بالهم الثقيل من جراء تذكرنا لخطايانا، هذا هو الذي يجعل رأسنا تسقط على صدرنا من تلقاء نفسها، هذا الندم مع الحزن الشديد الذي يجعل الإنسان غير قادر بالمرة أن يرفع رأسه نحو السماء، هو موقف يتناسب مع الحضرة الإلهية وأمام الجسد والدم، إنه موقف مطلوب في هذه اللحظات الحرجة.
الفريسي في مَثَل المسيح رفع رأسه نحو السماء معتمداً على صومه وصدقته وطهارته وعدله: «اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ... أصوم مرتين في الأسبوع وأُعشِّر كل ما اقتنيته.» (لو 18: 11 و12)
ولكن للأسف بالرغم من كل هذا فإن الله لم يرفع وجه الفريسي، فالمسيح يقول إن العشار نزل مبرَّراً دون الفريسي ...
وبمعنى أوضح فإن الصلاة والصوم والصدقة وطهارة الجسد مع العدل والتعفُّف كل هذه لا تستطيع وحدها بدون توبة أن ترفع وجه الإنسان أمام الله، لأنه بعد كل هذه الفضائل وأكثر منها يظل الإنسان بلا قدرة ولا استطاعة ولا حق أن يرفع رأسه أمام الله ... الخطية تمنع الإنسان أن يرفع رأسه بتاتاً ... الذي برَّر العشار هو أنه أحنى رأسه إحساساً منه بأنه غير مستحق أن يرفع عينيه نحو السماء، وعلى الوجه الأصح فإنه لم يستطع قط أن يرفع رأسه لأن خطيته كانت ماثلة أمامه في ذلك الحين ...
إن توبة العشار واعترافه بالخطية مع انسحاق نفسه وانكسار قلبه الذي ظهر في إحناء رأسه وقرع صدره أمام الله جعلت صلواته وصدقاته مقبولة لدى الله، الله برَّر العشار لما دان العشار نفسه.
حينما ينادي الشماس بإحناء الرأس فإنه يدعو إلى دينونة النفس حتى تؤهَّل لتبرير الله بواسطة الجسد والدم.
الكنيسة في هذه اللحظات تقف كلها تائبة منحنية الرأس تطلب الغفران، الشعب كله يكون مدعواً بهذا النداء أن يسترجع في حياته العشار، لذلك يُقال إن الكنيسة جماعة تائبين.
الكاهن يهتم أن يسأل المتناولين في أيام الصوم عن صومهم ولا يهتم أن يسألهم عن توبتهم ... الأمر هنا يحتاج إلى مراجعة، فالله لم يهتم إطلاقاً بصوم الفريسي مع كل صدقاته وتطهيراته لأنه كان خالياً من الانسحاق والتوبة والاعتراف بالخطية ... في حين أن التوبة برَّرت العشار في نظر الله وأهلته أن يكون صاحب صوم مقبول وصلاة مسموعة!
فالتوبة وحدها هي التي تجعل الصوم صوماً، وبدونها لا يُحسب الصوم شيئاً. إذن فالصوم بدون توبة لا يبرِّر ولا يؤهِّل للتناول.
الكنيسة جعلت من إحناء الرأس طقساً للتوبة، إنها مهارة من الكنيسة وحذق من الروح القدس أن يشكل من الطقس دعوة لتوبة جماعية ينادَى بها في كل صلاة كشرط أساسي للتناول من الجسد والدم. التوبة الجماعية هي أقدر الوسائط جميعاً في توحيد الجماعة، لأن الكل من جهة الخطية واحد ومتساوون: «أغلق على الجميع معاً في العصيان لكي يرحم الجميع.» (رو 11: 32)
إن نداء الشماس للشعب وكل الإكليروس بإحناء الرأس والوقوف موقف العشار قبل التناول مباشرة هو في الحقيقة دعوة للوحدة من تحت تأثير واحد بالشعور بالخطية، الجماعة المتحدة هنا بشعور الندم والتوبة تؤهِّل لكي تشترك في الجسد الواحد والدم الواحد للتبرير، وهنا الجماعة كلها تنزل إلى بيوتها مبرَّرة.
الكنيسة هنا تبنَّت موقف العشار بفضل الطقس الذي جمع القلوب معاً ونبهها لتوبة واحدة في وقت واحد، والروح القدس في هذه اللحظات يجعل من جماعة الخطاة التائبين جماعة قديسين ومن القرابين قُدسات للقديسين.
يا ما أعجب الطقس! ويا ما أعجب الروح القدس في الكنيسة! إنه يُتعجَّب منه حقاً، ولكن هل من مزيد من المعرفة؟ وهل من مزيد من توجيه للشعب حتى يعرف كيف يشرب الروح القدس وكيف يرتوي من نعمة الله وكيف يتوب ويتوحد معاً تحت شعور واحد بالندم؟؟
أعَلِمتُم يا أحبَّة كيف ومتى يصرخ الكاهن: ”القدسات للقديسين“؟ أو كيف يصير الشعب بالجملة جماعة خطاة منسحقين منحنين من جراء انكسار القلب تحت وطأة الشعور بالخطية؟ ثم كيف يرفع الروح القدس وجه الكنيسة مرة واحدة عندما يقبل الشعب جميعاً التبرير من الله كاستجابة لانسحاقهم وانحناء رؤوسهم وقرع صدورهم حسب قول وصدق الكتاب: «إلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي» (إش 66: 2)؟ فحينما يقول الكاهن: ”القدسات للقديسين“ يعني أن الله قَبـِلَ توبتهم ورفع وجههم وأكمل تبريرهم بسبب اعترافهم، وصاروا قديسين بفعل الغفران ومستحقين للجسد بفعل التبرير.
ولكن قبل أن يصرخ الكاهن بصيرورة القدسات (الجسد والدم) من استحقاق الشعب التائب، يصرخ أيضاً الشماس بدوره مخاطباً الكاهن ومشجعاً إيَّاه، بعد أن يكون قد اعترف لتوه بخطاياه أمام الله بانسحاق كثير وحزن مع تذلُّل عندما يقول: [اذكر يا رب ضعفي أنا أيضاً واغفر لي خطاياي الكثيرة. وحيث كثر الإثم فلتكثر هناك نعمتك ومن أجل خطاياي خاصة ونجاسات قلبي لا تمنع شعبك نعمة روحك القدوس]. فيرد عليه الشماس في الحال: ”خَلُصت حقاً“!!
عجيب طقس الكنيسة القبطية، فإنه حينما يضع الشعب تحت دعوة الانحناء وقرع الصدر ونداء التوبة لا يستثني الكاهن، فالكاهن في القداس القبطي خاطئ وتائب عن نفسه ومعترف عن خطايا الشعب وممثل لتوبتهم، وحصول التبرير لا ينسى أيضاً نصيب الكاهن إذ قد صار بالانسحاق والتوبة قديساً ونائباً عن قديسين، وأنه لمن روائع القداس القبطي أن يخاطب الشماس الكاهن معلناً له الخلاص!! وبالنهاية نجد أن القداس يلهمنا روح التوبة الجماعية كشرط مسبق للخلاص والتبرير بجسد ودم المسيح.
واضح إذن أن القداس يعطينا إلهاماً واضحاً عن قيمة التوبة الجماعية والاعتراف مع الانسحاق أمام الله كشرط مسبق لحلول الروح القدس على القرابين وعلى الشعب والكاهن معاً: [ليحل روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة ...]. حتى تصير القدسات للقديسين ...
القداس أبقى لنا الصورة الكاملة عن كيفية التوبة الجماعية وضرورتها كما يطلبها الروح القدس من الكنيسة بكل دقائقها وترتيبها وشكلها ونتائجها الحتمية، أما المضمون والممارسة العملية والتطبيق والحصول على النتائج الفعلية فقد ظلَّت كلها متعطلة تماماً على مستوى الجماعة، لا ينتبه لها إلا الأفراد وأفراد قليلون، الهيكل يشهد بذلك، فالمتناولون دائماً لا يزيدون عن واحد في المائة أو ربما أقل، مع أن الروح يدعو الجميع بلا استثناء للأكل من الجسد والشرب من الكأس لأنها دعوة حياة، والله لا يدعو للحياة بشح أو باستثناء أحد بل الكل مدعوون للخلاص: ”خذوا كلوا منه كلكم، خذوا اشربوا منها كلكم“ (القداس الإلهي)!!
والمدعوون للخلاص مدعوون مسبقاً للتوبة، ثلاث مرات ينادي الشماس في القداس حسب الأصول الكنسية المضبوطة داعياً الشعب والإكليروس للاعتراف بالخطية وإحناء الرأس لأخذ الحِلّ والبركة والتطهير:
الدعوة الأولى بعد رفع البخور في باكر وعشية، والدعوة الثانية في بداية قداس الموعوظين، والدعوة الثالثة قبل التناول مباشرة.الأُولى لأخذ الحِلّ، إما للاستحقاق لبدء أعمال اليوم بطهارة وبر في رفع بخور باكر وإما للاستحقاق للنوم بطهارة وبر في رفع بخور عشية.
والثانية في بداية قُداس الموعوظين لأخذ الحل، لاستحقاق سماع الإنجيل المقدَّس بطهارة وبر حتى تسكن كلمة الحياة فينا.
والثالثة قبل التناول لاستحقاق الاشتراك في جسد المسيح ودمه بطهارة وبر مع جميع المتناولين كجسد واحد.
التوبة في القداس توبة جماعية، توبة شعب، توبة كنيسة بأكملها بإكليروسها ذي الطغمات السبعة، لأن الكل مدعو للاشتراك في جسد واحد ودم واحد. الكل مدعو أن يصير جسماً واحداً وروحاً واحداً، لذلك تحتَّم أن تكون التوبة مشتركة: الكبير والصغير معاً، الطفل والشيخ، الكاهن والقيِّم، الأسقف نموذج يحتذى، المسيح في غسله أرجل تلاميذه أشار إلى التوبة إشارة سرية، فالغسل عموماً هو غسل خطايا «اغسلني فأبيضّ أكثر من الثلج» (مز 50: 7) الغسل في أصوله الأُولى معمودية، المعمودية تطهير كامل من الخطايا بل هي بمثابة خلع جسم الخطية نفسه ولِبْسُ إنسان البر إنسان الروح.
ولكن لأن المعمودية لا تُعاد، إذ هي ولادة سماوية والولادة لا تتكرر، لذلك اكتفى المسيح بغسل أرجل تلاميذه قبل التناول من جسده المقدس ودمه الطاهر.
هنا غسل الأرجل بمثابة إعادة تطهير الأعضاء التي اتسخت، كناية عن رفع أثر الخطايا التي استحدثت بعد المعمودية فقط، والكلام عن ذلك واضح من موقف بطرس الرسول، إذ لما امتنع بطرس عن غسل رجليه قائلاً: «لن تغسل رجليَّ أبداً»، أنذره المسيح أنه إذا لم يغسل رجليه فلن يكون له نصيب معه، أي سيُمنع من الاشتراك في سر الاتحاد بجسده ودمه إذ تكون خطيته مازالت عليه: «إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب» (يو 13: 8). الغسل هنا بلا شك عمل جوهري إلى أقصى حد إذ يختص باستحقاق شركة الحياة مع المسيح وهو بلا شك عمل سري خالص. فغسل الرجلين في حد ذاته لا يمكن ولا يعقل أنه يؤهل صاحبه إلى نوال نصيب مع المسيح، إذن هو عمل سري، إجراء يتم في الظاهر على صورة مبسطة للغاية، غسل رجلين، وفي حقيقته يكمل استحقاق حياة أبدية، شركة في جسد ودم المسيح للاتحاد به ونوال نصيب دائم معه، الغسل هنا ينصبُّ بلا شك على الخطية ورفع آثارها المستجدة بعد المعمودية، لأن بطرس لما تمادى بعد ذلك في طلب غسل يديه ورأسه أيضاً وليس رجليه فقط بعد أن أزعجه إنذار المسيح، أجابه المسيح: «الذي اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله وأنتم طاهرون ولكن ليس كلكم» (يو 13: 10). هنا كلمة المسيح «الذي اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه» يشير إلى غسل المعمودية، أي أن الذي اعتمد ليس له حاجة - عند التناول - إلا إلى غسل رجليه. وغسل الرجلين هنا هو سر إضافة تطهير لاحق على تطهير المعمودية السابق، أي غسل الخطايا المستجدة غسلاً سريّاً بيدي الرب.
الكنيسة تذكِّرنا بغسل الأرجل حينما تأمر المتناولين بخلع أحذيتهم قبل الدخول إلى الهيكل. المسيح يباشر تطهيرنا في هذه اللحظات بغسلنا خفياً وسراً من خطايانا التي نعترف بها ونندم ونتوب عنها ... وكان من ضمن الطقوس الأساسية في الكنيسة القبطية غسل الكاهن لرجليه قبل دخوله الهيكل بواسطة مرحضة نحاس كانت توضع على عتبة باب الهيكل الجانبي، ولكن هذا الطقس سقط من ترتيب الكنيسة بسبب الإهمال. أما غسل الكاهن لرجليه قبل بدء القُداس فهو واضح جداً أنه جزء مكمل لسر الإفخارستيا بحسب الترتيب الذي باشره الرب بنفسه. وغسل الكاهن لرجليه يتضمن سر تطهير داخلي بعمل تواضع المسيح الخفي يؤهِّل للاشتراك في تقديم الذبيحة. وبهذا نجد أن الكاهن كان يباشر فعل توبة واغتسال وتطهير علني أمام الشعب!
وهكذا نجد أن روح القداس يقوم على توبة جماعية وانسحاق وتذلل واعتراف بالخطية يكون فيها الكاهن كمتقدم ونموذج صادق لكل الشعب، وإلا لا يتم الحصول على شركة ونصيب مع المسيح.
لعل تغلُّب روح العصر على روح القداس، وروح العصر فردية استقلالية غير نادمة على الخطية وغير منسحقة على وجه العموم. الإنسان الآن لا يشعر بأي التزام جماعي في أي شيء لا في توبة ولا في شركة جسد الرب ودمه، الإنسان الحار بالروح يخشى في الكنيسة أن يقرع صدره أو يظهر بروح انكسار وتوبة وندم، لأن ذلك يصبح شيئاً غريباً ومستغرباً.
المتقدِّم للتناول يتقدم إلى الجسد والدم بصفة شخصية مفردة حرة من الجماعة، وكأن الأكل من الجسد والدم موضوع شخصي يأخذه الإنسان لخلاصه الخاص دون أي ارتباط بأي إنسان آخر.
لقد فقدت الكنيسة أعز وأثمن صفاتها الروحية وهي كونها جماعة متحدة وجسماً واحداً، وفقد القداس أعز وأثمن مفاعيله وهو كونه سر توبة جماعية وسر اغتسال جماعي وسر شركة جماعية في جسد واحد ودم واحد، حيث عمل الجسد والدم الأساسي هو توحيد الجماعة لتصير جسداً واحداً. الكنيسة صارت مجرَّد موضع راحة نفسية لبعض الأفراد، والقداس انحصر في دائرة الخلاص الفردي.
إن فقدان هذا العنصر الجماعي من الكنيسة أو من القداس، وهو فقدان لمضمون الشركة في جسد المسيح، قد ضيع علينا كل الصفات والمميزات الروحية التي تلازم الجماعة كالنمو الجماعي والحب الجماعي والحرارة الجماعية والكرازة الجماعية والصلاة الجماعية كما من قلب واحد التي كانت أعظم مميزات الكنيسة الأولى ... وهذا بالتالي عاد بأعظم الضرر والخسارة على روح المجتمع المسيحي والعالم كله.
الكنيسة تنتظر الآن نهضتها بفارغ الصبر، ولكن نهضة الكنيسة يستحيل أن يفتعلها أفراد. قد تبدأ حركة النهضة في الكنيسة بانتباه مبكر لبعض الأفراد، ولكن النهضة على وجه العموم يلزم أن تكون حركة جماعية. الروح القدس إذا نبَّه فرداً واحداً أو عدة أفراد في الكنيسة فهذا يكون للتبكيت والتوبيخ فقط، ولكن إذا نبَّه جماعة أو عدة جماعات فهذا معناه أن روح بعث وتجديد قد سرت في الكنيسة لبدء عصر نهضة واستنارة.
الروح القدس طيب ووديع جداً، ويمكن أن يُستدعَى ليعمل في الجماعة شريطة أن تكون الجماعة مجتمعة بنفس واحدة وروح واحدة تحت تبكيت الضمير والندم وطلب التوبة والاستغفار عن كل خطايا الكنيسة والعالم.
قد تكون التوبة الفردية عملاً شخصياً يتوقف على رغبة الإنسان ومزاجه واستعداده ومثابرته، ولكن التوبة الجماعية فرض والتزام على الكنيسة بالنسبة للوطن وللعالم. الكنيسة كجماعة، مسئولة مسئولية مباشرة عن الوطن وعن العالم. الكنيسة موضوعة في العالم لتفتديه ...
الحاجة في هذه الأيام إلى صوم جماعي وتوبة جماعية حتى تنجو بلادنا مصر وينجو العالم مما ينتظره!
_______________