كلمة للأب متى المسكين:
مِسْحَة الموت المُعطِّرة للجسد
(عن كتاب شرح إنجيل متى)
ان الطيب المسكوب على الجسد الحي من أجل تكفينه في بيت عنيا أول شركة مقدَّسة صادقة في موت المسيح. كانت هذه المسحة الأخيرة أول عبادة مقدَّسة للجسد الإلهي الذي ارتفع إلى السماء حيًّا ليحيي جسم البشرية ويبرِّرها. لقد رد المسيح طيب الناردين مضاعفاً باقياً أبداً لجسد البشرية الذي اتحد به ومنحه روحه وحياته وبنوَّته، بأن أجلسه عن يمين أبيه. وارتد تذكار هذه المحبة الخالصة الكثيرة الثمن لصاحبته من دور فدور وفي كل كنيسة وقلب كل عابد في العالم كله. ولقد صار ناردين البشرية المسكوب على جسد المسيح مدخلاً بديعاً للآلام ونبوَّة عن قيامة عتيدة تعطِّر تاريخ الإنسانية!
كان ذلك بحسب إنجيل ق. يوحنا قبل الفصح بستَّة أيام وبحسب الأيام كان مساء السبت 8 نيسان.
القديس متى عاشق للمقارنات، يضع قصة العطر والمسحة في بيت مريض شفاه المسيح، في مقابل بيت رئيس الكهنة الذي تفوح منه رائحة الدم والنتانة تتصاعد من أفواه وبطون الكبراء والرؤساء والمرؤوسين والمأجورين.
هنا يعفُّ ق. متى أن يمس بكلمة تلك المرأة صاحبة المحبة المحفوظة في قارورة الطيب إلى اليوم الذي ينبغي أن تخرج منه، لتعطي للجسد كرامته بل قداسته، إن لم يكن في أعين رؤساء الكهنة ففي عين الكنيسة إلى أبد الدهور. فالذي يمسح الجسد المسحة الأخيرة كاهن هو وأعظم من كاهن، فلمَّا خذل الكهنوت صَنْعَتَهُ واشتغلوا بالمؤامرات والقتل، قامت امرأة في إسرائيل كدبُّورة ترفع قرن الكهنوت عالياً وتطرح حقد التلاميذ وجشع يهوذا أرضاً لتقول قول دبورة: دوسي يا نفسي بعز!! وضمَّخت الجسد بالعطر قبل أن يُعرف له قبر!! ودهنت الرأس ولم تكن تعلم أنها دهنت رأس الكنيسة كلها. ولقد عبَّرت هذه المرأة الملهمة الذكية عن بهجة القيامة في وسط مؤامرات الموت وحبَّبت إليه القبر لمَّا اشتمَّ من قارورتها رائحة الصعود!
لقد تضاربت الأقوال على مَنْ هو صاحب هذا النقد غير الصائب، فالقديس يوحنا قال إنه يهوذا وهذا كان يليق به لأنه كان حامل الصندوق ويلتقط كل ما يدخل فيه. والقديس مرقس قال بعض التلاميذ متحشِّماً، وق. لوقا قال أحد الفريسيِّين حتى يزيح هذه السبَّة عن جبين التلاميذ. وهنا ق. متى يلقيها على التلاميذ كلهم - لأن ق. مرقس زاد القول أن التلاميذ كانوا يؤنِّبونها- حتى تصيب الكنيسة فيوعِّيها عن الخطأ والعيب. ولكن لا يفوتنا اتهام التلاميذ هنا عن أن يلقي الضوء على ضعف وانحراف دور التلاميذ في قصة الآلام الذي قد تنبَّأ عنه المعلِّم بقلب حزين: كلّكم تشكون فيَّ في هذه الليلة، هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرَّقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي. فكانوا يشكِّلون ثقلاً على المسيح، ولكن كشفوا في المقابل عن مدى سعة صدر المسيح وعفوه وحبّه وتسامحه ونعمته. وصدق ق. يوحنا إذ قال بصددهم: كان قد أحبَّ خاصته الذين في العالم أحبَّهم إلى المنتهى. وألقى ق. لوقا صدى هذا القول بقوله: شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألَّم. كما تنبَّأ المسيح عن بطرس حزيناً: سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ولكني طلبت من أجلك لكي لا ينفى إيمانك. ولكن وفي الحقيقة كان موقف التلاميذ مُخزياً للغاية!
”كَشْفٌ فاضحٌ وتقريرٌ لاذع وتعقيب على غيظهم يَرُدُّ غيظهم إلى بطونهم. هم قالوا هذا التصرُّف فيه إتلاف فردّ الرب عليهم وقال هذا الرد فيه إزعاج. هم قالوا أن يُباع أحسن، والمسيح قال إنها عملت الأحسن. هم قالوا الفقراء أفضل والمسيح ردَّ عليهم بل أنا الأفضل! فماذا بقي لمشورة التلاميذ؟ لقد استطاع ق. لوقا في إنجيله أن يرى في تصرُّف التلاميذ هذا عملاً عدائياً للمسيح فاستكثره على التلاميذ فنسبه إلى أحد الفريسيين!! فكان هذا أفضل تعليق على الوضع بأكمله دون أن يجرح التلاميذ وهو بذاته أشد من الجرح!!
”تبًّا للمبادئ والأصول وقياس الأفضل مالياً إن كان فيها احتقار للمحبة، ويا ليتها محبة مقدَّسة لإنسان محتاج ولكن لمسيح قادم على الصليب. إن القلم يكاد يخرج عن طاعتي حينما أعيد الفكر فيما صنعه التلاميذ، ولكن شكراً للرب فقد قال ما يكفي. آه لو دري جميع الفقراء بما قاله التلاميذ، لتبرعوا بثمن خبزهم شهراً ليقدِّموا نفس قارورة الطيب وفي نفس وقتها ولنفس الغرض ويبقوا هم جياعاً مسرورين إذ يكونون قد قدَّموا طيباً لتكفين الجسد الذي حمل عنهم خطاياهم وفتح لهم باب الملكوت! وكم وكم تحمَّل الفقراء ألوف وملايين من الأموال التي نُهبت على اسمهم وما دروا وما سمعوا عنها شيئاً!! والقديس متى يصمِّم أن يجعل من قصصه تعليماً للكنيسة طالما بقي لها ضمير!!
”على أن الدرس الأكبر الذي نخرج به من قول المسيح إنها عملت بي عملاً حسناً وإن الفقراء معكم كل حين، هو أن العبادة لله بالروح أعلى شأناً من إعطاء الحسنات، وتوقير شخص المسيح بالحب أرفع من خدمة الفقير. لذلك نحن نرى في قول ق. مرقس من أجل ترك العالم والأسرة أن يكون ذا اتجاهين هكذا: من أجلي ومن أجل الإنجيل اتجاهاً سريًّا خطيراً لتقنين بيع العالم وما فيه حبًّا للمسيح وحده، وتقديم ذبيحة النفس طوعاً لعبادته، على نفس المستوى تماماً لتقديم الذبيحة لخدمة الإنجيل والكرازة باسمه. وعلى القارئ أن يزنها جيداً، فهي سند إنجيلي قوي للذين كرَّسوا الروح والنفس والجسد لعبادة الرب بالروح والحق!!
لذلك تجدنا أيها السامع العزيز أمام لغز هذه المرأة - التي نعرف بحسب تأكيد إنجيل ق. يوحنا أنها مريم أخت لعازر - التي لفتت نظر الكنيسة بقوة نحو حياة الجلوس تحت قدمي الرب باعتباره اختيار النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها، أفضل مما اختارت مرثا بالارتباك والاهتمام بأمور الخدمة الكثيرة. ثم تعود هنا وتظهر بقارورة طيبها التي لم تكن إلاَّ حياتها تكسرها وتدهن بها الجسد لتطيِّبه حبًّا فأراحت نفسه، وردَّ جميلها بأجمل منه إذ جعل حياتها هذه سواء بجلوسها تحت قدميه تسمع وتتأمَّل فيما تسمع، أو بتحويشة العمر لتسكبها على رأسه والجسد وتبل رجليه بدموعها كعهد تَـقْـوَى، وتمسحهما بشعرها لترتد لها مسحة قداسة، جعل حياتها في الكنيسة عملاً وذكرى وتذكاراً حسناً.