القيــامـــــة
للأب متى المسكين
هذا هو هتاف الكنيسة الأولى الذي ألهب الروح فيها، مُنبئاً بافتتاح عصر الملكوت.
في يوم الجمعة العظيمة استودعنا آدم في المسيح بلحن ”غولغوثا“، ميِّتاً على الصليب.
وفي السبت الكبير دفنَّاه بأطياب وحنوط للجسد، وبموته انتهى عصر البشرية العتيقة.
واليوم ينبثق نور الحياة الجديدة من ظلمة قبر الإنسان الأول، ويقوم المسيح، الإنسان الثاني، مِن بين الأموات باكورة الخليقة الجديدة ورأسها، مُعلِناً بداية عصر الدهر الآتي وظهور ملكوت الله داخل القلوب.
يوم الجمعة العظيمة كان أعظم أحداث الخليقة قاطبة. كان يوم تصفية ليس لكل خطاياها وأوجاعها التي حملها المسيح في جسده على الصليب فحسب، بل كان تصفية جذرية ونهائية لعنصر الظلمة ورئيسها وجوهر الخطيئة ذاتها وينبوعها. لقد دان الله الخطيئة والعالم في الجسد، فمات المسيح على الصليب حاملاً في جسده لعنة آدم وكل بنيه، وشوكة الموت مغروسة في جبينه. وبموت البار من أجل كل الأَثـَمَة بل من أجل البشرية الأثيمة كلها، تمَّ حُكْم الناموس في كل ذي جسد!!
فإن القيامة التي أكملها الرب في اليوم الثالث وفي الجسد الميت ذاته، بذات جروحه المميتة العميقة الغائرة وجنبه المفتوح، هي بالنسبة للمسيح قيامة من بين الأموات؛ أما بالنسبة لجسد آدميتنا الذي مات به فهي خليقة جديدة: عندما انتهى العالم إلى قرار صلب المسيح، قال الرب لصالبيه:
فإن كانت القيامة بالنسبة للمسيح هي أولاً وبالضرورة قيامة:
إن القيامة التي قامها المسيح بكل مجدها وهباتها لم تأتِ من فراغ بل بدأت من قبر ومن ظلمة، من موت حقيقي، من تسليم كلِّي للذات في يدي الآب، من طاعة شُجاعة مُذعنة مُريدة سارت بأقدام الحب حتى الموت، موت الصليب!!
يستحيل أن نذوق القيامة ونحن لم نُكمِل واجبات الموت وطقوس الدفن الإرادي، لأن الذي يريد أن يقوم مع المسيح يتحتَّم عليه أن يعتمد لموته ويُدفن معه بإرادته حيًّا.
يستحيل أن ينقلنا الآب إلى نور ملكوت ابن محبته، ونحن فينا شيء من الظلمة. لا يمكن، بل ويستحيل أن تعْبُر فالإنسان الجسدي والإنسان الروحاني كلاهما يعيش في هذا العالم، وكلاهما يفرح ويحزن ويطمئن ويندم ويجوع ويعطش وينام ويؤدِّي كل مهام هذه الدنيا. ولكن الأول يعيش ويعمل كل شيء للجسد ومن أجل الجسد وخوفاً على الجسد وحباً للجسد، ويموت مع الدنيا؛ والثاني يعيش ويعمل بالروح لمجد الله فقط. لذلك فهو يعيش فوق الدنيا ولا يذوق الموت أبداً.
لا يمكن بل ويستحيل أن يَعْبُر الإنسان إلى دائرة القيامة والحياة الأبدية وهو بعد يعيش بالجسد أو من أجل الجسد أو خوفاً على الجسد أو حباً في الجسد.
هوذا الله قد خلق، بقيامة المسيح من بين الأموات، كل شيء جديداً، لأن الأمور العتيقة مضت كلها، لقد تصفَّت نهائياً على الصليب، مع كل ما لا ينسجم مع ملكوت الله.
لقد جمع الله في ابنه كل معاثر بني آدم مع تفاهات البشر وكل ما كان يعوِّقهم عن الله وما كان يعوِّق الله عنهم، وصلبها في جسده؛ حيث ماتت الآدمية عن كل ماضيها في الخطيئة والتعدِّي، ثم أكملت كل مستلزمات موتها في القبر والهاوية. ثم أقامها المسيح معه في اليوم الثالث خليقة أخرى جديدة فيه ومنه، ليس فيها ما يعوِّقها عن المسير في جدَّة الحياة وبمقتضى ناموس الروح في ملكوت الله. وكأنما قوة الصليب بمفهومه كموت حقيقي قد صارت لنا باب الخلاص من كل ما يعوِّق الخلاص، حيث بقوة موت المسيح يموت الجسد وتموت فيه كل الأهواء مع الشهوات، ويموت العالم من داخل النفس ويخلص الإنسان من طوفان هلاك محيط. بالصليب انتهى دهر الصليب صار كسيفِ لهيب النار المتقلِّب لحراسة الطريق المؤدِّي إلى ملكوت الله حتى لا يدخله أحد ولا شيء ما من الخليقة العتيقة!!
والقيامة هي الباب الجديد الذي افتتح به الرب أزمنة الخلاص وبهجة الملكوت وأنار طريق الخلود.
أما أزمنة الخلاص وبهجة الملكوت والحياة مع المسيح، فلا تبتدئ من القيامة بل من خلف آلام الصليب؛ حيث في سرِّ الألم والموت يعتمد الإنسان للمسيح لميلاد حياة جديدة وقيامة ليس فيها للألم أو الموت سلطان بعد على حياة الإنسان، إلاَّ ما هو لتعميق الخلاص وكشف الرؤيا وتسهيل العبور.
أما الصليب بالنسبة للسائرين في بداية الطريق نحو الملكوت السعيد فيبدو ثقلاً لابد منه، يسألون بلهفة وحزن النفس لو أمكن أن يَعْبُر أو يعبروا من دونه، وكأنهم يريدون أن يلبسوا مسكنهم السمائي على العتيق المُرقـَّع.
أما بالنسبة للذين استحثوا المسير وقاربوا النور، فيبدو الصليب أمامهم ضرورة حتمية، من أجلها بدأوا وعلى أساسها ساروا.
أما بالنسبة للذين هلَّت عليهم نسمات القيامة من بعيد، واستمعوا لنشيد الخلاص الصادق من وراء أسوار الجسد، واستيقظت أرواحهم واستعدَّت للحدث العظيم الآتي؛ فيبدو الصليب أمامهم وكأنه هبة الله العظمى ورحمة السلام الحقيقي وباب الخلاص، الذي جعل العبور من الموت إلى الحياة ومن الظلمة إلى النور ومن سلطان الشيطان إلى ملكوت الله ومن وُثـُق الجسد العتيق إلى حرية أولاد الله في المجد؛ جعله أمراً ممكناً ومضمونـاً بعد أن كان شيئاً مستحيلاً! وهكذا:
ويلاحظ هنا في هذه الآية أن
أما في قيامته فلا يتأتَّى أن نتحد به تلقائياً، إذ يتحتَّم أن المسيح القائم من بين الأموات يدخل إلينا: