من تاريخ كنيستنا
|
|
|
طريقة اختيار البابا البطريرك الجديد:
لما تنيح البابا سينوتيوس، اجتمع أهل الإسكندرية والأساقفة والكهنة والأراخنة، وتشاوروا فيمَن يُجلسوه على الكرسي المرقسي. هكذا يفتتح كتاب "تاريخ البطاركة" سيرة البابا خريستوذولوس.
وقد بدأ في كتابة سيرة هذا الأب البطريرك، الشماس السكندري موهوب بن منصور بن مِفْرج الإسكندراني. وقد استعرضوا أسماء بعض الشخصيات واحداً واحداً مع ذِكْر أعمالهم وفضائلهم. وكان من بينهم راهب إيغومانس في دير القديس ساويرس من أديرة الهيناتي (كلمة يونانية معناها التاسع، أي الدير الواقع في الميل التاسع)، وشيخ قديس آخر كان كاهناً من كهنة الإسكندرية اسمه يؤانس، وكان إشبين أي معلِّم راهب آخر اسمه علوان بن زكريا. ثم ذكروا اسم الأب خريستوذولوس وكان راهباً قساً في دير البراموس بوادي هبيب (وادي النطرون)، قد مضى إلى صومعة عند البحر (بحيرة البرلس في نستروه - مركز دسوق) وحبس نفسه فيها.
ولما ذُكِرَ اسم "خريستوذولوس" في المجمع المذكور سابقاً، اتفق رأيهم على اختيار خريستوذولوس هذا. فتوجَّه إليه عشرة من مقدِّمي مدينة الإسكندرية مع كهنة وبعض أفراد الشعب، ولما وصلوا إليه التمسوا أن ينزل إليهم لكنه امتنع، إلى أن أحضروا له رجلاً كان قد تتلمذ له اسمه ابن زكريا بن مرقوريوس، فصعد إليه في صومعته وظل يُلاجج معه إلى أن وافق على ما يريدون، وكان لا يملك من حطام الدنيا إلاَّ "درهمين ونصف درهم وربع درهم"، أي عدة قروش بعملتنا الحالية. ونزلوا جميعهم معاً إلى الإسكندرية، وكرَّسوه في شهر كيهك سنة 763 للشهداء / 1047 ميلادية.
ويقول عنه كاتب سيرته في كتاب "تاريخ البطاركة": "وكان الروح القدس معه". ثم توجَّهوا إلى دير أنبا مقار وصلُّوا هناك حسب العادة المتَّبعة، ويؤكِّد كاتب سيرته: "وكانت قسمته من الله" (يقصد أن اختياره ورسامته كانا بحسب القوانين الكنسية المرعية وبموافقة من الشعب والإكليروس).
بداية خدمة حبريَّته:
بعد قسمة البابا خريستوذولوس، بدأ خدمته بتكريس ست كنائس في الإسكندرية. وأولى هذه الكنائس: كنيسة على اسم يوحنا المعمدان ويوحنا الإنجيلي، وكنيسة على اسم الشهيد مرقوريوس، وكنيسة على اسم رئيس الملائكة روفائيل، وكنيسة على اسم الشهيد مارمينا، وكنيسة على اسم مارجرجس، وتجديد كنيسة مار مرقس (التي كانت بيت إنيانوس ثاني أسقف على الإسكندرية بعد مار مرقس الإنجيلي).
وفي يوم تكريس كنيسة رئيس الملائكة روفائيل، رسم البابا 16 أسقفاً، واشترط عليهم أن لا يمدُّوا أيديهم إلى أموال الكنيسة، وكان ذلك بسبب أن ما يُدفع للكهنة من أموال الكنائس ضيَّق علي الصرف على عمارتها.
وكان ذلك في اليوم الثامن من مسرى سنة 764 للشهداء / 1048 ميلادية. وفي نفس اليوم كتب مجموعة قوانين تُنظِّم العلاقات داخل الكنيسة (وهذه القوانين مُسجَّلة ضمن مجموعة قوانين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، باسم: قوانين البابا خريستوذولوس).
سفر البابا إلى مصر:
ومن بعد تكريسه في الإسكندرية ثم الصلاة عليه في دير أنبا مقار، توجَّه إلى القاهرة حيث كانت عادة البطاركة الذين قبله أن يُصلُّوا في كنيسة القديس سرجيوس (أبو سرجة) بقصر الشمع، حيث إنها كانت تُسمَّى "الكاثوليكا" أي الكنيسة الجامعة بمصر.
فلما وصل الأب البطريرك إلى ""فسطاط" مصر، اجتمع إليه كهنة كنيسة العذراء بقصر الشمع المعروفة بالمعلَّقة، وقالوا له: "كيف تَدَعْ كنيستك وتمضي إلى كنيسة أبي سرجة التي هي كنيسة أسقف مصر؟" وجرى بين كهنة هاتين الكنيستين منازعة وخصومة، إلى أن مضوا بالأب البطريرك إلى كنيسة العذراء (المُعلَّقة) منعاً للخصام، وكرَّسوه فيها.
وكان مع الأب البطريرك يومئذ 24 أسقفاً شيوخاً قديسين مُقدَّمين. وقدَّس معه في ذلك اليوم أنبا فيلوثاوس أسقف مصر الذي يوجد مقرُّه في كنيسة أبي سرجة. ولكن مع ذلك، حدثت خصومة أخرى من أرشيدياكون كنيسة أبي سرجة واسمه "أبو الفرج"، لأن البابا عدل عن الذهاب إلى كنيسة أبي سرجة التي اعتاد البطاركة الجُدُد الصلاة فيها فور رسامتهم.
ولكن بعدئذ حضر البابا إلى كنيسة أبي سرجة وصلَّى فيها وأزال السجس (سوء الفهم) الذي حدث، واعتذر بأنه إنما مضى إلى كنيسة العذراء (المُعلَّقة) قطعاً للخصومة التي جرت بين كهنة الكنيستين لئلا يتفاقم الأمر بينهم. ويُعلِّق كاتب السيرة مرة أخرى: "وكان الروح القدس قريباً منه".
استشهاد شاب عمره 22 سنة:
على الرغم من الخصومات التي جرت بين الكهنة وبعضهم البعض، إلاَّ أن الشعب كانت فيه حياة وشهادة للمسيح.
فتسرد سيرة البابا خريستوذولوس قصة شاب صغير عمره 22 عاماً، واسمه "فام"، وكان ابن أخت أنبا جورجي أسقف ميسارة (مركز ديروط). كان هذا الشاب قد غيَّر دينه، فرفضه أبوه وأُمه وأبعدوه عنهم، لكنه رجع إلى صوابه وعاد لإيمانه المسيحي. فتوجَّه إلى كنيسة الملاك ميخائيل وأقام بها أياماً، ثم فكَّر في الدخول إلى دير أنبا مقار بصحبة بعض الرهبان الذين أشاروا عليه بذلك. فلما بدأوا في المسير إلى الدير، قال لهم: "ما منفعتي إذا مضيتُ معكم إلى تلك البرية ولم أعترف بالمسيح في الموضع الذي أنكرتُه فيه". ثم تركهم وشدَّ زنَّاره (الذي كان يُميِّز المسيحيين عن غيرهم)، وخرج يمشي في أسواق مصر.
وكان أبوه واسمه "بقوره" الصوَّاف يتعامل مع وزير اسمه "عُدَّة الدولة رِفْق" الذي كان يعمل كمتولِّي القصر وقريباً من الملك "مُعدّ المستنصر بالله".
فلما رأى المسلمون هذا الشاب مُتمنطقاً بالزنار في وسطه، وقد كان مسلماً، أخذوه ومضوا به إلى الشرطة. فاعتقله الوالي وضيَّق عليه. فمضى أبوه إلى صديقه المتولِّي على القصر "عُدَّة الدولة رفق" ليطلب وساطته، وعرض عليه أن يدفع له مبلغاً كبيراً من المال مقابل أن يُخلِّص ابنه. فردَّ عليه المتولِّي: "ما أقدر أن أفعل شيئاً، إلاَّ أن يرضى ولدك بأن يُعلن أنه مجنون، وأنا أُرسل له في الحَبْس شهوداً يستجوبونه، وأنا أُطلق سراحه بالرغم من أنه مسيحي". وكان معه في الحَبْس راهب سرياني، هذا أخذ يعظه ويُنير قلبه، ويُظهِر له طريق الشهادة واستعداد الموت على اسم المسيح، حتى صار الشاب يشتهي الاستشهاد أحلى من الشهد، فصار يؤثره على الحياة.
فلما دخل إليه الشهود، كلَّمهم كلام العقلاء واعترف بالإيمان الحسن أنه مسيحي. فقالوا له: "إنما قيل لنا إنك فعلت هذا عن جنون أصابك". فردَّ عليهم: "لو كنتُ مجنوناً ما حفظتُ إيماني ومسيحيتي. وأنا بحمد الله عاقل مؤمن بالسيد المسيح له المجد". فمضوا به إلى الوالي، ثم إلى الوزير "عُدَّة الدولة رفق" وسردوا له حديث الشاب، فأمر الوزير بقتله.
فنزل حاجب السلطان مع الوالي إلى الشرطة، وأخذوا يُخاطبون الشاب ويُلاطفونه، وأَعلموه أنهم قد أُمروا بقتله. فلم يرجع عن الاعتراف بالرب يسوع المسيح.
فأخرجوه من سجن الشرطة، فتبعه قوم كثيرون من الناس والعسكر وغيرهم وبأيديهم العِصِي وآلات التعذيب، فلم يُمكِّنهم الوالي أن يمدُّوا أيديهم إليه.
ثم نزل الوالي عن بغلته، وكان عليها سرج ولجام وبها حِلْية ثقيلة ثمينة، وأخرج سيفه اللامع وجعله على السرج، وقال للشاب: "خُذ هذه البغلة وما عليها، وأنا أُثبِّت اسمك في ديوان السلطان "مُعدِّ المستنصر بالله"، وأجعل لك مبلغاً كبيراً تقبضه كل سنة، فقط ارجعْ عن هذا الرأي". فقال له "فام": "ولو دفعتَ لي مُلْك مصر، ما التفتُّ إليه". فرفع الوالي يده ولطمه، وكان في إصبعه خاتم ذهبي كبير، فورمت عينا الشاب فام من اللطمة والخاتم. ثم قال الوالي للسيَّاف: "جرِّد السيف"، فجرَّده. فقال للشاب: "انظره، فإنه قاطع". فقال له الشاب: "يا مولاي، وجريدة النخيل أيضاً تقطع". وهمَّ الرجال أن يعصبوا عينيه، فقال لهم: "ما حاجتكم إلى ذلك"، وقطع من كُمِّ ثوبه خِرقة عَصَب بها عينيه بيده، وركع على الأرض، وحوَّل وجهه إلى الشرق، فلكزه السيَّاف بمقبض السيف ليميل بوجهه إلى القِبْلة (أي إلى القبلي)، فلم يفعل. والتمس ماءً، فلم يَسْقِه أحدٌ. ثم ضُربت عنقه، فوقع باقي بدنه على الأرض، بينما ظلَّت الرأس ووجهه قائمين منتصبين إلى الشرق، حتى تعجَّب كل الحاضرين. وجعلوا أربعة يحرسونه في تلك الليلة، فرأوا بالليل نوراً عظيماً قد نزل عليه، ففزعوا، حتى أن اثنين منهم أصابهما الجنون، والاثنين الآخرين انصرفا من القاهرة ولم يُعرَف عنهما شيء إلى اليوم (أي وقت كتابة هذه القصة).
ولما بلغ هذا الخبر للملك "مُعدِّ المستنصر بالله" الخليفة، أمر بتسليمه لأهله ليدفنوه حيثما يريدون. فحمله أبوه إلى كنيسة الملاك ميخائيل بجزيرة الروضة، ودفنه خارج الكنيسة.
وفي اليوم الثالث، وصل الأب أنبا خريستوذولوس من دير الشمع إلى الكنيسة المذكورة، ولما وجدهم قد دفنوه خارج الكنيسة، أنكر ذلك عليهم، وقال: "شهيدٌ يُدفَن خارج الكنيسة؟" وأمر بهدم القبر ودخل به إلى الكنيسة. ثم كشف عنه الكَفَن ليُقبِّله ويتبارك منه، فوجد عليه دماً طريّاً كأنه قد خرج منه في تلك الساعة. فأخذ منه وصلَّبَ على ثوبه، وبنى مذبحاً هناك على اسمه، وكرَّسه، ودفنه مقابله على وجه الأرض.
ويقول كاتب سيرته في كتاب "تاريخ البطاركة": "وجسده باقٍ إلى الآن، هناك في كنيسة الملاك ميخائيل".
رسامة أنبا ميخائيل أسقفاً،
كاتب سِيَر عشرة بطاركة:
بعد ذلك قام الأب أنبا خريستوذولوس برسامة كاتب له يُعرف باسم: "أنبا ميخائيل" أسقفاً على تنِّيس. وكان رجلاً فاضلاً عالماً باللغة اليونانية، وهو الذي كتب سيرة عشرة بطاركة، أولهم: البابا ميخائيل الثالث (البطريرك 56، من سنة 880-907م)، وحتى البابا سينوتيوس الثاني (البطريرك 65، من سنة 1032-1046م).
ولما أراد الأب البطريرك مكاتبة أنبا يوحنا بطريرك أنطاكية، تقدَّم إليه الأسقف أنبا ميخائيل وكتب نيابة عنه الرسالة التقليدية المسمَّاة "السينوديقا" التي تعوَّد الآباء باباوات الإسكندرية إرسالها إلى بطاركة أنطاكية يُعلنون فيها إيمانهم الأرثوذكسي المستند على اعترافات الآباء القديسين معلِّمي الكنيسة.
وقد وضحت في هذه الرسالة بعض التعبيرات اللاهوتية الإيمانية القديمة التي وردت على لسان وأقلام آباء الكنيسة المعلِّمين والتي كانت باللغة اليونانية. وهذا يدلُّ أن اللغة اليونانية كانت ما تزال حيَّة على أقلام آباء كنيسة الإسكندرية.
وسار بهذه الرسالة مع أنبا ميخائيل، أنبا غبريال القديس أسقف صا (مركز كفر الزيات)، ويقول كاتب سيرة البابا خريستوذولوس عن هذا الأب: "كان شيخاً حينما رأيته عند دخوله إلى الإسكندرية لوضع اليد على رأس الأب البطريرك خريستوذولوس".
حادث عابر من بعض الأساقفة تجاه البطريرك،
وتدخُّل أحد الأراخنة الأقباط لتسويته:
إذ حدث أن اجتمع جماعة من الأساقفة حول أنبا يوحنا أسقف سخا (محافظة كفر الشيخ)، والذي كان كاتباً في البطريركية قبل رسامته أسقفاً، وبعض كهنة الإسكندرية، وذهبوا إلى القاهرة وتآمروا على خلع الأب أنبا خريستوذولوس، وادَّعوا عليه في ظاهر الأمر بأنه عند تقدمته لم تُقرأ عليه الصلوات التي جرت بها العادة أن تُقرأ على البطاركة (لم يذكر كاتب السيرة ما هي هذه الصلوات)؛ بينما في باطن الأمر كانت هناك خصومة بين الأب البطريرك وبين أنبا يوحنا أسقف سخا المذكور. فأخذ هذا الأخير مع باقي الأساقفة يُشنِّعون على الأب البطريرك، بينما لم يتصرف الأب البطريرك بأي تصرُّف، ولكن تدخل أحد الأراخنة الأقباط واسمه الشيخ أبو زكري يحيى بن مقاره القائم بأعمال ديوان المملكة، وأحضر للبابا هذا الأسقف (أنبا يوحنا أسقف سخا) في الكنيسة، واشترك مع البابا في القداس، وانصلح الحال بينهما. وهكذا بَطُلَ ما كان هؤلاء الأساقفة والكهنة قد أضمروا على فعله.
يقظة البابا لبعض العادات الطقسية الدخيلة،
وعمله على إبطالها:
فقد سافر البابا بعد ذلك إلى دمنهور، ومنها توجَّه في اليوم التالي إلى دمروا(1)، حيث المقر البطريركي حتى عهد البابا سينوتيوس الثاني، ومن هناك توجَّه إلى دير أنبا مقار. ولاحظ البابا أن عادة طقسية دخيلة استقرَّت بين بعض الرهبان وكهنة الإسكندرية، أنهم يستبقون القربان الذي تقدَّس في قداس أحد الشعانين من يوم الأحد إلى يوم الأربعاء الكبير. وكان معه هناك أنبا ميخائيل أسقف تنِّيس وكاتب السينوديقا.
فأنكر الأب البطريرك عليهم ما يفعلونه بخصوص القربان، وذكر لهم مساوئ ذلك: ما يدخل عليه من العفن والتغيير والدود، وغير ذلك. وأمر بإبطال ذلك، وحرم مَن يفعله فيما بعد. وكان ذلك بحضور جماعة من الأساقفة كانوا حاضرين معه هناك في دير أنبا مقار، وبحضور "بقيرة الرشيدي" الكاتب صاحب الصليب. وقد اعترض عليه بعض الرهبان، وحدث اضطراب؛ لكن الأب البطريرك قام بمنتهى الهدوء والحكمة، وأخرج من مكتبة المخطوطات بدير أنبا مقار ميمراً بهذا المعنى، وجعل أنبا ميخائيل كاتبه يقرأه على الجميع.
ويقول كاتب السيرة: "وأعان السيد المسيح هذا الأب على قطع تلك العادة وإبطالها إلى الآن. ولم يَعُد أحد بعد ذلك يُبقِي قرباناً في نهاية القداس، كما هو حاصلٌ في طقس الكنيسة حتى الآن".
(يتبع)
(1) دمروا، من المدن المندثرة. وكانت تُعرف باسم "دمرو الكنايس"، لأنها كانت مقرّاً للبطريرك، منذ أيام البطريرك زخارياس، وموضعها القديم بالقرب من المحلة الكبرى.