دراسة الكتاب المقدس
|
|
|
أحكام متعلِّقة بالمملكة والملك (17: 14-20):
كانت توصيات موسى السابقة عن القضاء والقضاة ووجوب الخضوع لهم. والآن ينتقل موسى إلى توصيتهم عمَّا يجب أن يُلاحظوه إذا فكَّروا في أن يُقيموا لأنفسهم مَلِكاً عليهم بعد أن يستقروا في أرض كنعان، فقال لهم:
+ «متى أتيتَ إلى الأرض التي يُعطيك الرب إلهك وامتلكتها وسكنتَ فيها، فإنْ قلتَ أجعل عليَّ مَلِكاً كجميع الأُمم الذين حولي. فإنك تجعل عليك مَلِكاً الذي يختاره الرب إلهك. من وسط إخوتك تجعل عليك مَلِكاً. لا يحلُّ لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيّاً ليس هو أخاك» (17: 15،14).
هذه الفقرة تتضمن أحكاماً تتعلَّق بافتراض قيام مملكة، وهي المرة الوحيدة التي جاء فيها ذِكْر هذا الافتراض في الأسفار الخمسة. إلاَّ أنه من المُلاحَظ أنها تأخذ صفة الافتراض وليس صفة الفرض لمطلب أساسي. ومعنى هذا أنه إذا استدعى الأمر إلى ضرورة قيام مملكة لأسبابٍ عملية براجماتية (واقعية)، فلابد أن يكون لها طابع خاص بالنسبة للملك الذي يختارونه. ولكنه لا يدخل في تفاصيل نظام هذه المملكة واختصاصاتها، وإنما يُعطي أوصافاً ومواصفات لِمَا يجب أن يكون عليه الملك في دولة ثيئوقراطية يحكمها الله، فهو الملك الحقيقي لإسرائيل. وأول هذه الشروط أن يكون هذا الملك مختاراً من الله. كما يلزم أن يكون الملك مُدرِكاً لوضعه البشري كإنسانٍ وسط إخوته، لذلك يُوصيهم موسى أن يُختار كواحدٍ من وسط إخوته. ولا يحلُّ لهم أن يجعلوا عليهم ملكاً أجنبيّاً، ليس هو أخاهم حتى لا يستعبدهم أو يتعالى عليهم، أو يفرض عليهم عبادة إله آخر من آلهة الأُمم، غير الإله الواحد خالق السموات والأرض الذي خلَّصهم من أرض العبودية وأعطاهم أرض كنعان ميراثاً لهم.
ويُحدِّد موسى هذا الافتراض بالوقت الذي بعدما يمتلكون الأرض ويسكنون فيها، وعندما يُقرِّر الشعب أن يجعلوا عليهم ملكاً أسوة بباقي الأُمم الذين حولهم. وفي الفترة بين الخروج وتأسيس مملكة في إسرائيل، كانت الأُمة في تلك الفترة هي الدولة الوحيدة المستثناة في الشرق الأوسط التي بلا ملك. وتُقدَّر هذه الفترة بحوالي أربعة قرون، كان الشعب خلالها تحت قيادة موسى النبي، وبعد موت موسى صاروا تحت قيادة يشوع بن نون. وبعد يشوع ظل الشعب فترة من الزمن بلا قائد يحكمهم، ومِن ثمَّ كان الرب بنفسه يُقيم لهم قضاةً يقودونهم ويحكمون بينهم، وكان آخر القضاة هو صموئيل النبي. وفي آخر أيام صموئيل «اجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاءوا إلى صموئيل إلى الرامة، وقالوا له: هوذا أنت قد شخت وابناك لم يسيرا في طريقك، فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب» (1صم 8: 5).
وهكذا جاء الوقت الذي تنبأ عنه موسى، الذي طلبوا فيه أن يجعل لهم ملكاً كسائر الشعوب. وإن كان الأمر قد ساء في عيني صموئيل، فصلَّى إلى الرب، إلاَّ أن الرب أجاب صموئيل قائلاً: «اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت، بل إيَّاي رفضوا حتى لا أملك عليهم» (1صم 8: 7،6). ورغم ذلك فقد استجاب الرب لرغبة الشعب وعيَّن لهم ملكاً من وسط إخوتهم، وهو شاول بن قيس من سبط بنيامين. ثم عزله وأقام لهم الرب داود ملكاً الذي من نسله جاء المسيح، والذي شهد الرب له أيضاً قائلاً: «وجدت داود بن يسَّى رجلاً حسب قلبي الذي يصنع كل مشيئتي، من نسل هذا حسب الوعد أقام الله لإسرائيل مُخلِّصاً يسوع» (أع 13: 23،22).
وهكذا تمَّم الرب وعده لداود، لأنه حينما عَزِمَ في قلبه أن يبني للرب بيتاً، لمَّا استكثر على نفسه أن يكون هو ساكناً في بيت من خشب الأَرز بينما تابوت الله ساكن داخل الشُّقق، فأجابه الرب على فم ناثان النبي قائلاً: «أأنت تبني لي بيتاً لسكناي؟ لأني لم أسكن في بيت منذ يومَ أصعدتُ إسرائيلَ من مصر إلى هذا اليوم... الرب يُخبرك أن الرب (هو الذي) يصنع لك بيتاً... ويأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك. كُرسيُّك يكون ثابتاً إلى الأبد» (2صم 7: 2-16). لذلك لما بشَّر الملاك العذراء القديسة مريم بميلاد الرب يسوع، قال لها عنه: «هذا يكون عظيماً وابن العليِّ يُدعَى، ويُعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لمُلكه نهاية» (لو 1: 33،32).
وهكذا يتَّضح لنا أنه عندما استجاب الرب لرغبة الشعب بأن يُقيم لهم ملكاً من وسط إخوتهم، كان ذلك إشارةً ومثالاً للملك الحقيقي الذي سيأتي من نسل داود أبيه ولا يكون لمُلكه نهاية.
توصيات موسى للمُقام مَلِكاً على بني إسرائيل:
+ «ولكن لا يُكثِّر له الخيل ولا يردُّ الشعب إلى مصر لكي يُكثِّر الخيل، والرب قد قال لكم لا تعودوا ترجعون في هذه الطريق أيضاً. ولا يُكثِّر له نساء لئلا يزيغ قلبه، وفضة وذهباً لا يُكثِّر له كثيراً. وعندما يجلس على كرسي مملكته يكتب لنفسه نسخةً من هذه الشريعة في كتاب من عند الكهنة اللاويين، فتكون معه ويقرأ فيها كل أيام حياته، لكي يتعلَّم أن يتَّقي الرب إلهه ويحفظ جميع كلمات هذه الشريعة وهذه الفرائض ليعمل بها، لئلا يرتفع قلبه على إخوته، ولئلا يَحيد عن الوصية يميناً أو شمالاً، لكي يُطيل الأيام على مملكته هو وبنوه في وسط إسرائيل» (17: 16-20).
أول هذه التوصيات هي أن «لا يُكثِّر له الخيل»: وكانت الخيل واقتناؤها بكثرة، تمثِّل القوة والغِنَى في الشرق الأوسط قديماً، بل وكان الاستخدام الأساسي لها هو في الحروب، وخاصة في المركبات العسكرية، وبدرجة أقل في سلاح الفرسان. إلاَّ أنه في تاريخ إسرائيل، في العصور المُبكِّرة، كانوا يعتمدون أساساً على المشاة في حروبهم. ومن حيث الاستراتيجية العسكرية، لا شكَّ أن المشاة أضعف في مواجهتها مع المركبات الحربية؛ إلاَّ أنه في المفهوم الروحي للأُمة الإسرائيلية، فليس الاعتماد على الكثرة ولا نوعية التسليح، بل على قوة الله وحضوره معهم في المعركة، كقول المرتِّل: «لن يخلُص الملك بكثرة الجيش، الجبَّار لا يُنقَذ بعِظَم القوة. باطل هو الفرس لأجل الخلاص وبشدَّة قوته لا يُنجِّي» (مز 33: 17،16). فقد اختبروا معونة الله لهم في الحرب ضد عدوٍّ مجهَّز بالمركبات والفرسان: «الفرس وراكبه طرحهما في البحر» (خر 15: 1-4)، فوجدوا أن ”قوَّته في الضعف تُكمَل“ (2كو 12: 9). وفي مراتٍ كثيرة على مدى تاريخ إسرائيل لم يخذلهم الرب قط عند اعتمادهم عليه مهما كانت قوة أعدائهم.
أما ثاني التوصيات للملك فهي قوله: «ولا يردُّ الشعب إلى مصر لكي يُكثِّر الخيل، والرب قد قال لكم لا تعودوا ترجعون في هذه الطريق أيضاً». ولعل القصد من ذلك أن لا يفتح علاقات دبلوماسية أو تجارية مع مصر، من أجل شراء خيل كثيرة. فقد كانت مصر تهتم بتربية الخيول والمتاجرة فيها. ولعل القصد من ذلك أيضاً أن لا يستعين الملك بملوك مصر في حروبهم ضد أعدائهم، لِمَا لدى المصريين من خيل وفرسان ومركبات حربية وخبرة في استخدامها في الحروب.
ويمكن أن يكون قصد الرب أيضاً هو تحذير الملك من أن يُقايض فرعون بأن يشتري منه خيلاً مقابل جنود مدرَّبين من إسرائيل، وهكذا تصير حصيلة الأمر هي عودة الشعب إلى عبوديتهم القديمة في مصر، وهو الأمر الذي لا يريده الرب لشعبه، والذي سبق وحذَّرهم منه قائلاً: «لا تعودوا ترجعون في هذه الطريق أيضاً» (انظر خر 13: 17؛ عد 14: 4،3). ومما يؤسف له أن ما طلبه الرب من الملك ألاَّ يفعله، قد ارتكبه بعض ملوك إسرائيل، بل وارتكبه واحد من أعظم الملوك وأحكمهم وهو الملك سليمان: «وكان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر» (1مل 10: 28).
كما أن بعض ملوك إسرائيل أيضاً، فيما بعد، اتَّكلوا على فراعنة مصر في حروبهم مع أعدائهم، من بينهم هوشع آخر ملوك مملكة إسرائيل الذي عصى على شلمناصَّر ملك أشور، وفكَّر في الاستعانة بسوا ملك مصر، وكانت النتيجة أن شلمناصَّر قبض عليه وسبى شعب إسرائيل إلى أشور (2مل 27). وبعد أن سبى نبوخذنصَّر ملك بابل شعب مملكة يهوذا إلى بلاده، فكَّر الباقون منهم أن يلجأوا إلى مصر رغم تحذير إرميا النبي لهم (إر 42: 10-22). ولما توجَّهوا إلى مصر لحق بهم نبوخذنصَّر ونكَّل بهم، حسب نبوة إرميا.
وقد وبَّخ إشعياء النبي بني إسرائيل وملوكهم بسبب اتِّكالهم على فراعنة مصر وتركهم الاتِّكال على الرب قائلاً: «ويلٌ للذين ينزلون إلى مصر للمعونة ويستندون على الخيل ويتوكَّلون على المركبات لأنها كثيرة، وعلى الفرسان لأنهم أقوياء جداً، ولا ينظرون إلى قدوس إسرائيل ولا يطلبون الرب» (إش 31: 2،1).
وثالث التوصيات هي قوله: «ولا يُكثِّر له نساءً لئلا يزيغ قلبه». وقَصْد الرب من ذلك هو لئلا ينصرف عن الاهتمام بأمور المملكة والشعب ويتفرَّغ لإرضاء نسائه، وينساق وراء شهواته، وتصبح حياته مجرد إشباع لشهواته ورغبات نسائه. وبالأخص إذا اختار له نساءً أجنبيات. فعلاوة على أن ذلك فيه مخالفة صريحة لشريعة الرب، إلاَّ أنه يُعرِّضه للانحراف عن طريق الرب والخضوع لآرائهن والانسياق وراء عباداتهن الوثنية مجاملةً لهُنَّ أو محاكاةً لعبادتهن. وقد يكون الهدف من وراء الزواج من امرأة أجنبية هدفاً سياسياً، وهو تقوية العلاقات مع ملك من ملوك الدول المجاورة، فيتخذ ابنته له زوجة، فيصنع بذلك تحالُفاً وعهد تصالُحٍ مع هذا الملك، ولكنه يخسر مقابله عهده مع الله.
ورابع التوصيات هي قوله: «وفضةً وذهباً لا يُكثِّر له كثيراً». أما تكديس الأموال، والغرام بالإكثار من الذهب والفضة، فإنما يقود الملك إلى الغرور والكبرياء والصَّلَف، ويفصله عن الإحساس بالفقير والمعوز من بني إخوته، ويتعالى على شعبه، ويسقط في عبادة المال، لأن «الذين يريدون أن يكونوا أغنياء، فيسقطون في تجربةٍ وفخٍّ وشهواتٍ كثيرة غبية ومُضِرَّة، تُغرِّق الناس في العَطَب والهلاك. لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قومٌ ضلُّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة» (1تي 6: 10،9).
ويُخبرنا الوحي الإلهي عن الملك سليمان، أنه عندما اختاره الرب ملكاً على إسرائيل، وسأله الرب عمَّا يحتاجه في مُلْكه، طلب منه حكمةً ومعرفةً ليخرج أمام هذا الشعب ويدخل، لأنه مَن يقدر أن يحكم على هذا الشعب العظيم؟ فقال الله لسليمان: «من أجل أن هذا كان في قلبك، ولم تسأل غِنًى ولا أموالاً ولا كرامةً ولا أنفس مُبغضيك، ولا سألت أياماً كثيرة، بل إنما سألت لنفسك حكمةً ومعرفةً تحكم بهما شعبي الذي ملَّكتك عليه؛ قد أعطيتك حكمة ومعرفة، وأُعطيك غنًى وأموالاً وكرامةً لم يكن مثلها للملوك الذين قبلك ولا يكون مثلها لِمَن بعدك» (2أي 1: 12،11).
ولكن سليمان نَسِيَ بدايته الحسنة، وأكثر من الخيل ومن النساء الأجنبيات، وكانت نساؤه سبباً في حيدان قلبه عن طريق الرب (1مل 11: 1-8)، واقتنى من الذهب الشيء الكثير، وأما الفضة فلم تُحسب شيئاً لوفرتها الهائلة حتى جعلها في أورشليم كالحجارة (1مل 9: 28؛ 10: 21،14، 27)، فصار هذا كله وسيلةً لاقتناء كل ما اشتهته عيناه (جا 2: 1)، واكتشف أخيراً أن «الكل باطل وقبض الريح» (جا 2: 17).
أما آخر التوصيات فكانت: أن ”يكتب لنفسه نسخة من كتاب الشريعة، لكي يقرأ فيها كل أيام حياته“. بعد كل التحذيرات السابقة كان من المناسب جداً أن يُقدِّم موسى النبي للملك هذه الوصية التي تُعينه على حفظ تلك الوصايا والتحفُّظ لنفسه من الحيدان عنها؛ لأنه في مركزه هذا يعتبر الأكثر احتياجاً إلى كلمة الله لكي يستعين بها في قيادة شعبه وحكمهم بالعدل والحق، وعدم التعالي عليهم، وهو في الأصل واحد من إخوتهم. والشريعة هنا تعني في الغالب ”سفر التثنية“، كما جاءت في الترجمة السبعينية للعهد القديم: ”نسخة من هذه الشريعة الثانية (أي سفر التثنية)“. ولكن لا يكفي أن يكون للملك نسخة من الشريعة ليقتنيها كأي كتاب، بل يجب عليه أن تكون معه دائماً، وأن يقرأ فيها كل أيام حياته، ويحفظ جميع كلماتها لكي يعمل بها، ولا يحيد عنها يميناً أو شمالاً، فهي التي تحفظه لئلا يرتفع قلبه على إخوته، ويتكبَّر على شعبه ويقسو عليهم، مثل رحبعام بن سليمان الذي سمع لمشورة الشباب ورفض أن يُرضي الشعب ويُخفِّف عنهم النير (1مل 12).
ويُعلِّق القديس باسيليوس الكبير على أهمية التمسُّك بكلمة الله كهادٍ للإنسان في طريق الحياة قائلاً:
[إنك عابر سبيل، مثل هذا الذي صلَّى قائلاً: «قوِّم خطواتي كقولك» (مز 119: 133 سبعينية)، لئلا تحيد عن الطريق وتنحرف عنها يميناً أو شمالاً. تمسَّك بالطريق العالي الملوكي. فسوف يضع لك المهندس (الأعظم) أساس الإيمان المتين، الذي هو يسوع المسيح، ودَعْ البنَّاء يختار لك مواده: ليس خشباً أو قشّاً أو عُشباً؛ بل ذهباً، فضةً، حجارة كريمة (1كو 3: 12،11)](1).
فكلمة الله هي الهادية للإنسان في طريق الحياة، فكم بالحري تكون للحاكم والملك والرئيس؟! وهذه هي وصية الله ليشوع حينما خلف موسى في قيادة الشعب: «لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهاراً وليلاً، لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه، لأنك حينئذ تصلح طريقك وحينئذ تُفلح» (يش 1: 8).
(يتبع)
(1) Homily on the words: "Give heed to yourself", FC 9: 437.