مفاهيم كنسية



العبادة والطقوس
- 14 -
نظرة على جوانب من طقوس الكنيسة
رابعًا: عن الخدمة الطقسية
كيف تثمر؟ ... وما الذي يعطل الثمر؟ (3)

عن دور الكنيسة (2):

نواصل هنا ملاحظاتنا عن دور الكنيسة في الخدمة الطقسية، وكنا قد تناولنا في المقال السابق (ديسمبر 2020): (1) الطقس في خدمة الروح، (2) خشوع الصوت واتضاعه، (3) ثروة الألحان القبطية، (4) لغة الصلوات، (5) عن القطمارس، (6) السنكسار.

(7) يحتل الإنجيل موقعًا مركزيًّا في القداس، فيسبقه لحن آجيوس .. قدوس الله. قدوس القوي. قدوس الحي الذي لا يموت، الموجَّه لشخص الرب كلمة الله، ثم أوشية الإنجيل (في عشية وباكر أيضًا) التي يسأل فيها الكاهن الرب أن يعد قلوبنا لسماع الإنجيل المقدس والعمل بوصاياه.

ولكن ازدواج اللغة بعد ذلك يطرح بعض الصعوبات نحن في غِنًى عنها. فالشماس يقرأ بالقبطية مزمور الإنجيل ملحنًا ويختمه بالليلويا التي تتعدَّد نغماتها مع المزمور بحسب المناسبة. وبعدها يقف الشماس بباب الهيكل رافعًا الصليب ومناديًا الشعب بصوتٍ قوي أن يقف بمخافةِ الله لسماع الإنجيل المقدَّس بقوله (باليونانية): استاثيتي ميتا فوفو ثيئو أكوسومين طو آجيو إفانجليو، فيأتي الكاهن بعد دورة في الهيكل (ترمز إلى الكرازة بالكلمة للعالم) وهو يرفع البشارة إلى هامته قائلًا: ”إفسماروؤوت إنجي في إثنيو خين افران إمبشويس إنتيه ني جوم“ (مبارك الآتي باسم الرب إله القوات) ... ثم يكمِّل: ”كيريى إفلوجيسون إك تو كاتا (...) أجيو إفنجيليون طو أنا غنوسما ...“ (أي: يا رب بارك فصل الإنجيل المقدس بحسب (متى أو مرقس أو لوقا أو يوحنا)، فيرد الشعب (باليونانية): ”ذوكساسي كيريى“ (المجد لك يا رب).

هنا يبدأ قارئ الإنجيل العربي مكررًا هاتفًا في الشعب الواقف من قبل: ”قفوا بمخافة الله وأنصتوا للإنجيل المقدَّس، فصلٌ من بشارةِ معلِّمنا مار ... البشير، بركاته على جميعنا“، ويتوقَّف ... ويكمِّل الكاهن سياق ما انقطع بعد (افزماروؤوت ...) ليقول: ”بنشويس أووه بننوتي أووه بنسوتير ...“ (ربنا وإلهنا ومخلِّصنا وملكنا كلنا يسوع المسيح ابن الله الحي الذي له المجد إلى الأبد) ثم يقرأ الإنجيل قبطيًّا.

بعده يأتي قارئ الإنجيل ليترجم كل ما سبق إلى العربية، ويبدأ بالمزمور، ثم يقول: ”مبارك الآتي باسم الرب ...“ (التي سبق أن قالها الكاهن عند باب الهيكل بالقبطية)، ثم يُقرأ الإنجيل عربيًّا الذي سبقت قراءته قبطيًّا دون أن يفهمه أحد (إلا مَنْ تابع المقابل العربي على الشاشة).

ولكي يتابع المؤمن ما يجري أمامه دون أن يفوته شيء، وللحفاظ على الأصل القبطي، من الممكن أن يُقال كل شيء أحيانًا بالعربية وحدها وأحيانًا بالقبطية وحدها(1) (كما كان الحال في كنيستنا قبل أن تسود اللغة العربية بلادنا): وهكذا نتفادى تكرار الصلوات بلغتين في نفس الوقت، مما لا نراه في أجزاء القداس الأخرى.

على أننا نلاحظ أن ترتيب أجزاء القراءة بعد أوشية الإنجيل عربيًّا لا يتطابق معه قبطيًّا. فهو لا يبدأ بالمزمور ثم يدعو الشعب للوقوف لسماع الإنجيل (كما في القبطي) وإنما العكس. وفي الحالتين ينبغي أن يُذكر اسم البشارة التي يأتي منها فصل الإنجيل مباشرة قبل قراءته لا أن يبتعد عنه كما هو الحال الآن.

(8) العظة وخدمة الكلمة: العظة عنصر هام في خدمة القداس، فهي تفسِّر كلمة الإنجيل وتشرح القراءات وما يجمع بينها بحسب ترتيب الآباء. ربما لا يتسع وقت الخدمة للتعرُّض لكل قراءات اليوم ولكن على الأقل ينبغي تفسير إنجيل القداس وإبراز جوانبه الإيمانية والتعليمية.

وتتطلَّب العظة تحضيرًا أمينًا وطلب معونة الروح لكي يعطي نعمة للسامعين، وأيضًا طلب صلوات الكنيسة على نهج القديس بولس: «مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ ... وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ» (أف 6: 18 و19).

وينبغي الحرص في كل عظة أو درس أو كلمة أن يتجلَّى اسم المسيح والالتصاق به وبكلمته، وألَّا تغيب رسالة الحث على التوبة والإمساك بالحياة الأبدية التي إليها دُعينا (1تي 6: 12).

كما تتطلَّب خدمة التعليم أن يكون المتكلِّم تلميذًا أمينًا لكلمة الله، دارسًا مجتهدًا، عارفًا ملتزمًا بالتعليم الصحيح ”ومقدِّمًا في التعليم نقاوة ووقارًا وإخلاصًا وكلامًا صحيحًا غير ملوم“ (تي 2: 7 و8)، فلا مجال للمرح ومحاولة إثارة الضحك. وهو لا يقدِّم مهاراته الكلامية وقدرته الخطابية بل يتوارى متضعًا لكي يقدِّم الكلمة مصلحة بملح الروح القدس بما يؤدي أن يتجه قلب السامع نحو الله فتتغير حياته إلى الأفضل. وخادم الكلمة المنحصر في خوف الله وعمل الروح لا يزعجه أي مقاطعة غير مقصودة كبكاء طفل(2) أو غيره، بل يظل محتفظًا بهدوئه ويدع الأمر يعبر بسلام بكل وداعة.

وسوف يتعيَّن أن تكون هناك اجتماعات أخرى منتظمة في الكنيسة لدراسة الكتاب ولشرح جوانب الإيمان والعقيدة وتاريخ الكنيسة والطقوس وغيرها، وللإجابة على أسئلة الشعب في هذه المجالات.

ولا ننسى هنا الإشارة إلى أهمية خدمة مدارس الأحد، ذلك أنه بعد رعاية الوالدين لصغارهما، خاصة الأم التي تُرضع الإيمان لأطفالها مع اللبن، تأتي تلك الخدمة التي أنعم الرب بها على كنيسته لكي تواصل تعليم الصغار والشباب أُسُس الإيمان استنادًا إلى كلمة الله، والتعريف بتاريخ الكنيسة وشهدائها وقديسيها وممارسة حياة الصلاة والتسبيح والتوبة، ومن بينهم يُختار الخُدَّام الجُدد، وهكذا تتواصل هذه الخدمة. وعلى الكاهن أن يتابع حياة الخُدَّام الروحية وتوبتهم وسلوكهم، وأن يتيح للخُدَّام المختبرين تدبير هذه الخدمة مع مشاركتهم اجتماع الصلاة، دون أن يفرض نفسه أمينًا للخدمة فيكفيه مسئولياته الكثيرة للشعب والاهتمام بتوبتهم وترابطهم العائلي وإرشاد المقبلين على الزواج أو المتطلعين إلى التكريس وتقديم المشورة لمَنْ يطلبها كأب للاعتراف.

(9) ألحان التوزيع: هناك ألحان قبطية (ويونانية) ذات أصالة تُتلَى وقت التوزيع أي خلال فترة التناول، وهي ذات نغمات تتنوَّع بحسب المناسبة (سنوي، أصوام، أعياد ...). والبداية دائمًا: ”ذوكساسي كيريى ذوكساسي“ (المجد لك يا رب المجد لك)، ثم ”هللويا. ازمو افنوتي خين ني إثوواب تيرو“ (هللويا. سبحوا الله في جميع قديسيه ...) وهو المزمور المائة والخمسون. وبعده يمكن أن يُقال ”إك إسماروءوت أليثوس خين بيك يوت إن أغاثوس نيم بي إبفنما إثؤواب ...“ (مبارك أنت بالحقيقة مع أبيك الصالح والروح القدس لأنك أتيت (صُلبت. قمت) وخلَّصتنا. وبحسب الوقت المتاح يمكن أن تُقال الألحان التالية: ”بي أويك إنتيه إب أونخ“ (خبز الحياة الذي نزل من السماء وَهَبَ حياة للعالم ...) أو ”إب أورو إنتيه تي هيريني ...“ (يا ملك السلام أعطنا سلامك ...)، أو ”خين افران إم افيوت ...“ (باسم الآب والابن والروح القدس الثالوث الأقدس المساوي)، أو ”آبيكران إيرنشتي ...“ (اسمك عظيم في كورة مصر ...) وغيره من الألحان التي تُقال في أعياد القديسين.

على أن هناك نصوصًا باللغة العربية ولا أصل قبطي لها (يسمونها مدائح أو ترانيم) وإن استخدمت اللحن القبطي. وهي اجتهادات أكثرها من غير مؤهّلين كتابيًّا أو لاهوتيًّا ولغويًّا، فتأتي ركيكة لغةً(3) ومعنًى ومستوىً روحيًّا. وليس غريبًا أن يحتوي بعضها أخطاء لاهوتية (لا يتَّسع المجال هنا للإشارة إلى أمثلة منها). وهي وإن سدَّت فراغًا وقتها ولكن ليس من اللائق الرضا بها وإبقاءها حتى أيامنا هذه، بل ينبغي أن تَملأ هذه المساحة نصوصٌ راقية من الناحية اللاهوتية والروحية واللغوية (فأخطاء اللغة والنحو السائدة تثير الأسى)(4).

ونثق أنه يوجد بيننا الآن من شُعرائنا الروحيين مَنْ هم على مستوى هذه المهمة، على أن تشجِّع الكنيسة مثل هذه المحاولات وتُخضعها لمراجعات دقيقة من المتخصصين فلا تسمح إلَّا بما يليق بخدمة الأقداس.

(10) الافتقاد والخدمة الاجتماعية: من الأهمية بمكان أن تتابع الكنيسة حياة مؤمنيها من كل جوانبها، بكل وسائل الاتصال، والافتقاد والزيارة، والصلاة وقراءة الكلمة في البيوت، وأن تطمئن على الغائبين، وتحمل في أحشائها آلام المجرَّبين وتساندهم، وإن كانت الأعداد الكبيرة تمثل عائقًا لا ينكر في إمكان تنفيذ هذه الخدمة بالأمانة الواجبة، إلَّا أن الأمر يستحق بذل الجهد بحيث لا يتحمَّله الكهنة وحدهم بل ترتب الكنيسة جماعات الافتقاد من الخدَّام والخادمات وحكماء الكنيسة، على أن يتكفَّل الآباء بالحالات التي تحتاج خدمتهم وخبرتهم.

والخدمة الاجتماعية لا تنفصل عن الخدمة الروحية. فهموم الحياة وآلامها وأمراضها التي تستثير البعض للجوء إلى الله وإضرام الإيمان والرجاء في الله، قد تقود البعض الآخر إلى الانهيار أو الاكتئاب أو صغر النفس والانطواء أو حتى الخروج من الإيمان، كما لا تخلو البيوت من انحرافات الشباب وطياشتهم، هؤلاء جميعًا في حاجة إلى مَنْ ينقذهم والاقترابُ منهم واحتضانهم وتقديم العون لهم روحيًّا ونفسيًّا وطبيًّا كفيلٌ بتقويم مسارهم وإعادتهم إلى دفء العلاقة مع الله والكنيسة والمجتمع.

على أن خدمة الفقراء تظل لها أهميتها في هذا المجال. فالفقر في أكثر الأحيان هو الحلقة الأُولى في سلسلة الأمراض الاجتماعية التي تقود إلى الجهل والمرض بل والجريمة. والكتاب يحثنا أن ننتبه إلى هذه الأركان الضعيفة ويحذرنا من تداعياتها الأليمة، «مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ» (عب 12: 15).

وفي الكنيسة الأولى أدرك الرسل المبشرون أن خدمة الموائد لابد أن تسير جنبًا إلى جنب مع الكرازة بالإيمان. وهكذا انتخبوا سبعة شمامسة يقومون على هذه الخدمة (أع 16: 1-6). والرسول بولس، الذي جال البلاد أرضًا وبحرًا ينشر كلمة الله وينادي بيسوع المسيح مخلِّصًا، لم يغفل عن الاهتمام بفقراء الكنيسة، وكان يجمع من الكنائس أموالًا لخدمة الفقراء (خاصة في أورشليم)، ويدعوها «خِدْمَةِ الْقِدِّيسِينَ» (رو 12: 13؛ 1كو 16: 15؛ 2كو 8: 4، 9: 1 و12؛ عب 6: 3). والرب سبق ودعاهم إخوته الأصاغر(5)، وقال إن مَنْ يخدمهم هو يخدم الرب نفسه (مت 25: 35 - 40).

والكنيسة الناجحة هي التي لا تسمح أن يكون فيها أحد محتاجًا (أع 4: 34). وبعض هذه الكنائس تهتم ليس فقط بسد أعواز الفقراء، وإنما أيضًا بتدبير الأعمال والوظائف للعاطلين وتدريبهم، بل وبناء مساكن لائقة لرفع مستوى حياتهم(6)، وبعض الكنائس أسَّست مدارس للتعليم أو أنشأت عيادات بل ومستشفيات لعلاج غير القادرين، إضافة إلى بيوت لرعاية المسنين وملاجئ للأيتام ومؤسَّسات لتأهيل المكفوفين.

ولابد من التحفُّظ من أن تكون للفقراء والمهمَّشين قداساتهم واجتماعاتهم الخاصة بعيدًا عن سائر أعضاء الكنيسة، بل يجب إدماجهم ضمن شعب الكنيسة، ورفع مستواهم ومظهرهم، ومقاومة أي ميل للتمييز أو الطبقية، فالكل أعضاء جسد المسيح، والمسيح هو «مخلِّص الجميع».

دكتور جميل نجيب سليمان

__________________________________________________________

(1) ربما مع قراءة إضافية بالعربية للمزمور والإنجيل فقط إذا احتاج الأمر.
(2) بعض الكنائس ترتب غرفة زجاجية Crying room تتابع فيها الأمهات أو الآباء صغارهم بحيث يشتركون في الصلاة دون أن يسببوا ضيقًا لأحد.
(3) على سبيل المثال في تسبحة ”العليقة“: فكلمة ”بكورية“ لا تعني البتولية وإنما هي تنتسب إلى ”البكر“ بمعنى المولود الأول. أما البكر بمعنى البتول أو العذراء فمصدرها يكون البكارة. كما أن المصدر من عاقر ليس ”العقورية“ وإنما العُقر أي عدم القدرة على الإنجاب.
(4) فمن غير المتصوَّر أثناء التوزيع بعد أن تناولنا وفاضت علينا نعمة الله، أن يُقال في مرد الترنيمة ”يا رب ارفع غضبك عنَّا“ (!) فأية مضادة هذه!
(5) من هنا فالبعض يسمِّي خدمة الفقراء أيضًا: ”خدمة إخوة الرب“.
(6) جدير بالتقدير خطة الدولة للقضاء على العشوائيات ونقل سكانها إلى مناطق حضرية ذات مساكن كاملة التأثيث ومدارس وفي ظروف بيئية جيدة بما يغيِّر حياتهم من الجذور.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis