ومتتبعةً خطوات الرب تحتفل الكنيسة بختان الطفل يسوع في اليوم الثامن من مولده، حيث بدا وهو رب الناموس خاضعاً للناموس (غل 4: 4و5) الذي يُقدِّس كل بكر فاتح رحم (خر 13: 2)، فصار بكر الخليقة الجديدة (كو 1: 15) بكراً بين إخوة كثيرين (رو 8: 29) يسيرون وراءه ويحملون صليبه ويقتفون إثر خطواته (1بط 2: 21)، وبكر القائمين من الموت في الزمان الأخير (1كو 15: 20و23، كو 1: 18، رؤ 1: 5). ثم ها هي الكنيسة تحتفل أيضاً بدخوله الهيكل طفلاً(1) بعد أربعين يوماً من مولده، لكي تُقدِّم أُمه، الخاضعة هي أيضاً للناموس (رغم ميلاد ابنها من غير زرع بشر، وهو قدوس القديسين)، تطهيراً وفدية كسائر الفقراء، تُقدِّم فرخَي يمام أو حمام (خر 13: 13، لا 12: 2-6، عد 18: 16، لو 2: 22-24)، وتُقدِّم طفلها للرب ومعه تُقدِّم شكرها على عطيته الثمينة. وبينما الرضيع محمولاً يبدو أنه لا يملك من أمره شيئاً، تفيض الأفواه تنبُّؤاً عنه، يحيط به كبار الناموسيين (سمعان الشيخ) والنساء التقيات ملازمات الهيكل (حنَّة النبية). ومن جديد (بعد إشارة الملاك جبرائيل إلى مهمته الخلاصية عندما ذكر للعذراء وليوسف أن اسمه يسوع "لأنه يُخلِّص شعبه من خطاياهم" - مت 1: 21، لو 1: 31، وعندما بشَّر الرعاة بميلاد المخلِّص المسيح الرب - لو 2: 11) يُخيِّم على المجتمعين ظل الصليب المنتصب في الأُفق على بُعد ثلث قرن من ذلك الزمان. الهيكل الحقيقي: رغم أن الرب كان رضيعاً عندما قُدِّم إلى الهيكل، وبدا حسب الظاهر أصغر مَن في المشهد، بل والوحيد الذي لا يُدرِك ماذا يجري من حوله، ولكنه يظل الإله القادر على كل شيء، والمحيط بالماضي والحاضر والمستقبل، والمدرِك أكثر مِن كل مَن حوله. بل إنه هو الهيكل الحقيقي الذي يحلُّ فيه كل ملء اللاهوت والروح القدس المُحيي. وها هو الرب وهو يقترب من الصليب يقول لليهود: "انقضوا هذا الهيكل، وأنا في ثلاثة أيام أُقيمه" (يو 2: 19). ويُفسِّر كاتب الإنجيل بالوحي الإلهي هذا القول: "وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده" (يو 2: 21) الذي أقامه في اليوم الثالث. وبينما نُقض هيكل أورشليم الرمز، يظل الرب - الهيكل الحقيقي - قائماً إلى الأبد. تقديم المسيح إلى الهيكل: بمجرد أن أكملت العذراء أيام تطهيرها (حسب شريعة موسى - لو 2: 22)، والمسيح عمره أربعون يوماً، مضت به إلى الهيكل في أورشليم، لتُقدِّم كخاضعة للناموس ذبيحة(2) عن تطهيرها، وهي التي وَلدت كُلِّي القداسة والنقاء، والذي وُلد به من الروح القدس بريئاً من خطية آدم رغم أنه ابن آدم؛ ومن ناحية أخرى، لتقديم ابنها البكر (لو 2: 7) للرب "كما هو مكتوب في ناموس الرب(3) أن كل ذكر فاتح رحم يُدعَى قدوساً للرب" (لو 2: 23) أي مكرَّساً له، وهي بهذا تتنازل عن أولوية أمومتها ليصير ابنها من حق الله أولاً(4)، وهي الخطوة التالية بعد التجسُّد في الطريق الطويل للخلاص. فها هو يسوع الطفل ذو الأربعين يوماً يُقدَّم إلى الهيكل ويُعلن تكريسه لمهمته التي أتى من أجلها. وقد سبق أن قدَّمت حنَّة ابنها صموئيل، الذي وهبه الله لها حسب الموعد، وهو ابن ثلاث سنوات، كي يخدم الله في الهيكل في شيلوه، قائلة: "لأجل هذا الصبي صلَّيتُ، فأعطاني الرب سؤلي الذي سألته من لدُنْه، وأنا أيضاً قد أعرته للرب، جميع أيام حياته، هو عاريَّة للرب" (1صم 1: 27و28). ولكن الرب هو وحده بين كل المكرَّسين كان تكريسه كليًّا وكاملاً، بذل فيه نفسه التي لم تخطئ فداءً لكل الخطاة، واهباً خلاصه مجاناً لكل مَن يؤمن. فهو يُقدَّم لا كخادم الله فقط بل كذبيحة فريدة تتحقق فيها ما رمزت إليه كل ذبائح العهد القديم. وإذا كان خروف الفصح القديم قد أنقذ كل أبكار إسرائيل من ضربة الملاك المُهلِك، فإن ذبيحة هذا البكر، ابن الله الوحيد، قد أنقذت كل البشر، كل مَن يؤمن. والعذراء هنا هي مثال الكنيسة. فإذا كانت مريم قد حملت الطفل يسوع لتقديمه إلى الهيكل مرة واحدة، فإن الكنيسة تحمل جسد المسيح ودمه في الإفخارستيا في كل قدَّاس وتقدِّمهما استحضاراً متجدِّداً لعشاء الرب ليلة آلامه، وإعلاناً وتبشيراً بموت الرب وقيامته إلى أن يجيء. شهادة سمعان الشيخ: التدبير الإلهي جعل تقديم المسيح إلى الهيكل احتفالياً. فها هو سمعان الشيخ "البار التقي الذي ينتظر تعزية إسرائيل"، والذي امتد عمره طويلاً ليرى إشراق النور بعد الظلام الطويل، ولأن الروح القدس كان عليه فهو يُقبـِل "بالروح" إلى الهيكل، ويظل في انتظار دخول المخلِّص. وبعد التطهير والذبح والإحراق ورش الدم، يدنو سمعان من العائلة المقدسة ويطلب أن يحمل الطفل على ذراعيه، وإذ يتحقَّق وعد الله له أن يبقى إلى أن تكتحل عيناه بمرأى مولود العذراء مخلِّص العالم(5) يُبارك الله ويهتف: "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك." (لو 2: 25-30) وقبل أن يمضي سمعان من الهيكل ومن العالم، ترك لنا شهادته الفريدة عن الرب، حتى كان "يوسف وأُمه يتعجبان مِمَّا قيل فيه" (لو 2: 33). فالمسيح هو الذي به الخلاص (لو 2: 30)، وأن هذا الخلاص مُقدَّم لجميع الشعوب (لو 2: 31)، مُذكِّراً بنبوَّات إشعياء: "وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم" (42: 9)، "فقد جعلتك نوراً للأُمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض" (49: 6)، سواء الأمم الذي يصير الرب لها نوراً يُعلَن، أو إسرائيل الذي يتمجَّد بأن المخلِّص هو ابن داود (لو 2: 32). وكما قال الرب عن نفسه إنه ما جاء ليُلقي سلاماً بل سيفاً (مت 10: 34) يميز بين فريقين، فسمعان بروح النبوَّة يقول لمريم: "ها إن هذا قد وُضع لسقوط (الرافضين) وقيام كثيرين (المؤمنين) في إسرائيل" (لو 2: 34). بل إنـه أشار لعلامة ابـن الإنسان (مت 24: 30) دون أن يفصح عنها بغير هذه الكلمات "لعلامةٍ تُقاوَم" (لو 2: 34)، وكيف أن آلام الرب وفداءه ستؤدِّي إلى إعلان أفكار من قلوب كثيرة (سواء مِمَّن سيؤمنون أو مَن سيُقاومون)، وأنها بالنسبة للعذراء الأُم، بالذات، ستكون سيفاً يخترق قلبها المُحِب (لو 2: 35). ولعل العذراء جفلت عند سماع كلمات سمعان الشيخ، ولكنها اختبرت هذه النبوَّة بحجمها الحقيقي يوم الصليب(6). وهكذا يجمع سمعان في نبوَّاته "المسيَّا مخلِّص العالم" و"الخادم المتألِّم" الذي تنبَّأ عنه إشعياء (إش 50و52و53). شهادة حنَّة النبية: حول المسيح اجتمع الشيوخ والرجال والنساء والشباب والأطفال، وجاءت الشهادة له من أنبياء العهد القديم. وفي حفل تقديمه إلى الهيكل تتقدَّم حنَّة بنت فنوئيل، التي من سبط أشير، النبية الشيخة التي تجاوزت المائة عام، لكي تُلقي بشهادتها. وهي مؤهَّلة لهذه الشهادة بأنها نبية، وأرملة منذ نحو أربعة وثمانين عاماً، مُلازِمة الهيكل، عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً "فهي في تلك الساعة وقفت تُسبِّح الرب، وتكلَّمت عنه مع جميع المنتظرين فداءً في أورشليم" (لو 1: 36-38). ولا شكَّ أن حنَّة قد أدركت بالروح أن مخلِّص العالم قد جاء، ومن هنا وقفت تسبِّح الله. ومع الأتقياء من شعب إسرائيل عابدي الهيكل والمترجِّين ميلاد الفادي، أخذت تتكلَّم عنه. وها هُنَّ النساء، إلى جوار الرجال، يتنبَّأْن ويشهدْن عن مخلِّص العالم كله، بيهوده وأُممه، برجاله ونسائه. شهادتنـا: في باكورة عمرنا حملت كلاًّ منا أُمه، ودخلت بنا إلى حيث جرن المعمودية في الكنيسة، فجحدت الشيطان عنا، ثم سلَّمتنا إلى كاهن الله الذي قام بتعميدنا؛ فانتسبنا بميلادنا الجديد بالروح القدس إلى الله، وبالميرون مُسِحنا فتقدَّسنا، صائرين رعية مع القديسين وأهل بيت الله. ولكن بعد أن اختبرنا كبالغين حياة الإيمان، فلنذكر في كل مرة ندخل الكنيسة أن نجدِّد عهدنا كمقدَّسين للرب، وراجعين بالتوبة إلى الله كل يوم، وسائرين في خُطَى المخلِّص حاملين عاره، وقابلين بالفرح شركة آلامه، ومتمتعين بتعزياته، ومبشِّرين العالم بخلاصه. على أن احتفال الكنيسة بتقديم المسيح إلى الهيكل لا يصحُّ أن يعبُر علينا كأنه فقط تذكار خاص بالمسيح ورسالته الخلاصية، ولكنه يمكن أن يحقِّق غاية ذاتية مجدِّدة للحياة إن انتبهنا إليه كعيد لكلٍّ منا، نحتفل فيه مع الرب بتكريسنا، تلاميذَ وخدَّاماً لله، وتسليم حياتنا دون تحفُّظ لعمل الروح، لنكون فعلاً وحقاً نوراً للعالم وملحاً للأرض. وكمؤمنين اختبروا الخلاص وانتُزِع منهم خوف الموت نتطلَّع بالرجاء إلى ساعة استعلان خلاصنا الأخير بمجيء الرب الثاني، مستعدِّين كل يوم للخروج من هذا العالم إلى العُرس السماوي. وفي كل صلاة مسائية نهتف مع سمعان مبتهجين: "الآن... تُطلق عبدك (عبدتك) يا سيد بسلام..." (إنجيل صلاة النوم، والإنجيل الختامي لصلاة نصف الليل - لو 2: 29-32) + "نعم... آمين، تعالَ أيها الربُّ يسوع." (رؤ 22: 20) دكتور جميل نجيب سليمان
|