ثالثاً: إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (26: 1-36: 13) 4 - حدود أرض الموعد وأسماء رؤساء الأسباط المعيَّنين لقسمتها (34: 1-29) تعليق على ملخَّص رحلات بني إسرائيل: جاء في الأصحاح السابق (الثالث والثلاثون) من سفر العدد، ذِكر أسماء أربعين محطة نزل فيها بنو إسرائيل منذ خروجهم من رعمسيس في مصر حتى وصولهم إلى عربات موآب. وهنا قد يثور في ذهننا هذا التساؤل: ما هي الفائدة الروحية والقصد الإلهي من إعادة ذِكر هذه المحطات، خاصةً وأنَّ بعضها كان مجرد أسماء لم يسبق ذكرها من قبل؟ وقد ذكرت أغلبها دون سرد الأحداث الهامة التي جرت فيها؟! لا شكَّ أن للرب قصداً في ذكرها، وهو تسجيل إنجازات موسى التي حدثت في تلك المحطات، وتذكير الشعب بها حتى ولو لم تَرِد تفاصيلها. فإنَّ مجرد ذكر أسمائها يجعلهم يستعيدون الاختبارات التي جازوها والمصاعب التي أعانهم الرب على النجاة منها. فإذا كان الله قد أعانهم إلى هذا الحد، فلابد أنه سيُكمِّل معهم معونته إلى أن يصلوا إلى أرض كنعان. إذن، فهذه النظرة الخاطفة إلى التاريخ، تُعتبر مقدمة مناسبة للتشريعات الأخيرة في السفر، والتي موضوعها أرض الموعد. والانطباع الواضح الذي تنقله إلينا هو أن عناية الرب التي ظهرت في معاملاته مع إسرائيل في الماضي هي ضمان لأن يكونوا موضوع عنايته في المستقبل، حتى يمكنهم توطيد هذه القوانين في الأرض التي وعد بها الله آباءهم، وها هو يحقِّق لهم الوعد ويعطيهم الأرض التي وعدهم بها. والآن نأتي إلى الخطوة التالية، حيث يتكلَّم الرب مع موسى لكي يضع له حدود الأرض التي سوف يمتلكونها. حدود أرض الموعد: + الحد الجنوبي: (انظر الخريطة) + «وكلَّم الربُّ موسى قائلاً: أَوصِ بني إسرائيل وقل لهم: إنكم داخلون إلى أرض كنعان. هذه هي الأرض التي تقع لكم نصيباً، أرض كنعان بتخومها، تكون لكم ناحية الجنوب من برية صين على جانب أدوم. ويكون لكم تُخم الجنوب من طرف بحر الملح إلى الشرق، ويدور لكم التخم من جنوب عقبة عَقْربيم ويعبر إلى صين وتكون مخارجه من جنوب قادش برنيع، ويخرج إلى حصر أدَّار ويعبر إلى عصمون. ثم يدور التخم من عصمون إلى وادي مصر، وتكون مخارجه عند البحر» (عد 34: 1-5).
تسير الحدود الجنوبية من البحر الميت مخترقة عقبة عَقْربيم التي تُدعى أيضاً عقبة العقارب، ويُحتمل أن تكون نقب الصفا في برية صين جنوب قادش برنيع (التي هي الآن عين جديرات أو عين قديس)، ثم تتجه الحدود إلى بلدة حصر أدَّار وموقعها من الشمال الغربي من قادش برنيع، ومنها إلى عصمون، وربما كانت هاتان البلدتان هما أدَّار وحصرون المذكورتان معاً في (يش 15: 3). ثم يتجه الحدُّ من عصمون إلى وادي مصر الذي يُدعى أيضاً ”نهر مصر“، وهو جدول صغير يمتلئ بالمياه في فصل الشتاء ويصب في البحر الأبيض المتوسط غربي غزة بنحو 60 كيلومتراً جنوبي العريش، ويُسمَّى هذا النهر والأرض المحيطة به الآن ”وادي العريش“. + الحدُّ الغربي: + «وأما تُخم الغرب فيكون البحر الكبير لكم تُخماً، هذا يكون لكم تُخم الغرب» (عد 34: 6). والبحر الكبير هو البحر الأبيض المتوسط، وقد أخذت بعض الأسباط نصيبها على البحر الكبير في مناطق تمتد من وادي مصر (وادي العريش) جنوباً حتى صور وصيدا شمالاً. وبقيت أجزاء من المتاخمة للبحر الأبيض في حوزة الفلسطينيين وغيرهم. + الحدُّ الشمالي: + «وهذا يكون لكم تُخم الشمال: من البحر الكبير ترسمون لكم إلى جبل هور. ومن جبل هور ترسمون إلى مدخل حماة وتكون مخارج التخم إلى صَدَد. ثم يخرج التخم إلى زفرون وتكون مخارجه عند حصر عينان. هذا يكون لكم تُخم الشمال» (عد 34: 7-9). يبتدئ الحد الشمالي من شاطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً في مواجهة جبل هور. وهو بلا شكَّ غير جبل هور الذي مات عليه هارون، الذي يقع بين خليج العقبة والبحر الميت في الجنوب (20: 22). أما هذا الجبل فقد جاء ذكره في النص العبري ”هور هاهور“ الذي يُترجم ”جبل الجبل“ أو ”الجبل العالي“. لذلك فقد يُقصَد به ”رأس أمانه“، وهو أحد جبال لبنان العالية القريبة من شاطئ البحر المتوسط حيث يبدأ التخم الشمالي لأرض الميعاد. ثم يتجه الحدُّ شرقاً إلى ”مدخل حماة“، وربما المقصود بها بلدة ”حماة“ الحالية الواقعة على نهر العاصي، ولعله هو مدخلها فعلاً، ومن ”مدخل حماة“ إلى ”صَدَد“ التي لعلها الآن هي ”زيداد“. ثم يتجه الحدُّ شرقاً إلى ”زفرون“، وربما تكون حالياً هي مدينة ”الزعفرانة“ التي تقع في الجنوب الشرقي من حماة. ومن ”زفرون“ يمتد الحدُّ إلى بلدة ”حَصَر عينان“، ومعناها (قرية العيون)، ودُعِيَت هكذا لقربها من عيون الماء. ويرى البعض أنها الآن بلدة ”قريتايم“ أو ”القريتين“ الواقعة بين دمشق وتدمر. + الحدُّ الشرقي: + «وترسمون لكم تُخماً إلى الشرق من حَصَر عينان إلى شفام. وينحدر التخم من شفام إلى ربلة شرقي عين. ثم ينحدر التخم ويمسُّ جانب بحر كنَّارة إلى الشرق. ثم ينحدر التخم إلى الأردن وتكون مخارجه عند بحر الملح. هذه تكون لكم الأرض بتخومها حواليها» (عد 34: 10-12). تُعتبر بلدة ”حَصَر عينان“ البلدة التي تربط الحدَّ الشمالي بالحدِّ الشرقي، ومنها يخرج الحدُّ أولاً إلى بلدة ”شفام“، ثم ينحدر الحدُّ جنوباً إلى ”ربلة“ الواقعة شرقي ”عين“، وهي اسم القرية الكائنة بقرب عين الماء الكبيرة التي ينبع منها نهر العاصي. ومن ”ربلة“ تمتد الحدود إلى الشاطئ الشرقي لـ ”بحر كنَّارة“، وهو بحر الجليل، ويُدعى أيضاً بحيرة طبرية أو بحيرة جنيسارت (انظر لو 5: 1؛ يو 6: 1؛ 21: 1)، ومياه هذه البحيرة عذبة إذ يصبُّ فيها نهر الأردن. ثم تمتد الحدود الشرقية بمحاذاة نهر الأردن وتكون نهايتها عند ”بحر الملح“ الذي يُدعى أيضاً ”البحر الميت“. هذه هي حدود أرض كنعان التي وعد بها الرب بني إسرائيل لكي تصير لهم ميراثاً. وهي رمز إلى الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل المحفوظ في السموات لأجلنا (انظر 1بط 1: 4)، فهي شبه السماويات وظلها (انظر عب 8: 5) التي عبَّر عنها الوحي بأنها الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً (خر 3: 8؛ 13: 5)، كما أنها تشير إلى أورشليم السمائية، السماء الجديدة والأرض الجديدة النازلة من السماء مهيَّأة كعروس مزيَّنة لرجلها، التي أبدع سفر الرؤيا في وصف أسوارها وأبوابها وحدودها (انظر رؤ 21). ولكن كنعان المحددة هنا إقليم أكبر مما أخذه بنو إسرائيل، وإن كان داود النبي قد احتل كثيراً من شرق الأردن، وجاء بعده سليمان ابنه فبسط نفوذه على بلادٍ أخرى أكثر من أبيه، إلاَّ أن أرض كنعان المحددة هنا حسب الوحي الإلهي لموسى لم تكن في أي وقت من تاريخ إسرائيل هي الحدود الفعلية لهم. فالحدود الموصوفة هنا هي حدود مثالية موعودة من الرب ليمتلكوها حسب أمانتهم في طاعة وصايا الرب. لذلك يقول لهم الرب على لسان موسى في سفر التثنية: + «ليس لأجل برِّك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم، بل لأجل إثم أولئك الشعوب يطردهم الرب إلهك من أمامك، ولكي يَفي بالكلام الذي أقسم الرب عليه لآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب. فاعلم أنه ليس لأجل برِّك يُعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها لأنك شعبٌ صُلْبُ الرقبة» (تث 9: 6،5). إذن، فالرب لم يُعطِ هذه الأرض لبني إسرائيل ليمتلكوها لأن أعمالهم قد أرضته، بل من أجل غِنَى مراحمه وأمانته لوعوده لآبائهم الذين آمنوا به وساروا وراءه. ولكنهم حينما رفضوه لما أتى إليهم فادياً ومخلِّصاً رفضهم وفتح بابه للأمم، كقول بولس الرسول إنه: «بزلَّتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم» (رو 11: 11). تحديد أرض الموعد للتسعة الأسباط ونصف السبط: + «فأمر موسى بني إسرائيل قائلاً: هذه هي الأرض التي تقتسمونها بالقُرْعة، التي أمر الرب أن تُعطَى للتسعة الأسباط ونصف السبط، لأنه قد أخذ سبط بني رأوبين حسب بيوت آبائهم وسبط بني جاد حسب بيوت آبائهم ونصف سبط منسَّى، قد أخذوا نصيبهم. السِّبطان ونصف السِّبط قد أخذوا نصيبهم في عَبْر أردن أريحا شرقاً نحو الشروق» (عد 34: 13-15). هذه الأرض المحددة من الرب كانت لأسباط بني إسرائيل التسعة والنصف فقط، لأن السبطين والنصف الآخرين كانوا قد أخذوا نصيبهم في عبر الأردن شرقاً، في أرض جلعاد التي أعجبتهم مراعيها لأغنامهم ومواشيهم (عد 32)(1). وقد أمر الرب موسى أن تُقتسم بينهم بالقُرعة، أما الذين سيقومون بتقسيم أرض كنعان بين الأسباط فقد حدَّدهم الرب بالاسم. تعيين الذين يقسمون الأرض: + «وكلَّم الربُّ موسى قائلاً: هذان اسما الرجلين اللذين يقسمان لكم الأرض: ألعازار الكاهن ويشوع بن نون، ورئيساً واحداً من كل سبط تأخذون لقسمة الأرض. وهذه أسماء الرجال: من سبط يهوذا كالب بن يَفُنَّة. ومن سبط بني شمعون شموئيل بن عميهود. ومن سبط بنيامين أليداد بن كسلون. ومن سبط بني دان الرئيس بُقِّي بن يُجْلي. ومن بني يوسف: من سبط بني منسَّى الرئيس حنِّيئيل بن إيفود، ومن سبط بني أفرايم الرئيس قموئيل بن شِفطان. ومن سبط بني زبولون الرئيس أليصافان بن فرناخ. ومن سبط بني يسَّاكر الرئيس فلطيئيل بن عزَّان. ومن سبط بني أشير الرئيس أخيهود بن شلومي. ومن سبط بني نفتالي الرئيس فدهئيل بن عمِّيهود. هؤلاء هم الذين أمرهم الربُّ أن يقسموا لبني إسرائيل في أرض كنعان» (عد 34: 16-29). عيَّن الرب لتنفيذ مهمة تقسيم الأرض رجلين ذوي صفات متميزة ومسئولية عامة للإشراف على هذا العمل الخطير، وهما: ألعازار رئيس الكهنة بصفته الرئيس الروحي للجماعة، ويشوع بن نون خادم موسى وخليفته في قيادة الشعب لإدخالهم أرض الموعد، الذي نصَّبه الرب رئيساً وقائداً للشعب، وأمر موسى بأن يوقفه قدَّام ألعازار الكاهن وقدَّام كل الجماعة ووضع موسى يده عليه، وجعل الرب من هيبة موسى عليه لكي يسمع له كل جماعة إسرائيل (انظر عد 27: 15-23). كما أمر الرب أن يشترك معهما في العمل رئيس من كل سبط لكي تطمئن كل الأسباط أن تكون القسمة عادلة ومرضية لكل الأطراف. ويُلاحَظ أن الرؤساء العشرة المُعيَّنين عن التسعة الأسباط ونصف السبط لقسمة الأرض، هم غير الرؤساء المذكورين في الإحصاء الأول (عد 2)، لأن أولئك كانوا معيَّنين لرئاسة الأعمال الحربية أثناء مسيرتهم في البرية إذا صادفتهم حروب، ويُرجَّح أيضاً أنهم ماتوا في البرية. وهم أيضاً غير الرؤساء الذين تجسَّسوا الأرض، لأنهم ماتوا ولم يبقَ منهم غير يشوع بن نون وكالب بن يَفُنَّة. ومن إعجاز الكتاب المقدس وحكمة الوحي الإلهي أن الترتيب الذي ذُكر به الرؤساء العشر موافق تماماً للترتيب الذي أخذ فيه كل سبط نصيبه في الأرض بعد دخولهم أرض كنعان بحسب القُرعة، كما هو واضح في سفر يشوع (الأصحاحات 14-19). كما يُلاحَظ أن سبط يهوذا هو أول مَن ذُكِرَ من رؤساء الأسباط لأن منه سيخرج مخلِّص العالم. (يتبع) **** القصد من الصوم هو أن يصير المسيح فينا **************** + يُلاحِظ القارئ أن العماد، والامتلاء من الروح القدس، والصوم، هم ثلاثة أفعال أساسية مسلسلة في حياة المسيح لا يمكن فصلهم عن بعضهم البعض، وقد انتهوا بنصرة كاملة على الشيطان - بصفته رئيس هذا العالم - تمهيداً للإنهاء عليه بالصليب. + لذلك أصبح من أهم ما يمكن لحياتنا أن نأخذ بهذه الأفعال الثلاثة كما هي، ثم نتحسَّس قوَّة كل منها في أعماقنا ونستمد من المسيح استعلان عملها فينا كما كانت فيه، حتى تنطبق علينا حياة المسيح ذاتها، لأن القصد النهائي من العماد والامتلاء من الروح القدس والصوم، هو أن يصير المسيح نفسه فينا: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 2: 20)! + في العماد تنقطع صلتنا بآدميتنا الأُولى لنأخذ بنوتنا لله في المسيح. في الامتلاء بالروح القدس تنقطع صلتنا بالشيطان وحياة الخطية لنأخذ روح الحياة في المسيح. في الصوم تنقطع الصلة بين الغريزة والشيطان ليأخذ الجسد نصرة السلوك بالروح في المسيح. + وهكذا يستحيل أن نفصل بين هذه الأفعال الثلاثة: فالعماد يعطي ملئاً روحيّاً، والملء الروحي يعطي بالصوم نصرة للجسد للسلوك بالروح؛ وبالثلاثة معاً يحيا الإنسان في المسيح، ويحيا المسيح في الإنسان! *** (عن كتاب: ”الصوم الأربعيني المقدس“، للأب متى المسكين، الطبعة الرابعة 1994، ، ص 65)
|
(1) انظر: دراسة الكتاب المقدس، عدد سبتمبر عام 2006.