أواخر الأيام |
|
|
سؤال أيوب عن وجود حياة بعد الموت:
يتساءل أيوب في العهد القديم: «إن مات رجلٌ، أفيحيا؟» (أيوب 14: 14). وهذا هو التساؤل الدائم الذي يتساءله أي إنسان في فكره.
الله وحده له عدم الموت، والإنسان ينال
نصيباً من الخلود بقوة قيامة المسيح:
إن التعليم المسيحي في هذا الشأن ينبع من الإيمان بأن الإنسان يمكنه أن ينال نصيباً في عدم الموت. فالرجاء في المسيحية ليس قائماً على استحالة عدم موت النفس البشرية، بل على قوة قيامة المسيح التي منحت الإنسان المؤمن الحياة الأبدية.
وبصورة مُطلقة، الله هو الذي «له وحده عدم الموت» (1تي 6: 16). وهذا لا يعني أن البشر لا يمكنهم أن ينالوا نصيباً في عدم الموت. ولكن الإنجيل يؤكِّد أن الله هو وحده الذي له الخلود كصفة أساسية في جوهره. فالله وحده هو واجب الوجود، أما باقي الخلائق فلهم الوجود المشتقُّ أو المعتمد على الوجود الإلهي. وهذا ينطبق على النفس والجسد البشريَّيْن. فحينما نؤكِّد على الوجود الشخصي للإنسان بعد الموت، فهذا لا يعني أن الحياة الأبدية للبشر تجعلهم مثل الله أزليين أي غير مخلوقين.
استمرار الحياة بعد الموت:
وبهذا المفهوم، تؤكِّد المسيحية على أن الحياة البشرية المخلوقة ستبقى حيَّة بعد الموت الجسدي. الجسد البشري بطبيعته مائت، لكن الجوهر الحي لنفس الإنسان قد نال خاصية أن يبقى حيّاً مع الله حتى حينما تتحلَّل كل خلايا الجسد.
? وهكذا، فالحياة الأبدية مع الله ليست حقّاً يدَّعيه الإنسان المسيحي، بل هي عطية من الله في تدبيره للخلاص، أنْ يجعل الشركة مع الله مغروسة وأبدية في الإنسان: «الذي بصبرٍ في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة وعدم الموت، فبالحياة الأبدية» (رو 2: 7 - والترجمة اليونانيـة الأصلية لكلمـة ”البقاء“ التي وردت في الترجمة البيروتية، هي ”عدم الفساد“ aphtharsia).
? فالحياة بعد الموت ليست خاصية غريزية في الإنسان، بل هي الحياة المُعطاة والموهوبة من الله بالفداء الإلهي، والله يظل يحفظها في المؤمنين. وهذا التواصُل في المحافظة على الحياة الأبدية هو أيضاً من قبيل نعمة الله، وليس من أعمالٍ ولا من مجهودٍ بشري. إن البشرية المخلوقة حسب صورة الله، نالت عطية عدم الموت من يديِّ الله، ولكن ليس كخاصية ذاتية في الإنسان (تك 1: 26).
? ولا التعليم المسيحي عن النفس يدَّعي أن عدم موت النفس ناتجٌ عن أنَّ النفس غير مادية. فتعبير ”عدم موت“ النفس يصير صحيحاً حينما يعني أن النفس الحيَّة التي خُلِقَت على صورة الله، لا تموت بموت الجسد، بل هي تنتظر قيامة الجسد لتتمجَّد بلبسها جسد القيامة المُمجَّد.
الحالة المتوسطة بين الموت والقيامة العامة:
الحالة التي توجد عليها النفس بين موت الجسد والقيامة العامة للأجساد، تُسمَّى ”الحالة المتوسطة“؛ وهي تُميِّز ما بين الحالة الحاضرة للحياة (أي النفس متحدة بالجسد)، وبين الحالة النهائية لقيامة الأجساد بعد المجيء الثاني للمسيح.
مما لا شكَّ فيه أنه بعد الموت، تكون نفس المؤمن بين يديِّ الله منتظرة قيامة الأجساد. والنفس البارة التي كانت، وهي في الجسد، كل هذيذها وصلواتها وتأمُّلاتها في حضرة الآب والمسيح؛ لا شكَّ أنها ستكون واعية لفرحها بالوجود مع المسيح، بغير أي عائق أو شغب الحياة الحاضرة في العالم، وذلك في انتظار القيامة العامة.
مشيئة الإنسان، وهل تتغيَّر بعد الموت؟
بالموت تنتهي القدرة على المشيئة والإرادة للإنسان بالمعنى الذي كان موجوداً قبل الموت: «كلُّ ما تجده يدك لتفعله، فافعله بقوتك؛ لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهبٌ إليها» (جا 9: 10).
وهكذا يتحدَّد الخط الفاصل عند الموت، الذي لا يخضع بعده للاختيار الحرِّ أو مراجعة الحياة السابقة من جانب النفس. وهذا يظهر واضحاً في مَثَل: ”الغني ولعازر“ الذي فاه به المسيح: «بيننا وبينكم هوَّة عظيمة قد أُثبِتَتْ، حتى إنَّ الذين يُريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون، ولا الذين من هناك يجتازون إلينا» (لو 16: 26). أي أنَّ ما كان في الحياة الحاضرة من اتجاه النفس للتغيير بالاختيار الشخصي، هذا لم يَصِر موجوداً.
ولكن لا توجد دينونة أولية
أو ابتدائية بعد الموت:
هذا الفكر ظهر في كنيسة روما في القرن الثالث عشر أنه بعد الموت مباشرة توجد دينونة شخصية للإنسان غير الدينونة العامة التي تكلَّم عنها المسيح، وذلك على يد توما الأكويني العالِم اللاهوتي الغربي(1). وقد اعتنق هذا الفكر فريقٌ من علماء اللاهوت في الكنيسة البيزنطية.
ولكن التراث اللاهوتي القبطي الأرثوذكسي لا يعتنق مثل هذا الفكر على الإطلاق لسببين هامين:
1. إنه لم يَرِد على الإطلاق على فم المسيح سوى الحديث عن الدينونة العامة، وذلك بعد القيامة العامة للأجساد؛
2. وبناءً على ذلك، فإنَّ الدينونة لا يمكن أن تقع على النفس وحدها، لأنها كانت شريكة الجسد في فعل الصالحات أو في فعل الشرور؛ فلا يمكن أن تتم الدينونة إلاَّ بعد أن تلبس النفس جسدها بعد المجيء الثاني للمسيح وقيامة الأجساد.
ماذا ترى الكنيسة في حالة النفس بعد الموت؟
إن رؤية الكنيسة للنفس بعد انفصالها عن الجسد بالموت تتضح لنا من الصلوات على الراقدين، ومنها يتضح أن الكنيسة تُشيِّع أولادها وبناتها الراقدين والراقدات إلى الله، وتتوسَّل من أجلهم أن يقبلهم الله في فردوس النعيم. وحتى إذا كـان أحد قد لحقه أي ضعف أو توانٍ أو خطية - كبشر - فإن الكنيسة تتوسَّل إلى الله أن يغفر لهذه النفس خطاياها بناءً على رحمته ومحبته للبشر. وهذه هي صلاة التجنيز في يوم الجنازة:
[هذه النفس التي اجتمعنا بسببها، يا رب، نيِّحها في ملكوت السموات. افتح لها يا رب أبواب السماء، واقبلها إليك كعظيم رحمتك. افتح لها يا رب باب البرِّ، لكي تدخل وتتنعَّم هناك. افتح لها يا رب باب الفردوس، كما فتحتَه للِّص اليمين. افتح لها يا رب باب الملكوت، لتُشارك جميع القدِّيسين. افتح لها يا رب أبواب الراحة، لتُرتِّل مع كافة الملائكة. ولتستحق أن تنظر النعيم. ولتُدخِلها ملائكة النور إلى الحياة. ولتتكئ في حضن آبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب. اغفر لها خطاياها التي سَبَقت فَصَنَعَتها، بمعرفة وبغير معرفة معاً؛ لأنك أنت يا رب تعرف ضعف البشرية ونقصها].
ص 180 - نشر مكتبة المحبة - القاهرة
أما إذا تساءل البعض: وهل يمكن أن يغفر الله للنفس بعد الموت؟ هذا السؤال لا يشغل فكر الكنيسة، لأنها لا تترجَّى إلاَّ رحمة الله؛ حيث لا يقودها في هذا الفكر إلاَّ إيمانها بكلمات الوحي الإلهي عن الرحمة الإلهية:
+ «لأن الحُكْم هـو بـلا رحمة لمَـن لم يعمل الرحمة. والرحمة تفتخر على الحُكْم» (يع 2: 13).
+ «كونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيمٌ» (لو 6: 36).
- في مَثَل العبد الشرير الذي لم يرحم أخاه ويعفيه مِمَّا عليه من دَيْنٍ، بينما كان السيِّد قد عَفَاه هو من الدَّيْن الذي عليه بقوله: «أفما كان ينبغي أنك أنت أيضاً ترحم العبد رفيقك كما رحمتُك أنا» (مت 18: 33).
وليس للكنيسة من عمل سوى الصلاة إلى الله وطلب الرحمة للنفوس التي تنتقل من هذا العالم. وبعد ذلك فالأمر في يد الله وحده.
وتتمثَّل الرحمة التي تُمارسها الكنيسة في صلواتها من أجل الراقدين حيث تطلب لهم الرحمة والمغفرة في كل ما أخطأوا به وهُم في الجسد. وهذا السلوك والفكر مُنطبعان على كافة ليتورجيات الكنيسة من صلوات وتسبيحات، حيث تتردَّد صلاة ”يا رب ارحم“ ”كيرياليسون“ كمردٍّ متكرر عشرات المرات لكل طِلْبة وصلاة، حتى سمَّى البعض كنيستنا القبطية بكنيسة الـ ”كيرياليسون“!
حالة الأبرار في هذه المرحلة المتوسطة:
إن أرواح المؤمنين الأبرار عند الموت تكون في شركة مع الله، إنهم «أرواح أبرار مُكمَّلين» (عب 12: 33)، وأسماؤهم مكتوبة: «في السموات» (عب 12: 23)، وهم مُعتَبَرون «أحياء» (مت 22: 32)، ويَحْيَون معه (2تس 5: 10)، وهم يتمتعون بحالة من الراحة والطوبانية أي السعادة (رؤ 6: 9-11).
ونفوس الأبرار الذين يموتون يدخلون في هذه الحالة في الحال، وهي التي تُسمَّى ”حضن إبراهيم“، والراحة (لو 16: 22؛ رؤ 14: 13). إلاَّ أنهم لا ينالون قيامة الأجساد المُمجَّدة المذكورة في (1تس 4: 16) إلاَّ عند المجيء الثاني للمسيح وقيامة ”الأموات في المسيح أولاً“، ولا المذكورة في (1كو 15: 22): «في المسيح سيُحيا الجميع. ولكن كل واحد في رتبته: المسيح باكورة (أي أولاً)، ثم الذين للمسيح في مجيئه» (أي بالترتيب: ”المسيح“ أولاً، ثم ”الذين للمسيح“)، فهما رتبتان.
وقد كان القديس بولس يُصحِّح خطأً في تعليم يُروِّجه البعض في زمانه: إن القيامة العامة قد حدثت «القيامة قد صارت» (2تي 2: 18)؛ لكن الراحة والنياح في الفردوس هو سَبْق تذوُّق للسعادة الأبدية التي للأبرار بعد حدوث القيامة للأجساد ثم الدينونة حسب الأعمال.
الفردوس، والسماء الثالثة، وحضن إبراهيم؛
إشارات للمرحلة المتوسطة ما بين
الموت والقيامة العامة:
الفردوس هو الاسم الرمزي لحالة السعادة التي كانت تسود ”جنة عدن“ (تك 2: 8 وما بعده). وأحياناً يُستخدم تشبيه ”الفردوس“ كمثيل للسماء أو كدرجة في السماء (لو 23: 23؛ 2كو 12: 2-4 ”السماء الثالثة“؛ رؤ 2: 7). والفردوس وحضن إبراهيم (لو 17: 22)، هو حالة ليست هي السعادة الأبدية، بل هو حالة الأبرار ما بين الموت والقيامة العامة.
ويصف القديس بولس ما حدث له ”قبل 14 عاماً“ من كتابته هذه الحادثة، أنه: «اخْتُطِف إلى السماء الثالثة» (2كو 12: 2). وقال إنه لا يعرف ما إذا كان في الجسد، وهو في هذه الحالة، أم خارج الجسد (الآية رقم 3). ويُطلق على هذه السماء الثالثة ”الفردوس“.
”شيئول“ أي الجحيم،
والقيامة في العهد القديم:
لقد أوضح العهد القديم الفرق بين الحالة المستقبلية للأبرار وتلك التي للأشرار. فالقيامة العامة - في نظر العهد القديم - ستُنهي على الحالة المتوسطة أيّاً كانت طبيعتها أو اسمها. فبينما كان عند الأبرار رجاء في الخلاص من الجحيم الذي كان ينزل إليه كل الأموات؛ لم يكن مثل هذا الرجاء لدى الموتى الأشرار.
أما في العهد الجديد، فلا نجد في أسفاره ورسائله أية إشارة إلى الجحيم إلاَّ ما ذُكِرَ عن نزول المسيح إليه بعد الصليب للإفراج عن المأسورين من آباء العهد القديم الذين ماتوا على رجاء مجيء المسيَّا ”المسيح“، وكذلك للكرازة للأرواح التي في السجن (الجحيم) الذين عَصوا قديماً، كما يقول بطرس الرسول: «الذي فيه أيضاً ذهب فكَرَزَ للأرواح التي في السجن، إذ عَصَتْ قديماً... فإنه لأجل هذا بُشِّر الموتي أيضاً، لكي يُدانوا حسب الناس بالجسد، ولكن ليَحْيَوْا حسب الله بالروح» (1بط 3: 20،19؛ 4: 6)؛ مِمَّا يُظهِر عِظَم رحمة الله على الجميع بدون تمييز بين شعب الله القديم وباقي الشعوب. وقد سُمِّي الجحيم باسم آخر أيضاً: ”الهاوية“، وهي الموضع حيث يُطرح فيه إبليس المُسمَّى بالتنِّين (رؤ 20: 3). على أن الهاوية ستُسلِّم الأموات الذين فيها، كلَّ مَن لم يوجد في سِفْر الحياة، ليُدانوا حسب أعمالهم (رؤ 20: 15)
أما في ليتورجيات الكنيسة القبطية، فلا يوجد ذِكْر لموضع الجحيم، ولا لموضع نفوس الأشرار؛ بل هناك صلاة يُصلِّيها الكاهن إلى الله من أجل النفوس المنتقلة لكي تحيا ”في نور قدِّيسيك“ في فردوس النعيم. كما تُرفع الصلاة إلى الله لكي يغفر للنفوس التي أخطأت وهي في الجسد، ولكي يرفع عنها العقوبات المفروضة عليها: ”وإن كان قد صنع (المتوفي) شيئاً من الخطايا إليك مثل البشر، اغفر له وسامحه، ولْتَزِل عنه سائر عقوباته، لأنك لم تخلق الإنسان للهلاك بل للحياة“ (صلاة في تجنيز الرجال - كتاب الصلوات، المرجع السابق، ص 181).
حالة غير الأبرار في المرحلة المتوسطة:
فالذين ماتوا في عدم الإيمان يكونون في حالة انتظار، وهم في انفصال عن الله، أو وهم متغرِّبون عنه. وكذلك «الذين لا يُطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح» سيُغلق عليهم «من وجه الرب» (2تس 1: 9،8).
أما نفوس الأشرار فيظهرون في حالة اغتراب نتيجة آثامهم، حيث سينتظرون القيامة العامة والدينونة، وسيبقون في حالة الانفصال عن الله وقداسته التي اختاروها هم بأنفسهم. وبسبب عدم رؤيتهم لله، فإنهم يُصوَّرون بفقدانهم الفرح الأبدي. كما يُصوَّرون كمَن هم في سجن «يحفظ الأَثَمَة إلى يوم الدين مُعَاقبين» (2بط 2: 9).
بين الفردوس، والجحيم، وجهنم:
وفي العهد القديم، يُشير اسم ”الجحيم“ أحياناً ليُعني موضع الأموات على وجه العموم؛ بينما يُشار في العهد الجديد إلى موضع الراقدين في المسيح بالفردوس (لو 23: 43؛ 2كو 12: 4؛ رؤ 2: 7).
وقد يكون مصير الأموات غير الأبرار فيما يُسمَّى ”جهنم“ (مت 5: 22-30؛ 10: 28؛ 18: 9؛ 23: 13-15؛ مر 9: 43-47؛ لو 12: 5؛ يع 3: 6). وكلمة ”جهنم“ هي في أصلها النطق العربي للكلمة اليونانية gy أي ”وادي“، واسم المنطقة ”هنُّوم“ Hennoum، فتُنطق ”جهنم“. وهي تُشير إلى ”وادي هِنُّوم“، وهي منطقة في فلسطين كانت تُقدَّم فيها الذبائح للإله مولوخ، وقد صارت بعد ذلك مَقْلباً للقمامة، حيث ترتفع فيها النيران باستمرار وبلا توقُّف.
أما كلمة ”الجحيم“ فكانت تُشير إلى ما يُسمَّى في العهد القديم ”شيئول“، وهو مكان النفوس التي تنتقل من هذا العالم. ويُستخدم الاسم في مواضع أخرى كمكان للهلاك كما تنبَّأ المسيح عن كفر ناحوم (مت 11: 23). كما يُشار إلى ”الجحيم“ بأن أبوابه لن تَقْوَى على الصمود أمام الكنيسة: «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18).
(يتبع)