بحث تاريخي |
|
|
الأستاذة الدكتورة/ شيرين صادق الجندي
أستاذ الآثار والفنون القبطية
ورئيس قسم الإرشاد السياحي بكلية الآداب - جامعة عين شمس
أتيحت لي زيارة الأديرة القبطية المشيَّدة في سوهاج أثناء حضوري المؤتمر الدولي للمسيحية والرهبنة القبطية والذي عقدته مؤسسة القديس مرقس لدراسة التاريخ القبطي Saint Mark Foundation for Coptic History Studies في هذه المحافظة (2-6 فبراير 2006) حيث استمتعت بزيارة أهم المنشآت الدينية القبطية بها وبالأخص الدير الأبيض للقديس شنودة والدير الأحمر للقديس بيشاي.
أولاً: الدير الأبيض The White Monastery
وُلد القديس شنودة رئيس المتوحدين Saint Shenute the archimandrite في عام 343م بقرية شـندويل على مقربة من أخميم Panopolis. وبعد بلوغه عامه التاسع، أرسله والده إلى خاله القديس بيجول Pjol، وكان في ذلك الوقت رئيس الدير القبطي المشيد في أخميم. وتنبأ له القديس بيجول بأنه سيكون لاحقاً رئيساً للدير. وسار القديس شنودة على نهج القديس باخوميوس Saint Pachomius في حياة الديرية الجماعية والذي يتطلب ممارسة الطقوس الدينية مع باقي النساك بالإضافة إلى العمل اليدوي، ولذلك، كان لكل راهب حرفته التي برع فيها واشتغل بها.
الدير الأبيض في المصادر التاريخية
والدراسات الحديثة:
ذُكِرَ الدير الأبيض في بعض المصادر التاريخية لكلٍّ من أبو المكارم (القرن 12م) وتقي الدين المقريزي (القرن 15م). كما أشار إليه بالتفصيل كلٌّ من: ألفريد بتلرA. Butler (1884) وأميلينو E. Amélineau (1886-1888) وأنفيل J.B.B. Anville (1765) وبيل H.I. Bell (1910) وبتهون بيكر J.F. Bethune-Baker (1908). ويُعد ما كتبه لوففرG. Lefebvre في عام 1910 عن هذا الدير باللغة الفرنسية “Dair al-Abiad”, Dictionnaire d’archéologie chrétienne et de liturgie, vol. 4, Paris من أهم ما كتب عن هذا الصرح المعماري الفريد. ومن أهم العلماء والباحثين الذين عكفوا على دراسة الدير الأحمر دراسة تفصيلية، نشير إلى جون كليدا J. Clédat (1905، 1910) وكون K.H. Kuhn(1954-1955).

اللوحة رقم 1. الدير الأبيض بسوهاج
عمارة الدير الأبيض:
شُيد الدير الأبيض في القرن الرابع الميلادي (اللوحة رقم 1/ الشكل 1)، بعد أن انتشرت حركة الرهبنة القبطية في صعيد مصر. ويُعتقد أن هذا الدير قد بُنيَ على بقايا معبد مصري قديم بيد أتباع القديس باخوم. ومما يُؤكد ذلك مناظر وأشكال الآلهة المصرية القديمة التي تعلو البابان الشمالي والجنوبي للدير، إلى جانب وجود بعض المقاصير الجرانيتية في بعض أركان الدير.
ويقع الدير على بعد 500 كم جنوب غرب الأقصر وفى غرب سوهاج بحوالي 6 كم عند نهاية الأراضي الزراعية وعلى حافة الصحراء، ويُعرف حاليًّا باسم الدير الأبيض لأنه مُشيَّد بالحجر الجيري الأبيض، ولتمييزه عن الدير الأحمر الذي بناه القديس بيشاى Saint Pishai على بعد حوالي 2 كم شمالاً. وفي ذلك العصر، كان يعيش في الدير الأبيض ما يقرب من 1800 راهب في عصر الأنبا شنودة.

الشكل 1. مسقط أفقى للكنيسة الأثرية
بالدير الأبيض بسوهاج
ووفقاً لتاريخ الأنبا شنودة، فإنه أصبح رئيساً للدير الأبيض في سنة 383م بعد نياحة خاله الأنبا بيجول، وكان يعيش في مباني الدير المختلفة ما يقرب من ثلاثين راهباً. ويُعتقد أيضاً أن الإمبراطورة هيلانة والدة الإمبراطور الروماني قسطنطين قد ساهمت في بناء دير الأنبا شنودة وغيره من الأديرة القبطية.
وألحق بالدير الأبيض كثير من المنشآت والإضافات والتوسعات في عهد رئاسة الأنبا شنودة للدير بسبب ازدياد عدد الرُّهبان القانطين به حينذاك وكان عددهم ما يقرب من 2200 راهباً. وتعتبر كنيسة الدير الأبيض الرئيسية من أهم المباني التي حرص القديس على تأسيسها بذاته في عام 448م.
ومنذ القرن السابع الميلادي تقريباً، بدأت الهجمات والغارات على الدير. كما كانت هناك محاولات كثيرة للاعتداء على الصندوق الموجود به جسد الأنبا شنودة في منتصف القرن الثامن تقريباً. وفي القرن الثالث عشر الميلادي، أجريت بعض الترميمات بالدير، وذلك في أعقاب الزلزال الذي تسبب في حدوث تصدعات كثيرة بالدير الأبيض وسـقوط سقف هيكله. وأدت هذه الترميمات إلى تغيير كبير في تخطيط الكنيسة الرئيسـية بالدير. وفي نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وبالتحديد في سنة 1789م، دارت الحروب الطاحنة بين الأمراء المماليك والجنود الفرنسيين بقيادة نابليون بونابرتNapoléon Bonaparte ، فتعرض الدير الأبيض شأنه شأن غيره من الأديرة والكنائس القبطية لمزيد من التدمير والتخريب. واندثرت كثير من منشآته كالقلايات الخاصة بسكن الرهبان والمائدة الأثرية والمطبخ الملحق بها والفرن والمخازن ولم يتبق غير بعض الهياكل.
وتعتبر كنيسة القديسة مريم العذراء من أهم المعالم الأثرية الكبيرة المتبقية بالدير الأبيض (اللوحة رقم 2). وهي مُشيدة وفقاً للتخطيط المعماري البازيليكي. فهي تتكون من مستطيل مساحته حوالى 10 x 22م، وبها ثلاثة مذابح حيث يُعرف الأوسط منها باسم مذبح السيدة العذراء. بينما يحمل الهيكل الأيمن اسم الأنبا شنودة رئيس الدير. أما الهيكل الأيسر فهو هيكل القديس أنطونيوس الكبير. وتنتشر الحجرات والسلالم حول الهياكل بما يعكس تأثير عمارة المعابد المصرية القديمة التي تتجلى زخارفها أيضاً على بعض أحجار مباني الدير. وتتعدد الحنايا وتختلف أشكالها داخل الكنيسة. وتعتبر كنيسة هذا الدير من أهم وأقدم وأعظم الكنائس المشيدة بمصر حيث أنها تعكس بوضوح الطابع المصري في العمارة.

اللوحة رقم 2. كنيسة الدير الأبيض الأثرية بسوهاج
ويصل الزائر إلى باب الحصن من الناحية الشمالية للكنيسة الرئيسية، ويعلو هذا الباب شكل آدمي لرئيس الملائكة ميخائيل Archangel Michael. ويقع تافوس الدير في المدخل، ويليه سلم يُؤدي إلى الركن الشمالي الشرقي من الحصن. وفى الطابق الثاني، توجد كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل. ويُمكن مشاهدة قباب الكنيسة من أعلى سـطح الحصن. ويحتوي الدير أيضاً على كنيسة الأنبا شنودة رئيس المتوحدين. كما يضم الدير حاليًّا عدداً كبيراً من القلايات الحديثة المحاطة بالأسوار والبوابات الخاصة. كما يُوجد المقر البابوي بجوار الدير الأبيض. ومن أهم ملحقات الدير، بيت الخُلوة المكون من أربعة أدوار. وكل دور به ثمانى حجرات. وتمتد مزرعة الدير الواقعة خارج سوره الحجري على مساحة ما يقرب من عشرين فداناً. وتقع مغارة الأنبا شنودة التي قضى بها كل حياته خارج الدير وتعرف بالقطعية، وتبلغ مساحتها الإجمالية 100 x 20م تقريباً.
وفي عام 464 أو 465، تنيح القديس شنودة بعد أن قام ببناء كثير من الكنائس في الواحات الغربية، وبعد أن ترك لنا عدة أعمال أدبية هامة ومؤلفات باللغة القبطية أَثْرت التراث القبطي. ويُعتبر ستيفن إميل Stephen Emmelمن أهم علماء القبطيات بجامعة مونستر بألمانيا وأحد أهم المتخصصين في دراسة حياة القديس الأنبا شنودة ومؤلفاته الأدبية.
ثانياً: الدير الأحمر The Red Monastery
يوجد الدير الأحمر على بعد 4 كم شمال الدير الأبيض ويشبهه إلى حدٍّ كبير من الناحية المعمارية. ويُعرف دير الأنبا بيشاى Saint Pishai بغرب سوهاج باسم الدير الأحمر بسبب تشييد مبانيه من الطوب الأحمر (اللوحة رقم 3/الشكل 2). كما يُطلق عليه كذلك اسم دير الأنبا بيجول والذي عاش ناسكاً في جبل أتريب Atrib. ووردت الإشارة إلى هذا الدير وتاريخه وعمارته ومبانيه المختلفة في كتابات كثير من المؤرخين والرحالة والباحثين المعاصرين، نظراً لعمارته المتميزة التي تعكس تأثير العمارة المصرية القديمة، إلى جانب ما به من رسومات جدارية لمناظر مختلفة من حياة القديسة مريم العذراء والسيد المسيح وبعض القديسين الأقباط وأنبياء العهد القديم، بالإضافة إلى تنوع الزخارف النباتية والهندسية والمعمارية والكتابات والنقوش الأثرية القبطية التي تتجلى في تناسق وتناغم يشير إلى دقة وبراعة الرسامين الأقباط ويضفي مزيد من الروحانية في هذا الصرح المعماري الضخم.

اللوحة رقم 3. الدير الأحمر بسوهاج

الشكل 2. الكنيسة الأثرية بالدير الأحمر بسوهاج
(يتبع)