ادخل إلى العمق


- 13 -
الولادة من الله ”الميلاد الثاني“
«الآن نحن أولاد الله» (1يو2:3)




تمهيد:

لعلَّ من أعظم العطايا التي وهبها الله لنا، من قِبَل تجسُّده الطاهر في شخص ابنه، وفدائه الذي صنعه من أجلنا، ثمَّ بقيامته المجيدة وصعوده وإرساله روحه القدوس ليسكن فينا؛ أنَّه أعطانا نعمة الميلاد الثاني (أي الولادة الروحية من الله)، لنحيا كخليقة جديدة، ونتجدَّد بنعمته لنصير أبناء لله العليِّ بالروح، مولودين لا من زرعٍ يفنى، بل من روح الله الأزلي الذي لا يفنى. كما رتَّب لنا مدخلاً ملوكيًّا لهذا الميلاد الثاني المجيد والجديد، بالمعمودية المقدَّسة، التي صارت لنا صبغة سمائية، وشهادة إيمان، وشركة آلام مع الربِّ، واعترافاً بموته وقيامته وصعوده من أجلنا، وأيضاً - من قِبَل روحه القدوس- صرنا أطهاراً، ونلنا نعمة البنوَّة لله بالميلاد من الماء والروح، فأصبحنا بني العليّ نُدعَى.

معنى أولاد الله، ومن هم أولاد الله؟

ينبغي لنا أولاً، أن نُدرِك أنَّ تسميتنا أولاد الله، إنَّما تحمل في طيَّاتها زخم حبٍّ غير موصوف وعطية فائقة يصعُب إدراكها، عن مدى غنى محبة الله ورحمته علينا، كما يقول يوحنا الرسول: «انظروا أية محبة أعطانا الله حتى نُدعَى أولاد الله» (1يو1:3)، فهذه العطية والهبة المجَّانية المعطاة من الله لنا كخليقة ضعيفة، تشهد بروعة هذه المحبة وعِظم هذه الرحمة. لكن تُرى من هم أولئك المحسوبين أولاداً لله؟:

+ هم أولئك المؤمنون باسمه، والذين قبلوه واعترفوا به ربًّا وإلهاً، والذين يسجدون له بالروح والحقِّ، وهؤلاء يكتب يوحنا الرسول عنهم بالروح: «وأمَّا كلُّ الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي الذين يؤمنون باسمه» (يو12:1).

+ هم أولئك الذين تجدَّدوا وانسلخوا من ولادتهم الجسدية، ومن كلِّ ما يجذبهم من غرائز جسدية وضعفات ورباطات أرضية فانية. وجاهدوا ضد كلِّ ميول الشرِّ، وتغيَّروا عن شكلهم بتجديد أذهانهم بالمعمودية المقدَّسة وبكلمة الله المحيِيَة، ليصيروا مولودين لله بالروح، ومستحقين لميراث البنين؛ كما يقول يوحنا الرسول: «الذين ولِدوا لا من دمٍ، ولا من مشيئة جسدٍ، ولا من مشيئة رجلٍ، ولكن من الله» (يو13:1).

+ وهم أيضاً الذين صار غذاؤهم كلمة الله المحيِّية المشبعة لحياتهم؛ ذلك اللبن العقلي السمائي الذي يتوافق مع طبيعة الإنسان الجديد، المولود ليس من زرع يفنى، كقول بطرس الرسول: «مولودين ثانية، لا من زرعٍ يفنى، بل ممَّا لا يفنى، بكلمة الله الحيَّة الباقية إلى الأبد» (انظر: 1بط23:1؛ 1بط 2: 1؛ يو 6: 6و8).

+ أخيراً أولاد الله هم أولئك الذين أسلموا أنفسهم لقيادة الروح القدس الذي نالوه وقت معموديتهم، فصار لهم هادياً ومُرشداً وقائداً ومُدبِّراً لتكميل خلاصهم، كما يقول بولس الرسول بالروح: «لأنَّ كلَّ الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله» (رو14:8).

صفات أولاد الله:

+ يصنعون البرَّ: يقول القديس يوحنا البشير عنهم: «إن علمتم أنَّه بارٌّ هو، فاعلموا أنَّ كلَّ من يصنع البرَّ مولود منه» (1يو29:2).

+ مقاومون للخطية: فهم بولادتهم من الله؛ قد صاروا خليقة جديدة في الإنسان الباطن (انظر أف 16:3)، وهذا الإنسان الجديد المولود فيهم، قد انفصل تماماً عن ذاك العتيق وميوله الطبيعية نحو الخطية، كقول القديس بولس الرسول: «فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 20:2). فالذي يخطىء يبرهن على أنه لم يولد بعد من الله، ولم يقمع إنسانه العتيق ويضبطه ليثبت في المسيح ويعيش في جِدَّة الحياة التي وُهِبَت له مجاناً. كما يوضِّح الأب متى المسكين ذلك باختصار في قوله: ”من يثبت فيه لا يخطىء.(1)“ فالانتماء إلى المسيح والثبات فيه – وليس مجرد التبعيَّة أو التشبُّه به – هو الذي يحمي الإنسان ويعطيه الغلبة على الخطية ويعطيه كل مفاعيل الحياة المقدَّسة، فإنه لا توجد شركة بين النور والظلمة. وهذا يعني أن المسيح الحي فيَّ غير قابل للخطية، فقد صرت بولادتي من الله روحيًّا أحمل طبيعة الإنسان الجديد المولود من فوق، والذي لا يمتُّ لآدم أو الأرض أو الخطية بِصِلَة. وبقدر ثباتي وجهادي مقابل ميول وضعفات الإنسان العتيق الأول، وعدم تهاوني في قمعه وضبطه؛ يكون لي نصيب وميراث البنين بسبب ميلادي الثاني الجديد الذي نلته بمعموديتي من الماء والروح. حتى وإن ضَعُفْت ومِلت نحو الخطية، فالروح القدس الحيُّ في داخلي سوف يدفعني نحو التوبة والاعتراف والرجوع، من أجل تجديد روح الحياة الكائن بداخلي، ونوال الغفران الكامل بشفاعة دم المسيح الثمين، وإعطائي معونة في جهادي ومقاومتي لروح الخطية والشرِّ التي لإنساني الأول العتيق(2)

+ مملوؤون محبة لله ولبعضهم بعضاً: ويشهد عن ذلك الرسول يوحنا إذ يقول: «أيها الأحبَّاء، لنُحبَّ بعضنا بعضاً، لأنَّ المحبة هي من الله، وكلُّ من يحب فقد ولِد من الله ويعرف الله» (1يو7:4).

+ أصحاب إيمانٍ كامل بالمسيح، أنَّه الإله المتجسِّد: فهو بالنسبة لهم هو الله الظاهر في الجسد، مخلص حياتهم، والمولود من الآب قبل كلِّ الدهور؛ بحسب منطوق قانون إيماننا القويم. وعن هذا يقول القديس يوحنا البشير بالروح: «كلُّ من يؤمن أنَّ يسوع هو المسيح فقد ولِد من الله. وكلُّ من يحب الوالد يحب المولود منه» (1يو1:5).

+ أصحاب آذانٍ سامعة وعاملة بكلمة الله: فهؤلاء، بسبب الروح القدس الساكن فيهم، يقبلون كلمة الله بفرح واشتياق واجتهاد، ويُخبئونها في قلوبهم، فلا يعملون خطية، ويعطيهم الروح النُّصرَة على كلِّ حروب إبليس معهم، بمعونته لهم، فيتمُّ فيهم قول الرسول يوحنا: «أنتم من الله أيها الأولاد، وقد غلبتموهم لأنَّ الذي فيكم أعظم من الذي في العالم ... نحن من الله، فمن يعرف الله يسمع لنا، ومن ليس من الله لا يسمع لنا» (1يو6،4:4).

+ يسلكون بالروح وليس حسب الجسد: فهم يتَّسمون بالاتضاع، وليسوا مُعجبين ولا غضوبين، ولا حاسدين لبعضهم البعض، كقول بولس الرسول: «إن كنَّا نعيش بالروح، فلنسلك أيضاً بحسب الروح. لا نكن معجبين نغاضب بعضنا بعضاً، ونحسد بعضنا بعضاً» (غل26،25:4).

+ رجاؤهم واهتمامهم في السماء: وذلك لأنهم مولودون من الله، كما قال عنهم الربُّ يسوع: «ينبغي أن تُولَدوا من فوق» (يو7:3). والمولود من فوق دائماً ما يرفع ناظريه إلى فوق، ودائماً يطلب ما فوق حيث المسيح جالس، فلا تجذبه شهوة، ولا يتسلَّط عليه احتياج أرضي أو جسدي، ولا تقدر أيَّة قوة أن تمنعه عن التطلُّع لمركز حياته الأبدية، وعن الملكوت المعَدُّ لأولاد الله في السماء.

+ أصحاب ثقة وإيمانٍ كامل بقدرتهم على مخاطبة الآب كلَّ حين بدالة البنين، إذ لهم ثقة وإيمان كامل بتعضيد الروح القدس الساكن داخلهم لمخاطبة الآب كأولاد، ثقة بشهادة الروح القدس لأرواحهم أنهم أولاد الله: (انظر رو16:8).

كيف نولَد من الله:

1- بالمعمودية من الماء والروح: قال الربُّ يسوع لنيقوديموس: «الحقَّ الحقَّ أقول لك: إن كان أحدٌ لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو5:3)، فالولادة من الماء والروح تمثِّل صكَّ العبور من البُنوَّة حسب الجسد إلى البنوَّة بالروح؛ أي الميلاد الثاني الروحاني للإنسان الجديد. فالولادة من الماء والروح (بالمعمودية) هي عربون شركتنا في موت المسيح ودفننا معه، ثمَّ قيامتنا أيضاً معه بإنساننا الجديد، في المسيح يسوع، والمهيَّأ لميراث ملكوت السموات؛ لأنَّ لحماً ودماً لا يرثان ملكوت السموات. لهذا نقول إنَّ سرَّ المعمودية - الذي رتَّبته الكنيسة كأول أسرارها المقدَّسة - هو المدخل الأساسي والطبيعي الذي نولد به بالروح من الله، فنصير له أبناءً، بعد ما نكون قد عبرنا مع المسيح شركة آلامه وموته، وقمنا معه في جدَّة الحياة، كما يقول معلِّمنا بولس الرسول: «أم تجهلون أنَّنا كلُّ من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم يسوع من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدَّة الحياة» (رو4،3:6).

2- بالإيمان باسم ابن الله: يقول يوحنا الرسول: «كلُّ من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد وُلِد من الله، وكلُّ من يحب الوالد يحب المولود منه أيضاً» (1يو5:1). ويقول البشير أيضاً: «لأنَّ كلَّ من ولد من الله يغلب العالم. وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم: إيماننا» (1يو4:5).

بركات البُنوَّة لله (الولادة من الله):

تتلخص أهم البركات والعطايا التي نقتنيها بولادتنا (بنويَّتنا) لله فيما يلي:

1- نصير ورثة لله بالمسيح: وفي هذا يقول بولس الرسول: «ثمَّ بما أنَّكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أبا الآب. إذاً لست بعد عبداً بل ابناً، وإن كنت ابناً فوارث لله بالمسيح» (غل7،6:4).

2- نوال سلطان الروح، لنغلب العالم: يكتب يوحنا الرسول في رسالته الأولى قائلاً: «لأنَّ كلَّ من وُلِد من الله يغلب العالم» (1يو4:5)، ثمَّ يكمل بقوله: «أنتم من الله أيها الأولاد وقد غلبتموهم لأنَّ الذي فيكم أعظم من الذي في العالم» (1يو4:4).

3- سنتأهَّل لدخول ملكوت السموات: بنوَّتنا لله، وولادتنا منه بالماء والروح، قد وهبت لنا استحقاق دخول ملكوت الله؛ وذلك يؤكِّده لنا الربُّ يسوع في حديثه مع نيقوديموس، إذ يقول: «إن كان أحدٌ لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو5:3).

4- سوف نُعطَى مجد الابن عند ظهوره: ذلك لأننا سنراه كما هو، وسوف نكون مثله، وينطبع علينا بهاء مجد البنين، كما يكتب يوحنا الرسول بالروح: «أيها الأحباء. نحن الآن أولاد الله، ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنَّه إذا أُظهرَ نكون مثله، لأنَّنا سنراه كما هو» (1يو2:3).

5- وُهِبنا أن نخاطب الآب قائلين يا أبانا: الولادة من الله أهَّلتنا أن نخاطب الله الآب كأبٍ لنا، ونحظى لديه بدالة البنين، إذ أخذنا روح التبنِّي، عِوضاً عن روح العبودية. فصرنا - كما وُهِبنا شركة آلامه المحيِّية - هكذا أيضاً وُهِبنا شركة مجده أيضاً كبنين لله، لأنَّ الروح نفسه يشهد فينا إنَّنا أولاد الله، كقول بولس الرسول: «لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف، بل أخذتم روح التبنِّي الذي به نصرخ: يا أبا الآب ... إن كنَّا نتألم معه لكي نتمجد معه أيضاً» (رو17،15:8).

6- أعطتنا الولادة من الله بصيرة لكي لا نسقط في الخطية: فالروح القدس الذي نلناه يعطينا نعمة لكي نقاوم حتى الدم ضدَّ الخطية، وإن سقطنا فهو شفيع لنا، ومُعضِّد حتى نقوم ونغلب بمعونته. وفي هذا يقول الرسول: «نعلم أنَّ ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحقَّ. ونحن في الحقِّ» (1يو20:5)، وأيضاً يقول الرسول: «نعلم أن كلَّ من وُلِد من الله لا يخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه، والشرير لا يمسَّه» (1يو18:5)، وأخيراً يُقوِّي الرسول عزائمنا بقوله: «وإن أخطأ أحدٌ فلنا شفيع عند الآب، يسوع المسيح البارُّ. وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كلِّ العالم أيضاً» (1يو2:2).

_______________________________________

(1) الرسالة الأولى للقديس يوحنا الرسول – شرح وتفسير، الأب متى المسكين، ص 118.

(2) المرجع السابق، ص 76.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis