بحث كتابي آبائي: |
|
|
في أمثال المسيح عن الملكوت في (مت 13) يمكننا التعرُّف على هاتين المرحلتين للملكوت:
الأولى: مُلك الله الحالي في البدايات الخفية والمتواضعة في قلوب المؤمنين البسطاء المتضعين مُشاراً إليه بالأمثلة الخاصة بالزرع والبذار، والشبكة المطروحة في البحر.
الثانية: مرحلة الملكوت المقبلة في الدينونة مُشاراً إليها بفصل الحنطة من الزوان، والسمك الجيد من الرديء بعد صيده.
أما في أمثلة الزارع (مت 13: 3-8، 18-23) والقمح والزوان وحبة الخردل؛ فلا يمكننا أن نتجاهل عنصر النمو. فهذه الأمثال تُصوِّر تضاعُف ووفرة الحصاد في المستقبل بالرغم من جهود الأعداء القوية لإتلافه. وفي مَثَل آخر ذكره السيِّد ظهر ملكوت مجد الله الآتي في المستقبل في صورة وليمة: «إنسانٌ صنع عشاءً عظيماً ودعا كثيرين، وأرسل عبده... ليقول للمدعوين: تعالوا لأن كل شيء قد أُعدَّ. فابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون... حينئذ غضب رب البيت وقال لعبده: ... أَدخِل إلى هنا المساكين والجُدع والعُرج والعُمي... وأَلزمهم بالدخول، حتى يمتلئ بيتي» (لو 14: 16-23).
هذه الوليمة تُمثِّل الشركة المباركة والكاملة مع الله في ملكوته، والشركة بين جماعة المفديين بعضهم مع بعض. إنها وليمة الملكوت: «أنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي» (لو 22: 30،29). والأكل والشُّرب يُمثِّلان سر الإفخارستيا الذي هو واسطة الشركة بين المفديين بالله، وبين المفديين بعضهم بالبعض (أي الكنيسة).
إن كرازة المسيح تُعلن بداية الأزمنة الأخيرة، وحتى معجزاته وكل أعماله الفدائية تدلُّ على انهيار قوة الشيطان: «رأيتُ الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء» (لو 10: 18). كما أنها تُعلن فتح باب الملكوت لكل مَن يؤمن من البشر منذ أن صار المسيح عمانوئيل: ”الله معنا“، ولن يكون لملكوته نهاية. ومن أوضح الدلالات على اهتمام الرب يسوع بسيادة مُلكه على قلوبنا هو حثُّه لنا أن نطلب بكل حرارة قلوبنا: ”ليأتِ ملكوتك“.
الملكوت هو حقيقة حاضرة الآن:
ومن ذلك يتضح أن ملكوت الله ليس مؤجَّلاً إلى الدهر الآتي، وذلك حسب قول الرب: «من أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت الله يُغصب، والغاصبون يختطفونه» (مت 11: 12). والدليل على أنه حاضرٌ الآن هو قول الرب أيضاً: «لا يأتي ملكوت الله بمراقبة... لأن ها ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21). ولا يمكن فهم معنى أنه في ”داخلكم“ إلاَّ على أساس قول المسيح: «مَن يأكلني فهو يحيا بي» (يو 6: 57)، وأيضاً: «اثبتوا فيَّ وأنا فيكم» (يو 15: 4)، وقوله في صلاتـه الختامية للآب: «أنـا فيهم وأنت فيَّ» (يو 17: 23).
وهذا هو الأساس الذي شرحه القديس بولس الرسول: «ليحلَّ المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف 3: 17). فأساس حلول المسيح فينا بسرِّ الإفخارستيا هو بالإيمان.
فإذا اختبرنا مضمون هذه الآيات وأمثالها لحصلنا على نتيجة واحدة هي أن ملكوت الله في داخلنا، وهو: مُلْك المسيح على قلوبنا وكياننا كله؛ وذلك رغم أن هذا الملكوت لا يزال ينمو سراً وبقوة، ويزداد شمولاً واتساعاً وسيطرةً على قلب كل مَن صار هيكلاً لله، وذلك حسب مفهوم أمثلة: نمو البذار، وحبَّة الخردل، والخميرة. ومن أهم تعبيرات مخلِّصنا قوله عن الملكوت إنه: «قد أتى بقوة» (مر 9: 1). وهكذا شعر المؤمنون أن الله بدأ يملك في ابنه على قلوبهم بقوة وبشعور أكمل مما كان في العهد القديم، كما أن ملكوت الله بكماله قد افتُتح ودُشِّن بمجيء ابن الله وتجسُّده، وسيُستعلن بكل ملئه ومجده عياناً في الدهر الآتي.
الملكوت والصليب:
لقد أعلن الرب يسوع مراراً أن موته وقيامته ضروريان لإكمال تدبير خدمته وعصره الماسيَّاني: «لي صبغة أصطبغها، وكيف أنحصر حتى تُكمَل؟» (لو 12: 50)
فالصليب مرتبط باستعلان ملكوت المسيح، كما أن موت الرب وقيامته هما بدء مجيء ملكوت الله ”بقوة“. والترجمة القبطية للمزمور (96: 10): «قولوا بين الأُمم إن الرب قد مَلَكَ على خشبة»، توضِّح أن صَلْب الرب جعله يملك على قلوب الذين فداهم بحبِّه الذي دفعه إلى سفك دمه على الصليب.
شركة الملكوت:
كما أوضحنا، فإن الوليمة الماسيَّانية هي: ”الإفخارستيا“. كما أن مَثَل حبة الخردل الذي يُشبِّه الأُمم بطيور السماء التي تأتي وتُعشش في أغصان الشجرة العظيمة التي تنبُت من حبة الخردل، توضِّح أن الملكوت في المسيح قد صار للجميع وليس لليهود فقط.
كما أنه واضحٌ في تعاليم الرب، أن قبول ملكوت الله لن يتأتَّى بالحكمة البشرية بل بروح البساطة وبقلب متضع كالأطفال: «الحق أقول لكم: مَن لا يقبل ملكوت الله مثل طفل (حسب اليوناني) فلن يدخله» (مر 10: 15)، «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت 18: 3). كما أن الملكوت قد أُعطِيَ فعلاً كهبة لقطيع الرب الصغير من تلاميذه الحقيقيين: «لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سُرَّ أن يُعطيكم الملكوت» (لو 12: 32).
هذه الآيات توضِّح أن الملكوت الذي أتى إلى الإنسان في شخص المسيح ينبغي أن يقبله الفرد لنفسه، بصفة خاصة، ببساطة الطفل كهبة من النعمة الإلهية لكي يملك المسيح على قلبه. وهذا القبول معناه أن يُخضِعَ الإنسان نفسه باتضاع وإخلاص لسيادة الله على حياته، وذلك بالطاعة لكلمته، أي المسيح ابن الله. كما أن شركة المؤمنين في ملكوت الله تُعبِّر عنها عضويتهم في جسد المسيح (أف 1: 23،22)، والذي يضمُّ جميع المختارين، كأعضاءٍ سُرَّ الله أن يُشاركهم في مجد ابنه: «قد أعطيتُهم المجد الذي أعطيتني» (يو 17: 22) في الدهرَيْن الحاضر والعتيد.
أما قول الرب: «لم يَقُم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه» (مت 11: 11)؛ فحتى إن كان الرب هنا قد جعل يوحنا أقل مجداً في ملكوته الذي بدأ في قلوب مؤمنيه منذ الآن – لأن يوحنا لم يتمتع بكمال الخلاص الذي أتمَّه المسيح – إلاَّ أنه لم يقصد إطلاقاً التقليل من كرامة المعمدان ومجده في ملكوت الرب الأبدي.
نير الملكوت:
في تعاليم الربِّيين من اليهود نجد التعبير القائل: ”أنْ يحمل الإنسان على عاتقه نير ملكوت الله“، وهو ما أشار إليه المسيح باعتبار أنَّ ”نير ملكوت الله“ هو نير المسيح شخصياً الذي قال: «احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب... لأن نيري هيِّن، وحِملي خفيف» (مت 11: 30،29).
أفضلية ملكوت الله في حياتنا:
«اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه» (مت 6: 33)، هذه الآية التي مهَّد بها الرب أذهاننا لكي يُسلِّمنا الطلبة الهامة: ”ليأتِ ملكوتك“؛ إنما تُشير إلى وجوب تفضيل طلب الإنسان لملكوت الله والجري وراءه كأمر له الأولوية على أيِّ أمر آخر. كما أن مَثَلَي الكنز المُخفى واللؤلؤة الكثيرة الثمن، يُوجِّهان المؤمن إلى أن يُفرِّط في كل شيء يملكه في سبيل أن يحصل على الملكوت، إذ يقول الرب: «يُشبه ملكوت السموات كنزاً مُخفى في حقل وجده إنسان فأخفاه، ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل. أيضاً يُشبه ملكوت السموات إنساناً تاجراً يطلب لآلئ حسنة، فلما وجـد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان كان له واشتراها» (مت 13: 44-46).
بل إن الرب أوصى المؤمن أن يُفضِّل ملكوت الله على راحته الجسدية حتى لو لَزِم الأمر أن يقطع بعض أعضائه، فيقول: «إن أعثرتك يدك فاقطعها، خيرٌ لك أن تدخل الحياة أقطع من أن تكون لك يدان وتمضي إلى جهنم... وإن أعثرتك رجلك... وإن أعثرتك عينك فاقلعها، خيرٌ لك أن تدخل ملكوت الله أعور...» (مت 9: 43-47)، حيث نُلاحظ أن كلمة ”الحياة“ هي المرادف لكلمة ”ملكوت الله“؛ بل إن الرب علَّمنا أن نُفضِّل ملكوته حتى على واجب دفن الأب المُلقى على فراش الموت، إذ أنه: «قال لآخر: اتبعني. فقال له: يا سيد، ائذن لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي. فقال له يسوع: دَع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب ونادِ بملكوت الله» (لو 9: 60،59). كما أن الذين يطلبون الملكوت باشتياق القلب غير المنقسم هم الذين يصلحون له: «وقال آخر أيضاً: أتبعك، يا سيد، ولكن أئذن لي أولاً أن أُودِّع الذين في بيتي. فقال له يسوع: ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله» (لو 9: 62،61).
وكان موضوع كرازة الرسل هو التبشير باقتراب ملكوت الله وتملُّك الرب على قلوب الناس: «اذهبوا، ها أنا أرسلكم... وقولوا لهم: قد اقترب منكم ملكوت الله» (لو 10: 9،3)، «كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا، ومن ذلك الوقت يُبشَّر بملكوت الله، وكل واحد يغتصب نفسه إليه» (لو 16: 16)، لأن «ملكوت السموات يُغصَب، والغاصبون يختطفونه» (مت 11: 12).
وكان الملكوت هو موضوع كرازة بولس الرسول: «أنتم جميعاً الذين مررتُ بينكم كارزاً بملكوت الله» (أع 20: 25).
ويوجد شرطان لدخول الملكوت:
الأول: الولادة الروحية من فوق: «إن كان أحد لا يولد من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله» (يو 3: 3).
والثاني: تحمُّل الضيقات: «نحن نفتخر بكم في كنائس الله من أجل صبركم وإيمانكم في جميع اضطهاداتكم، والضيقات التي تحتملونها بيِّنة على قضاء الله العادل أنكم تـؤهَّلون لملكوت الله الذي لأجله تتألمون أيضاً» (2تس: 1: 5،4)، لأنـه «بضيقات كثيرة ينبغي أن نــدخل ملكوت الله» (أع 14: 22)، «اشترِك أنت في احتمال المشقَّات كجندي صالح ليسوع المسيح... إن كنا نصبر، فسنملك أيضاً معه» (2تي 2: 12،3).
ثم يُكافئنا الرب بقوله: «أنتم الذين ثبتُوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي» (لو 22: 28-30). «شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين» (2كو 2: 14). نعم، يا رب، لأنك: «جعلتنا لإلهنا ملوكاً وكهنة، فسنملك على الأرض» (رؤ 5: 10).
وقد فَهِمَ اليهود أن الرب يسوع ملكٌ (أرضي): «وابتدأوا يشتكون عليه قائلين: إننا وجدنا هذا يُفسد الأُمة، ويمنع أن تُعطَى جزيةٌ لقيصر، قائلاً: إنه هو مسيحٌ ملكٌ» (لو 23: 2).
كما فَهِمَ ذلك أيضاً يهود تسالونيكي في اليونان من كلام بولس الرسول، فاشتكوه هو ورُسله قائلين: «إن هؤلاء الذين فتنوا المسكونة... يعملون ضد أحكام قيصر قائلين: إنه يوجد ملكٌ آخر يسوع» (أع 17: 7،6).
ولكن الوحي يؤيِّد مُلْك الرب الحقيقي هكذا: «المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب... الذي له الكرامة والقدرة الأبدية» (1تي 6: 16،15)، «ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية، فيدخل ملك المجد. مَن هو ملك المجد؟... رب القوات هذا هو ملك المجد» (مز 24: 7-10)، «عادلةٌ وحقٌّ هي طُرُقك يا ملك القديسين... لأنك وحدك قدوسٌ، لأن جميع الأُمم سيأتون ويسجدون أمامك...» (رؤ 15: 4،3).
(يتبع)