أواخر الأيام
وحياة الدهر الآتي
|
|
|
الصعود والمجيء الثاني للمسيح:
منذ صعود المسيح إلى السماء في اليوم الأربعين لقيامته، أصبحت أعين المؤمنين الروحية تتطلَّع إلى السماء في انتظار مجيئه مرة ثانية من السماء، كما أنبأ بهذا الملاكان لتلاميذه الواقفين ينظرون صعوده إلى السماء: «إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء» (أع 1: 11).
+ وهكذا سيكون مجيئه الثاني، مثلما كان في الصعود: فكما «أخذته سحابة عن أعينهم» (أع 1: 9)؛ هكذا سيأتي ثانية «على سحاب السماء» (مت 24: 30؛ رؤ 1: 7 «مع السحاب»). والسحاب يُشير في وقت واحد إلى الهدوء والوداعة للقداسة الإلهية، وإلى الجلال والمجد الإلهيَّيْن، وبطريقة سيراها الجميع: «هوذا يأتي مع السحاب، وستنظره كل عين» (رؤ 1: 7).
”إلى أن يجيء“:
لقد أشارت الأناجيل إلى انتظار اكتمال ملكوت الله، الملكوت الذي بدأه وأعلنه الرب يسوع وهو على الأرض. وفي العشاء الذي أقامه المسيح لتلاميذه عشية يوم صلبه، قال لهم: «إني لا أشرب من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله» (مر 14: 25).
+ ويكتب القديس بولس الرسول ما تسلَّمه من الرسل عن العشاء الربَّاني، فيوصي مسيحيِّي كورنثوس: «كلما أكلتم هذا الخبز، وشربتم هذه الكأس، تُخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (1كو 11: 26).
وقد تحوَّل هذا النص في القدَّاس الإلهي إلى وعد على فم الرب يسوع: ”لأنَّ في كل مرة تأكلون من هذا الخبز، وتشربون من هذه الكأس، تُبشِّرون بموتي، وتعترفون بقيامتي، وتذكرونني إلى أن أجيء“.
وكأن المؤمنين بتناولهم من جسد الرب ودمه، تشتعل فيهم نار الاشتياق والرجاء والانتظار للمجيء الثاني للمسيح.
+ والمسيح في جلسته الأخيرة مع التلاميذ، قال لهم صراحة: «... أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكاناً، وإنْ مضيتُ وأعدَدْتُ لكم مكاناً، آتي أيضاً وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً» (يو 14: 3).
+ كما سبق وأنبأ عن ذلك مراراً: «فإنَّ ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته... الحق أقول لكم: إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يَرَوا ابن الإنسان آتياً في ملكوته» (مت 16: 28،27).
+ وفي إنجيل متى - أصحاح 24، يتحدَّث المسيح عن العلامات التي ستسبق مجيئه الثاني، ثم يقول في عدد 27: «لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق إلى المغارب، هكذا يكون مجيء ابن الإنسان»؛ «... وتُبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير» (عدد 30).
+ وفي إنجيل مرقس يتكلَّم عن مجيئه هكذا: «بمجد أبيه مع الملائكة القديسين» (8: 38).
+ وفي إنجيل لوقا يعرض ضمن تعليمه: «لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان» (لو 12: 40).
+ وفي الرسالة الأولى للقديس يوحنا: «اثبتوا فيه حتى إذا أُظْهِرَ يكون لنا ثقة، ولا نخجل منه في مجيئه» (2: 28).
+ وفي رسالة يهوذا: «وتنبَّأ... أخنوخ السابع من آدم قائلاً: ”هوذا قد جاء الرب في ربوات قدِّيسيه“» (يهوذا 14).
+ وقد أشار إلى هذا المجيء الثاني، القديس بولس الرسول: «المسيح في مجيئه» (1كو 15: 23؛ 1تس 2: 19)؛ وبطرس الرسول: «استعلان يسوع المسيح» (1بط 2: 13)، و«مجيئه» (2بط 1: 16).
+ هذا المجيء الثاني أو الظهور سيحمل معه ”الاستعلان“ النهائي غير المخفي، ضد كل ما يعيق رؤيتنا للمسيح فيُزيله (2تس 1: 7؛ 1كو 1: 7؛ 1بط 1: 7).
منظر المجيء الثاني للمسيح،
بالمقارنة مع مجيئه الأول:
+ ويتـكلَّم بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين عن الظهور الثاني للمسيح مقارنةً مع ظهوره الأول: «هكذا المسيح أيضاً، بعدما قُدِّم مرةً لكي يحمل خطايا كثيرين؛ سيظهر ثانيةً بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه» (9: 28).
+ سوف يكون مُفاجئاً، وواضحاً لكل عين: «كما أن البرق يخرج من المشارق إلى المغارب؛ هكذا يكون مجيء ابن الإنسان» (مت 24: 27).
+ وأولاً «تظهر علامة ابن الإنسان في السماء» (مت 24: 30)، «وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض».
وبحسب التفسير الآبائي، أجْمَعَ آباء الكنيسة على أن علامة ابن الإنسان ستكون هي صليب رب المجد.
+ وسيأتي الرب مُحاطاً بصفوف من الملائكة، ويأتي في مجده: «بقوة ومجد كثير» (مت 24: 30)، «مع الملائكة القدِّيسين» (مر 8: 38).
+ «ويجلس على كـرسي مجده» (مـت 25: 30).
+ وهكذا يختلف مظهر المجيء الثاني للمسيح عن مجيئه الأول الذي فيه: «أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد»، «وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (فيليبِّي 2: 8،7).
+ وسيأتي هذه المرة، «ليدين المسكونة بالعدل» (أع 17: 31)، لكي «يجازي كل واحد حسب عمله» (مت 16: 27).
+ وفي هذا يختلف الغرض من المجيء الثاني للمسيح عن الغرض من مجيئه الأول اختلافاً جوهرياً، حينما أتى «(لا) ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم» (يو 3: 17). لقد جاء «ليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت 20: 28).
- 2 -
علامات اقتراب موعد المجيء الثاني
+ فقد قال الرب لتلاميذه: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة، فلا يعلم بهما أحد، ولا ملائكة السموات، إلاَّ أبي وحده» (مت 24: 36).
+ وفي يوم صعود الرب يسوع إلى السماء حينما سأله التلاميذ عمَّا كانوا يظنون أنه هو يوم الرب الذي تحدَّث عنه المسيح: «يا ربُّ، هل في هذا الوقت تردُّ المُلْكَ إلى إسرائيل؟»، قال لهم صراحة: «ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه». ثم وجَّه أنظارهم في الحال إلى ملكوت الله الذي أتى لكي يبدأه ويؤسِّسه، والذي هو ”حلول الروح القدس على البشرية الجديدة“، لذلك أردف قوله بهذا الكلام: «لكنكم ستنالون قوةً متى حلَّ الروح القدس عليكم» (أع 1: 8،7). وهكذا أظهر لهم أن ملكوت الله ليس هو ردّ المُلْك إلى إسرائيل، بل هو حلول الروح القدس، الذي به سيُستَعلَن الملكوت الجديد الذي يملك عليه الله بالروح القدس.
لماذا أخفى الله موعد مجيئه؟
1. إن عدم معرفة الزمن، كان من شأنه أن يجعل المسيحيين في سهرٍ روحي واستعدادٍ دائم: «انظروا! اسهروا وصلُّوا، لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت... وما أقوله لكم، أقوله للجميع: اسهروا» (مر 13: 33؛37).
2. كما أن عدم معرفة وقت مجيء الرب سوف يُنبِّه المسيحيين أن يُميِّزوا الأحداث إن كانت هي علامات اقتراب موعد مجيئه. وهكذا علَّم الرب: «فمن شجرة التين تعلَّموا المَثَل: متى صار غُصنُها رَخْصاً (أي غضّاً أو طريّاً) وأخرجت أوراقها، تعلمون أن الصيف قريبٌ. هكذا أنتم أيضاً، متى رأيتم هذا كله فاعلموا أنه قريبٌ على الأبواب» (مت 24: 33،32).
بعض العلامات كما وردت في الإنجيل:
1. انتشار البشارة بالإنجيل في العالم أجمع: «ويُكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة، شهادةً لجميع الأمم، ثم يـأتي المنتهى» (مت 24: 14). لأن هذه الشهادة لكل الأُمم ستكون مبرِّراً للدينونة لكل مَن سمع وآمن أو لم يؤمن.
2. ومن جهة أخرى، فستكون هناك مظاهر استثنائية لقُوَى الشر في العالم: «ولكثرة الإثم، تبرد محبة الكثيرين» (مت 24: 12). ويكتب القديس بولس عن هذه المظاهر بأكثر تفصيل: «في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنة صعبة، لأن الناس يكونون مُحبين لأنفسهم، مُحبين للمال، مُتعظِّمين، مُستكبرين، مُجدِّفين، غير طائعين لوالديهم، غير شاكرين، دنسين، بلا حُنوٍّ، بلا رِضَى، ثالبين، عديمي النزاهة، شرسين، غير مُحبِّين للصلاح، خائنين، مُقتحِمين، متصلِّفين، مُحبِّين لِلَّذَّات دون محبة لله، لهم صورة التقوى، ولكنهم مُنكرون قُوَّتها» (2تي 3: 1-5). وعمومـاً، يضعف الإيمان جـداً: «متى جاء ابـن الإنسان، ألعلَّه يجد الإيمان على الأرض» (لو 18: 8).
3. أما العلامة الثالثة، فهي أن الشيطان سوف يَشِنُّ حرباً شعواء ضد ملكوت المسيح، بآلاته، وسيكون الأداة الرئيسية له ما يُسمَّى ”ضد المسيح“. ويُستخدم هذا الاسم ”ضد المسيح“ في الكتاب المقدس بمعنيين: فبالمعنى العام المتسع هو يُشير إلى كل عدوٍّ لشخص المسيح، وهذا ما يُسميه القديس يوحنا الرسول في رسالته الثانية ”ضد المسيح“؛ وهذا المعنى يجعل هناك «أضداد كثيرون للمسيح» كما ورد في الرسالتين الأولى والثانية للقديس يوحنا (2: 18). ولكن بالمعنى الخاص فهناك ”الضد للمسيح“ الذي يُشير إلى شخص محدَّد، سيكون مضاداً للمسيح، وسيظهر قبل نهاية العالم.
ويتحدث القديس بولس الرسول عن صفات وأعمال هذا ”الضد للمسيح“ بالمعنى الخاص الذي يُسمِّيه ”إنسان الخطية“؛ هكذا «لا يخدعنَّكم أحد على طريقةٍ ما، لأنه لا يأتي (يوم المسيح) إن لم يأتِ الارتداد أولاً، ويُستعلَن إنسان الخطية، ابن الهلاك، المُقاوِم والمرتفع على كل ما يُدعَى إلهاً أو معبوداً، حتى إنه يجلس في هيكل الله كإله، مُظهِراً نفسه أنه إله... وحينئذ سيُستعلَن الأُثيم، الذي الرب يبيده بنفخة فمه، ويُبطله بظهور مجيئه» (2تس 2: 3-8).
+ هذا الأثيم سوف يخدع المؤمنين بكل قوة وآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم. ويُسمِّي القديس بولس هؤلاء المخدوعين باسم ”الهالكين“، لماذا؟ لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا. لذلك يقول القديس بولس إنَّ: «الله سيُرسل إليهم عمل الضلال حتى يُصدِّقوا الكذب، لكي يُدان جميع الذين لم يُصدِّقوا الحق بل سُرُّوا بالإثم» (2تس 2: 11).
+ وتظهر صورة هذا المُقاوِم لله في نبوَّة دانيال (أصحاح 11،7)؛ وكذلك في العهد الجديد في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي (أصحاحات من 11-13). وسيظل هذا ”الضد للمسيح“ يعمل حتى يوم الدينونة حين يُبطله المسيح بنفخة فمه (كما ورد في نص الآية السابقة - 2تس 2: 8).
4. وهناك في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي إشارة عن ظهور ”شاهدَيْن“ أثناء نشاط ”الضد للمسيح“، وسوف يتنبَّآن بالحق ويعملان معجزات، وحينما ينتهيان من شهادتهما سوف يُقتلان، ثم ”بعد ثلاثة أيام ونصف“ سيقومان ويصعدان إلى السماء (رؤ 11: 3-12). وهذان الشاهدان - بحسب تفسير آباء الكنيسة - هما: أخنوخ وإيليا اللذان لم يموتا، بل قيل عنهما في العهد القديم أنهما نُقلا إلى السماء أحياءً؛ لكنهما سينزلان إلى الأرض لكي يذوقا الموت أثناء اضطهاد ”الضد للمسيح“ للمؤمنين.
5. أحداث غير طبيعية واضطرابات في الطبيعة وأحداث التاريخ، كما هو مذكور في التنبُّؤات الواردة في إنجيل مرقس 13 (ومتى 24؛ ولوقا 21) اعتبرها المُفسِّرون القدامى أنها تشير إلى أحداث نهاية الأيام. ومن بين هذه الأحداث: مجاعات وزلازل، وهي ”مبتدأ الأوجاع“ (مت 24: 8،7)، ثم كسوف الشمس، والقمر لا يُعطي ضوءه، وتساقُط النجوم من السماء، وتزعزُع السموات (مت 24: 27-29)، وتغيُّرات فلكية وطبيعية، واضطرابات.
كما ستحدث ثورات، وحروب، ومجاعات، وأوبئة؛ وكل هذه هي علامات النهاية: «تقوم أُمة على أُمة، ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن».
وتقول النبوَّة إنَّ كل هذه مجرد ”مبتدأ الأوجاع“. كما «تسمعون بحروب وأخبار حروب. انظروا! لا ترتاعوا، لأنه لابد أن تكون هذه كلها، ولكن ليس المنتهى بعد».
+ ولكن بعد كل هذا: «حينئذ يُسلِّمونكم إلى ضيق، ويقتلونكم، وتكونون مُبغَضين من جميع الأُمم لأجل اسمي... ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص».
فليُعطِنا الرب القوة لكي نصبر ونحتمل من أجل اسمه، ليكون لنا الخلاص في النهاية. آمين.
(يتبع)
[كان ينبغي لذاك (الرب يسوع) الذي أَهبط نفسه إلى الإخلاء الإرادي، أن يتصدَّى عنَّا، ويتجرَّد من أجلنا، للحرب مع الشيطان الذي كان غالباً لنا في القديم؛ حتى يُظهِر بذلك أننا نلنا نصيباً من امتلائه الخاص، ويكشف أننا نحن الذين مرضنا في آدم، قد نلنا عافية روحية في المسيح، لأن فيه بطلت عوامل السقم، سواء الجسدية منها أو النفسية، تلك التي أصابت الطبيعة البشرية بالإنسان الأول (آدم).
فكما أننا بإطاعته (أي بإطاعة المسيح) قد جُعلنا نحن الكثيرين أبراراً، رغم الحُكْم الذي أصابنا بسبب عصيان ذاك (آدم)؛ هكذا أيضاً تماماً بواسطة الصحة التي أدركناها في المسيح - أعني طبعاً الصحة الروحية - قد تخلَّصنا من الضرر الناتج من الضعفات الأولى.
فنحن، إذن، الذين غُلبنا في آدم، قد انتصرنا في المسيح. فقد انتصب للقتال من أجلنا كإنسان، وغلب كإله، وتجرَّب، وكواحد منَّا وثب عليه الشيطان متخيِّلاً أن ضعف الجسد حافزٌ له لكي يُحاربه مجرِّباً إيـَّاه. غير أنه انصرف مخزيّاً بعد أن اقتنت طبيعة الإنسان في المسيح ناموساً جديداً عِوَض ناموس الخطية الذي كان قبلاً هائجاً في الجسد، ثم صار مُماتاً فيه، حيث إنه بَطُلَ في المسيح].
***************************************** [القديس كيرلس الكبير - تنيَّح عام 444م - (الإيمان القويم 36)]