دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

الدخول إلى أورشليم
في موكب النصرة(*)
(مت 21: 1-17)


1:21-5 "وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ قَائِلاً لَهُمَا: اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَاناً مَرْبُوطَةً وَجَحْشاً مَعَهَا، فَحُلاَّهُمَا وَأْتِيَانِي بِهِمَا. وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئاً، فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا. فَكَانَ هذَا كُلُّهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ القَائِلِ: قُولُوا لاِبْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعاً، رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ".

نحن هنا يوم الأحد بعد أن بات المسيح الأمس في بيت عنيا، وحضر الوليمة التي تمَّ فيها دهنه بناردين مريم، رمزاً لتكفينه قبل الأوان وتذكاراً لمحبة هذه المرأة. وفي الصباح أرسل المسيح تلميذيه إلى القرية الصغيرة بيت فاجي. وكلمة "فاجي" تعني التين وأُخذت منها الكلمة الإنجليزية Fig. كذلك "بيت عنيا" تعني مكان البلح. وأحضرا له كما قال لهما الأتان وجحشها وراءها. أمَّا لماذا ضرورة الركوب، فجبل الزيتون الذي سيصعدون عليه من شرق إلى غرب يرتفع شرقاً حتى يبلغ ارتفاعه 2600 قدم فوق البحر، فصعوده صعب. أمَّا الهيكل فعلى هضبة يقل ارتفاعها 250 قدماً عن جبل الزيتون. أمَّا بين منحدر جبل الزيتون الغربي وبين الهيكل فيوجد وادٍ يُسمَّى "قدرون". والقديس مرقس يدقِّق في تعيين موضع الأتان والجحش إذ كانا في مدخل القرية مباشرة: "اذهبا إلى القرية التي أمامكما"، وكأن المسيح يشاور بأصبعه والقرية ظاهرة لأنها قريبة جداً من بيت عنيا، "فللوقت وأنتما داخلان إليها تجدان جحشاً مربوطاً لم يجلس عليه أحد من الناس، فحلاَّه وأتيا به" (مر 2:11). وهنا نتعجَّب هل سبق المسيح وعرف المكان وأصحاب الجحش؟ أم كان يرى بروحه ويصف ما يراه لأن ما قاله وجده التلميذان وأكملا المهمة تماماً. ثم يمتاز القديس مرقس بالقول إن الجحش لم يركبه أحد من الناس، وهذا أمر محال، إذ يتحتَّم تمرين الجحش على أحد يركبه في السابق وإلاَّ استحال ركوبه، فما هذا الأمر؟ أجحش هو أم شاروبيم؟ أم سبق وأعدَّه زكريا النبي (منذ 520 سنة ق. م) وهو نبي أُورشليمي؟ علماً بأن كلاًّ من القديس مرقس والقديس لوقا يذكران الجحش فقط إلاَّ أن القديس متى هو الذي انفرد بوجود الجحش مع الأتان.

وذهب التلميذان بالفعل وما قاله لهما تمَّ بالحرف الواحد. ومرَّة أخرى نحن أمام الحقيقة الإلهية: "هو أَمَرَ فكان"، وبعد ذلك يكون الفحص والسؤال خارجاً عن الموضوع!! ولكن لم يتركنا المسيح حيارى في سر هذا الجحش الغريب الأطوار، لأن المسيح أضاف على الأمر قوله: "وإن قال لكما أحد شيئاً فقولا الرب محتاج إليهما" فما حاجتنا بعد إلى سؤال: كيف تمَّ توفير الجحش، إذ كان مُعدًّا للرب، لذلك لم يركبه أحد من الناس. على أن الرب لا يحتاج إلى شيء فهي مجرَّد تغطية حتى لا يفهم الغريب ما وراء الكلمات. فهنا الرب تكلَّم وما تكلَّم به صار! ولكي تنتفي كل مماحكة لم يقل المسيح: المعلِّم محتاج إليهما، مع أن هذه لغته، ولكن هنا قال: "الرب" بالصيغة المطلقة، رب الكل. أو بأسلوب الواقع الحي: الملك محتاج إليه. فالجو كله مشحون بسرِّية الرمز والنبوَّة.

ثم يأتي كلام القديس متى بخصوص تتميم نبوَّة زكريا. وفي الحقيقة تأتي النبوَّة مع تغيير في بعض الكلمات عن الأصل السبعيني، ويبدو أنه أخذها من الأصل العبري:

+ "قولوا لابنة صهيون: هوذا ملكك يأتيكِ وديعاً، راكباً على أتان وجحش ابن أتان." (مت 21: 5)

+ "ابتهجي جداً يا ابنة صهيون. اهتفي يا بنت أُورشليم. هوذا ملككِ يأتي إليكِ، هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان." (زك 9:9 حسب الأصل العبري)

هنا "ابنة صهيون" تشير إلى إسرائيل الجديدة المزمعة أن تكون، و"ملككِ" تفيد الملك الخاص بها ومن أبنائها - فهو ليس ملكاً أجنبياً - لذا يكون دخوله للبهجة جداً. وإنه وديع ومنصور وعادل، و"الحمار" حيوان السلام والفلاَّح وليس للحرب والقتال. أمَّا قوله منصوراً فهو قادم ليأخذ مملكته كمنتصر فوق أعدائه.

6:21-9 "فَذَهَبَ التِّلْمِيذَانِ وَفَعَلاَ كَمَا أَمَرَهُمَا يَسُوعُ، وَأَتَيَا بِالأَتَانِ وَالْجَحْشِ، وَوَضَعَا عَلَيْهِمَا ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِمَا. وَالْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَاناً مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِينَ: أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي"!

كما قلنا في المقدِّمة كانت إرسالية التلميذين إلى بيت فاجي فيها أمور فائقة عن الفكر الطبيعي، فمجيء الجحش لم يكن بالوضع العادي ولكن بالوضع الإلهي: "الرب محتاج إليه"، بمعنى أن الأمر صادر من فوق؛ أمَّا الصيغة النبويَّة التي أتت بالمثنَّى أي أنه جحش وأنه ابن أتان فهي إمعانٌ في أنه حمار وليس حصاناً أو بغلاً، لأن كلمة جحش هي "حيوان صغير للركوب"، وهي تصح للحصان والبغل الصغير. أمَّا ذِكْر ابن أتان فتأكيداً لتواضعه أنه حمار وهذا بيت القصيد. فهو ملك وديع آتٍ للسلام وليس بكبرياء الغازين الذين يأتون على حصان والسيف في يدهم. وأمَّا فرش الثياب على الطريق فهو من مظاهر التكريم للملك القادم، وتفيد منتهى الخضوع لأن الذي يضع ملابسه تحت أقدام الملك يعني الطاعة والخضوع مع الفرح والتحية الفائقة.

وقد قسَّم التابعون أنفسهم قسمين: قسم يسبق وقسم يتبع، على هيئة خورسين، الواحد يهتف والثاني يرد. وهو نظام الخوارس بحري وقبلي المتَّبع في الكنيسة، وكانت هذه طريقة التسبيح بالمزامير:

الخورس المتقدِّم: أُوصنَّا لابن داود.

الخورس التابع: مبارك الآتي باسم الرب.

الخورس المتقدِّم: أُوصنَّا في الأعالي.

أمَّا المعنى: فدخول الملك "ابن داود" هو للخلاص (أُوصنَّا) الآن، الخلاص من الأعالي بذراع الرب. والمرد "مبارك الآتي باسم الرب"، فهو هتاف الصلاة والترحيب بمقْدِم ملك الخلاص والسلام. وهو مأخوذ من مزمور 118: 19-28:

+ "افتحوا لي أبواب البر أدخل فيها وأحمد الرب، هذا الباب للرب، الصدِّيقون يدخلون فيه... الحجر الذي رفضه البنَّاؤون قد صار رأس الزاوية... هذا هو اليوم الذي صنعه الرب. نبتهج ونفرح فيه، آه يا رب خلِّص، (أُوصنَّا)، آه يا رب أنقذ (أُوصنَّا)، مبارك الآتي باسم الرب... أوثقوا الذبيحة برُبط إلى قرون المذبح، إلهي أنت فأحمدك." (مز 118: 19-28)

وهذا من مزامير التهليل Hallel psalms، وهي مجموعة المزامير من مزمور 113 إلى مزمور 118، ويُسبَّح بها في عيد الفصح. وقد سبَّح بها المسيح مع تلاميذه بعد عشاء الخميس. ومعروف أنها من المزامير المسيَّانية مع المزامير (2و22و69و89و110)؛ أمَّا المزمور (118) فهو أكثرهم إشارات للمسيَّا.

أمَّا "هوشعنا" أي "خلِّصنا" فهي كلمة مسيَّانية شديدة الوقع على نفس اليهود الذين يترجون بها مجيء المسيَّا. وما عيد المظال إلاَّ نوع من الأعياد التي فيها يترجون مجيء المخلِّص كما من مصر ويقطعون فيه سعوف النخل ويسمُّونها شعانين أي للخلاص، أو التعبير عن هوشعنا التي يهتفون بها(1)، الأمر الذي أخذته الكنيسة باعتبار أن عيد أحد الخوص هو عيد الشعانين بمثابة عيد المظال - عيد السُّكنى - إذ فيه يتحقَّق مجيء المخلِّص إذ أتى وسكن فينا. وهكذا، وبنفس الروح النبويَّة، قطع التلاميذ والشعب المحيط بالمسيح سعوف النخل وأغصان الزيتون ورحَّبوا بها دخول المسيح أُورشليم، وكأنه قد تحقَّق مجيء المخلِّص. لذلك كان الفرح كما وصفه النبي زكريا: "ابتهجي جداً يا ابنة صهيون" لأن فيه يتحقَّق لها رجاء مجيء المخلِّص. وكأنه قد حضر صاحب عيد المظال (الشعانين) وكمل الزمان. وكانوا في عيد المظال يطوفون حول المذبح ومعهم سعوف النخل ويصيحون: "هوشعنا"، ويرتِّلون وسط صوت الأبواق والطبول: "هوشعنا". وفي نهاية العيد يدورون حول المذبح سبع مرَّات بهتاف هوشعنا وكانت تسمَّى يهوشعنا الكبيرة. ويجيء القديس يوحنا في رؤياه بمنظر عجيب يمثِّل التحقيق النهائي لعيد المظال أو عيد الشعانين هكذا:

+ "نظرت وإذا جمعٌ كثيرٌ لم يستطع أحد أن يَعُدَّه، من كل الأُمم والقبائل والشعوب والألسنة، واقفون أمام العرش وأمام الخروف، مُتسربلين بثيابٍ بيضٍ وفي أيديهم سعف النخل وهُم يصرخون بصوتٍ عظيم قائلين: الخلاص (هوشعنا) لإلهنا الجالس على العرش وللخروف." (رؤ 7: 9و10)

وقد أخذتها الكنيسة وتلحِّنها بلحن افلوجيمينوس

- "مبارك الآتي باسم الرب، وأيضاً باسم الرب. أُوصنَّا لابن داود، وأيضاً لابن داود. أُوصنَّا في الأعالي، وأيضاً في الأعالي. أُوصنَّا ملك إسرائيل، وأيضاً ملك إسرائيل. فلنرتِّل قائلين: الليلويا الليلويا الليلويا. المجد هو لإلهنا، وأيضاً المجد هو لإلهنا."(2)

10:21و11 "وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: مَنْ هذَا؟ فَقَالَتِ الْجُمُوعُ: هذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ".

منظر الموكب والشعب والهتاف وألوف سعف النخل، منظر مثير لم يعتاده شعب إسرائيل وقد انزعج رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب جداً. أولاً لأنهم لم يعتادوا رؤية المسيح راكباً. ثانياً: لأن الغيرة أكلت قلوبهم فهم محرومون من هذا الفرح والهتاف، ولكن هم الذين حرموا أنفسهم. وفي نفس الوقت كيف يصير هذا كله وأين القيادة والريادة والرئاسة والنظام والقانون والناموس: "بأي سلطان تفعل هذا"؟ "فقال الفرِّيسيُّون بعضهم لبعض: انظروا إنكم لا تنفعون شيئاً. هوذا العالم قد ذهب وراءه." (يو 19:12)

"ارتجَّت":

الكلمة اليونانية من "الزلزال" أي "تزلزلت"، لأن الهتاف كان لجموع غفيرة من الحُجَّاج انضموا إلى رَكْب المسيح وساروا أمامه بالهتاف الشديد من عظم الفرح. ولمَّا كان السؤال مَنْ هذا؟ كان الرد عليه جاهزاً، فالمسيح كان في العيد يُعلِّم والكل تعرَّف عليه، الأمر الذي صار كالصاعقة على رؤساء الكهنة. وكلمة النبي الذي من ناصرة الجليل، كلمة لائقة جداً بالمسيح من قوم أُقفلت عيونهم وصُمَّت آذانهم عن استيعاب مسيانيته (أي حقيقة كونه المسيَّا المنتظر).

وهكذا استُقبل المسيح يوم أحد الخوص كابن داود المخلِّص كآخر يوم له على الأرض، والذي بعده دخل إلى آلامه.

تطهير الهيكل

12:21و13 "وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ وَقَالَ لَهُمْ: مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!".

المكان الذي دخله المسيح هو رواق الأُمم حيث غُصَّ بالباعة والصيارفة وحيوانات الذبح، وكأنه سوقٌ بالمعنى الصحيح، ملآنٌ بالصراخ والصياح، ورائحة روث البهائم جعلته أدنى من السوق. والمصيبة أن البائعين لهذه الحيوانات والحمام لا يدخلون الهيكل إلاَّ بعد أن يدفعوا أتاوة لرؤساء الكهنة حتى تصبح الذبيحة مقبولة، وكأن الشعب يشتريها على ذمة رؤساء الكهنة. فكانت النقود كلها تصبُّ في جيب حنَّان رئيس الكهنة الذي دفع أتاوة على ذبيحة المسيح ثلاثين من الفضة. فحينما خاطب المسيح هؤلاء الباعة بأنهم لصوص "فالكلام لك، وإيَّاك أعني يا جَارَة" حسب المثل الشائع. أمَّا الصيارفة فكذلك دفعوا المعلوم لرؤساء الكهنة قبل أن يفرشوا موائدهم التي يحوِّلون فيها النقد الأجنبي إلى نقود الهيكل، لأن النقد الأجنبي نجس مرفوض؛ سواء ليشتروا به ذبيحة أو ليضعوه حسنة في الخزانة. كذلك مفروض على كل إنسان أن يدفع ضريبة الهيكل نصف شاقل [(خر 13:30)، (مت 24:17-27)]. كذلك فإن أية ممارسات داخل الهيكل للتطهير عليها رسوم تُدفع بالعملة الهيكلية. وكانت السرقة توزَّع بالعدل على رؤساء الكهنة، والسرقة ليست قليلة، ولكن ألوف الألوف من الفضة. فتصوَّر - حسب تحقيق المؤرِّخ اليهودي أدرزهايم - أن زوج الحمام كان ثمنه خارج الهيكل نِكْلَة nickel، ولكي تشتريه "طريف" أي قابلاً للذبح بعد أن يكون قد وافق عليه رئيس الكهنة - دون موافقة طبعاً - بما يساوي أربعة دولارات؟ نعم استغلال الحجاج(3). مغارة لصوص! واستغلال الدين.

ولكن على القارئ أن يلاحظ الصلة بين قول الآية: "بيتي بيت صلاة يُدعى لجميع الأُمم" (مر 17:11)، وبين رواق "الأمم" الذي صار مغارة لصوص.

كان طرد هذا الجمع كله يحتاج إلى سلطان ليس أقل من عشرة ضباط بوليس وخمسين عسكرياً، ولكن الرب أظهر بالفعل أنه صاحب الهيكل: "بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص"، ولم يوضِّحها إلاَّ القديس مرقس: "وكان يعلِّم قائلاً لهم: أليس مكتوباً بيتي بيت صلاة يُدعى لجميع الأُمم وأنتم جعلتموه مغارة لصوص"، مأخوذة من سفر إرميا النبي (11:7): "هل صار هذا البيت الذي دُعِيَ باسمي عليه مغارة لصوص في أعينكم".

وسلطان المسيح حينما يريد المسيح أن يعلنه يصبح قاهراً ومرهباً حتى على رؤساء الكهنة، الذين لمَّا رأوا موكب المسيح وهو داخل المدينة ارتعبوا ووقفوا صامتين. الأمر الذي استغلَّه المسيح بعد ذلك وألقى عليهم مَثَله المشهور بخصوص الكرَّامين الأردياء. ومن فزعهم سألوه: "بأي سلطان تفعل هذا"؟ لأنه يفوق سلطانهم مئات المرَّات. ولكن لأنه ملك السلام ورئيسه لم يهابوه، وحينما اطمأنوا أنه وديع ومتواضع القلب صلبوه!!

14:21-17 "وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عُمْيٌ وَعُرْجٌ فِي الْهَيْكَلِ فَشَفَاهُمْ. فَلَمَّا رَأَى رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ الْعَجَائِبَ الَّتِي صَنَعَ، وَالأَوْلاَدَ يَصْرَخُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَيَقُولُونَ: أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ، غَضِبُوا وَقَالُوا لَهُ: أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ هؤُلاَءِ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: نَعَمْ! أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ: مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ هَيَّأْتَ تَسْبِيحاً؟ ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَخَرَجَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا وَبَاتَ هُنَاكَ".

حينما تقدَّم إليه العُمْي والعُرج فرح بهم المسيح في مقابل الغضب الذي ألمَّ به من حال الهيكل وأحوال رؤساء الكهنة، فلمَّا جاء إليه العمي والعرج تحنَّن عليهم في الحال، وكطبيب يكرم مهنته مدَّ يده وأبرأهم وأسعدهم، وكان رؤساء الكهنة يراقبونه وهو يصنع هذه المعجزات، ولكن لم تكن قلوبهم مستقيمة، فجاءوا يسألونه عن الأولاد الذين يسبِّحون تسبحة الفصح "أوصنَّا لابن داود". واستكثروا أن يكون سامعاً وساكتاً: أتسمع هؤلاء؟ نعم أسمع. وكأنهم لم يسبِّحوا هم أبداً للفصح. فالمزمور (2:8) لهم، والتسبحة في ميعادها، والله نفسه يسمعها ويُسرُّ، ولكنهم قد صُدَّت نفوسهم عن رؤية المسيَّا أمامهم إذ علموا تماماً أن الأولاد يسبِّحون للمسيح باعتباره المسيَّا الآتي الذي أتى! ولكن ما العمل والعيون لا تبصر والقلب غَلُظ من أن يصدِّق الحق أو يطيعه!! صاحب الهيكل وبانيه والساكن فيه أتى إلى هيكله، ولكن الكرَّامين الأردياء ادَّعوا حق الملكية وجاءوا يُسائلون صاحب البيت، بأي سلطان تطهِّره، وبأي سلطان تشفي وتصنع المعجزات، وبأي سلطان تدع هؤلاء الأولاد يسبِّحون لك؟ يا للفُجر!! وردَّ المسيح وكأنه يؤاخذهم في مهنتهم: أَمَا قرأتم قط عنِّي؟ وكما صنع بالأمس لما ذهب وبات في بيت عنيا، هكذا اليوم ذهب وبات في بيت عنيا.

الأب متى المسكين


(1) Bengel, John Albert, Gnomon of the New Testament, Vol. 1, Edinburgh, 1866, p. 380. حيث يضيف أيضاً العالِم بنجل: أنَّ "هوشعنا" كانت كلمة طقسية يقولها الكاهن وهو يُقدِّم الذبائح.

(2) كتاب: "خدمة الشماس"، صفحة 255.

(3) W. Hendriksen, Exposition of the Gospel according to Matthew, New Testament Commentary, Grand Rapids, 1973, rep. 1987, p. 769.