من المؤتمرات المسكونية |
|
|
نشرنا الجزء الأول من هذه المحاضرة العدد الماضي (مارس 2008، من صفحة 35-39)؛ وتحدَّث فيها المُحاضر “المتروبوليت كاليستوس ويـر“ عن:
1 - مقدمة، 2 - ”مجد أنصع من النور“.
وفي هذا العدد ننشر بقية المحاضرة.
هذا التزامن القريب نحن نتناساه بسهولة، لأنه في ترتيب الأعياد الكنسية يتم الاحتفال بأسبوع الآلام وبعيد التجلِّي (18 أغسطس) في تاريخين بعيدين عن بعضهما البعض. لذلك، فإذا كان احتفالنا الكنسي بعيد التجلِّي وأسبوع الآلام في ميعادين قريبين، فسيكون احتفالنا بعيد التجلِّي في أحد أيام الصوم الأربعيني المقدس؛ علماً بأنه في الطقس اللاتيني تأتي قراءة الإنجيل في الأحد الثاني من الصوم عن تجلِّي المسيح حسب إنجيل متى (مت 17: 1-9).
إذن، فلنحاول أن نكتشف أكثر فأكثر الصلة بين الجبلين: جبل التجلِّي في طابور، وجبل الجلجثة خارج أورشليم. وهذا يتضح بصورة أفضل إذا سألنا أنفسنا:
ما الذي يأتي مباشرة قبل ذِكْر تجلِّي المسيح، وما الذي يأتي مباشرة بعد ذلك؟
ففي الأناجيل الثلاثة الإزائية (أي المتفقة في أسلوب سرد حياة المسيح) متى ومرقس ولوقا، هناك تتابُع في الأحداث المتشابهة. فأولاً، وهم في الطريق إلى قيصرية فيلبُّس، ينطق القديس بطرس باعتراف إيمانه الحاسم: «أنت هو المسيح ابن الله الحيُّ» (مت 16: 16). ثم يُعلِن المسيح عن آلامه المزمعة وموته وقيامته (مت 16: 21). ويتعثَّر بطرس، لكن المسيح يُوبِّخه ويُصمِّم على أنه ليس هو وحده (أي بطرس) بل كل مَن يريد أن يكون له تلميذاً، عليه أن يتبع المسيح في طريق الألم الاختياري: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه، ويحمل صليبه، ويتبعني» (مت 16: 24). فالتلمذة للمسيح تعني حمل الصليب. المسيح، إذن، يسبق ويُنبئ بمجيئه الآتي في مجد (مت 16: 28). ثم بعد كل هذا، يأتي مباشرة حَدَثُ التجلِّي: «وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه، وصعد بهم إلى جبلٍ عالٍ منفردين» (مت 17: 1).
ارتباط بين جبل التجلِّي، وجبل الجلجثة:
هذا التتابُع في الأحداث ليس مجرد تزامن على سبيل الصدفة، ولكنه يُعبِّر عن ارتباط روحي متشابك. فأولاً، وبمنتهى الوضوح، فإن تجلِّي المسيح يُساند اعتراف إيمان بطرس: إن يسوع ليس فقط ”ابن الإنسان“، بل وأيضاً ”ابن الله الحي“. وجبل طابور يؤكِّد إعلان بطرس بلاهوت المسيح. ولكن التجلِّي أيضاً نفهمه على ضوء الحوار الذي حدث في الطريق إلى قيصرية فيلبُّس. فلم يكن الأمر مجرد تطابُق في الأحداث أن يتكلَّم المسيح عن آلامه ودعوته للجميع لحَمْل الصليب، قبل استعلان مجده الإلهي على جبل طابور مباشرة؛ بل على العكس، فالمسيح كان مهتماً أن يوضِّح الارتباط الأساسي في تدبيره الخلاصي بين المجد والآلام.
إذن، فالتجلِّي يُقدِّم لنا الطريق الممكن لفهم سر الألم الخلاصي. فالمجد والألم يسيران جنباً إلى جنب في عمل خلاص المسيح. الجبلان: جبل التجلِّي، وجبل الجلجثة، مرتبطان معاً على نحوٍ محسوس. فالتجلِّي لا يمكن فهمه إلاَّ على ضوء الصليب، وكذلك الصليب لا يمكن فهمه إلاَّ على نور التجلِّي، وكذلك على القيامة أيضاً.
شهود التجلِّي هم شهود الآلام:
هذا الارتباط يتضح بأكثر وضوح إذا تمعَّنا في سرد الإنجيل للتجلِّي وللآلام. فمَن هم الثلاثة التلاميذ الذين رافقوا المسيح على جبل التجلِّي؟ إنهم بطرس ويعقوب ويوحنا. ومَن هم الثلاثة التلاميذ الذين كانوا حاضرين مع يسوع في جثسيماني؟ إنهم هم أنفسهم: بطرس ويعقوب ويوحنا (مت 26: 37). قد يُقال إن هؤلاء الثلاثة كانوا حاضرين في كلتا المناسبتين لأنهم كانوا هم الأكثر التصاقاً مع يسوع، كنُخبة من بين الاثني عشر. ولكن لابد أن يكون هناك معنىً أعمق من هذا التفسير.
فكما أنه ليس على سبيل المصادفة أن يتكلَّم المسيح عن حَمْل الصليب مباشرة قبل تجلِّيه؛ هكذا أيضاً فلم يكن على سبيل المصادفة أن نفس هؤلاء الثلاثة التلاميذ كانوا حاضرين على قمة جبل التجلِّي، وكذلك عند آلام المسيح في البستان. فشهود مجده الأزلي، هم أيضاً شهود آلامه الشديدة؛ وشهود ”التجلِّي“، هم أنفسهم أيضاً شهود ”التخلِّي“.
كيف يكون الحديث عن الآلام
وسط مجد التجلِّي:
وماذا يمكن أن نسأل أكثر من هذا، إلاَّ عن موضوع حديث موسى وإيليا مع المسيح وهما واقفان معه تحت وهج نور التجلِّي؟ فلم يكن الحديث عن شيء آخر سوى عن خروجه العتيد أن يحدث خارج أورشليم، أي عن موته على الصليب الذي كان على وشك الحدوث (لو 9: 31). أليس هذا أمراً مُدهشاً؟ إذ بينما كانا واقعَيْن تحت نور الأبدية، لم يكونا يتكلَّمان عن الأفراح الفائقة في السماء، بل عن ذبيحة الإخلاء التي ستُقدَّم على الصليب. هذا هو ما ينبغي أن نفهمه عن التجلِّي في ضوء الصليب، والصليب على ضوء التجلِّي.
فعلى قمة جبل طابور قام الصليب؛ ووراء حجاب المسيح مصلوباً وجسده الذي ينزف على الجلجثة، لابد أن نتبيَّن حضور النور الأزلي للتجلِّي.
المجد والألم وجهان لسرٍّ واحد غير منقسم: «صلبوا رب المجد» كما يؤكِّد القديس بولس (1كو 2: 8). فالمسيح هو رب المجد، سواء وهو يموت على الصليب أو وهو يتجلَّى على جبل طابور.
”التجلِّي - الصليب“
يظهر في تاريخ العيدَيْن:
فهذا الحدث المترابط: ”التجلِّي - الآلام“، تُظهِره الأعياد الكنسية. فعيد التجلِّي (18 أغسطس) يأتي قبل عيد رفع الصليب (27 سبتمبر) بأربعين يوماً. وللرقم 40 معنى خاص في التاريخ المقدس: فشعب إسرائيل قضوا 40 سنة في البرية (عدد 14: 33)، وداود وسليمان كلاهما ملك 40 عاماً (1مل 2: 11؛ 11: 42)، وإيليا ارتحل لمدة 40 يوماً إلى جبل حوريب قبل أن يختبر الرؤيا الإلهية عند المغارة (1مل 19: 7-13)، والمسيح جُرِّب 40 يوماً في البرية (مر 1: 13). وحقيقة مجيء عيد التجلِّي قبل عيد رفع الصليب بأربعين يوماً تؤكِّد عليه ألحان الصليب في طقس باكر عيد التجلِّي (وذلك في الطقس البيزنطي).
وليس هذا هو الموضع الوحيد في النصوص الليتورجية لعيد التجلِّي حيث يقترن التجلِّي مع الصليب. فألحان المساء الكبير، وهي تصف لحظة التجلِّي، تبدأ بطريقة فذة بهذه الكلمات: ”قبل صليبك، يا رب“. وبنفس الروح تبدأ تسابيح الصباح بهذه الكلمات: ”قبل صليبك وآلامك الثمينة“. فالرباط بين التجلِّي والصَّلْب يظهر أيضاً في ذكصولوجية عيد التجلِّي:
[لقد تجلَّيتَ على الجبل، وتلاميذك أبصروا مجدك، أيها المسيح إلهنا، على قدر ما استطاعوا أن يُبصروا. حتى حينما رأوك مصلوباً، عرفوا أن آلامك كانت بإرادتك...].
فعند الصَّلْب، إذن، تذكَّر التلاميذ ”الثيئوفانيا“ (”الظهور الإلهي“) على جبل طابور، وفهموا أن الجلجثة هي أيضاً ثيئوفانيا. التجلِّي والآلام مفهومان كل واحد بالآخر، وكلاهما مفهومان بالقيامة، قيامة المسيح من بين الأموات.
- هكذا يصير واضحاً الارتباط بين التجلِّي على جبل طابور والصَّلْب على جبل الجلجثة، ليس فقط في الإنجيل وفي نصوص التسبحات الليتورجية؛ بل وأيضاً وبالتساوي في فن الأيقونات. فالأب ”إنزو“ يُذكِّرنا (في محاضرة سابقة) بكيف قدَّم فن الأيقونات، في وقتٍ مُبكِّر، التجلِّي. ففي حَنية شرقية كنيسة القديس أبولينار في رافنَّا يظهر المسيح المُتجلِّي في شكل جوهرة على هيئة صليب، والصليب مُرصَّع بالجواهر وتمتد أَذرُعه على قبة السماء. وهكذا يظهر الارتباط بين التجلِّي والآلام، ويُستعلَن في شكل رائع لا يُنسَى.
ارتباط التجلِّي بالأحداث التي بعده:
لقد رأينا ما حدث مباشرة قبل التجلِّي. والآن فلنتبصَّر فيما حدث مباشرة بعد التجلِّي. ففي الأناجيل الإزائية الثلاثة: متى ومرقس ولوقا، هناك مرة أخرى تتابُع وتسلسُل للأحداث. فالتلاميذ الثلاثة وهم نازلون مع المسيح من على الجبل، تواجهوا فجأة بمنظر مثير للأسى والحزن: طفل مريض مُصاب بنوبة مرض الصَّرَع؛ بينما أبوه يصرخ بدموع: «أومن، يا سيد، فأعِن عدم إيماني» (مت 17: 14-18؛ مر 9: 14-27). وأيضاً ليست هذه حادثة على سبيل الصدفة. فقد أراد بطرس أن يبقى على أعلى الجبل صانعاً ثلاث مظال حتى يستطيل أمد الرؤيا (مت 17: 4). وهذا ما لم يسمح به المسيح، إذ أصرَّ على أن ينزل مرة أخرى إلى السهل. فنحن نشترك في نعمة التجلِّي، ولكن ليس بأن نعزل أنفسنا عن آلام العالم، بل بأن ندمج أنفسنا فيها.
إن حياتنا اليومية تتجلَّى حينما نُشارك، بحسب وضع كل واحد منا، في آلام الذين حولنا ووحدتهم ويأسهم.
الارتباط بين مجد التجلِّي وآلام العالم:
هذه هي الرابطة المُحيية بين مجد التجلِّي ويأس العالم ودموعه؛ هذه هي رسالة المخلِّص المتجلِّي للجنس البشري. هذا هو معنى التجلِّي في العالم المعاصر. كل الأشياء قابلة للتجلِّي، ولكن مثل هذا التجلِّي ممكن فقط من خلال حَمْل الصليب، كما تؤكِّد صلوات الكنيسة في صلاة الساعة السادسة: ”ها هو الفرح، بالصليب، دخل إلى كل العالم“. ”من خلال الصليب“، وليس هناك طريق آخر. فبالنسبة للمسيح نفسه، ولكل واحد منا يريد أن يكون عضواً في جسد المسيح، المجد والألم يسيران معاً جنباً إلى جنب. ففي حياة المسيح وفي حياتنا، جبل التجلِّي وجبل الجلجثة هما سرٌّ واحد. لكي تكون مسيحياً لابد أن تشترك في إخلاء الذات وفي بذل الذات على الصليب، وأيضاً - وفي نفس الوقت - تشترك في الفرح العظيم للتجلِّي والقيامة. حينما نكون حاضرين مع المسيح في مجد التجلِّي، فإننا نكون في الوقت نفسه حاضرين معه في جثسيماني والجلجثة.
الله إلهٌ مندمج في آلام البشر:
يقول الفيلسوف واللاهوتي الروسي المعاصر ”نيقولا بردياييف“: ”تضادة الألم والشر، تنحل في اختبار الرحمة والمحبة“. وهذا حق ليس فقط بالنسبة لأنفسنا، بل وبالنسبة لله المتجسِّد. فالله هو إلهٌ مندمج معنا. فهو لا يُعطي بالكلام الإجابة على سؤال إيفان في رواية ”الإخوة كارامازوف“(1)؛ لكنه عبَّر عن الإجابة بالحياة، وذلك برحمته، من خلال مشاركته في آلامنا، من خلال محبته المتألِّمة. إن تجلِّيه بسكب الشفاء علينا، ليس بالهرب من الشر والبُعد عن الخليقة المتألِّمة؛ بل بالاندماج بلا تحفُّظ فيهما. التجلِّي يقود إلى الصليب، والصليب يقود إلى القيامة. وفي القيامة يكمن رجاؤنا الذي لا يخزى.
آلام المسيح، وتجلِّي العالم:
إن عنوان محاضرتي كان: ”تجلِّي المسيح وآلام العالم“. لكني يمكن أن أختار عنواناً متساوياً مع هذا العنوان: ”آلام المسيح، وتجلِّي العالم“.
”الجمال سوف يُخلِّص العالم“. نعم، بالتأكيد، لقد كان دستويفسكي على حق في هذه المقولة. لكن إشعياء النبي كان أيضاً على حق حينما قال: «لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمَّلها» (إش 53: 4).
الجمال، الذي هو خلاص العالم، هو حقاً الجمال الأزلي الذي توهَّج على جبل طابور، لكن نفس هذا الجمال الإلهي استُعلِن في ذبيحة الصليب.
تجلِّي المسيح لا يجعلنا نتفادى الآلام، بل هو يجعل آلامنا خـلاَّقة وواهبة للحياة، كما في كلمات القديس بولس: «... كمائتين وها نحن نحيا... كحزانى ونحـن دائماً فرحون» (2كو 6: 10،9). ?
(انتهت المحاضرة)
(1) انظر بداية المقال في العدد السابق (مارس 2008 - صفحة 35).
من 73 / 6 - 73 / 10، 73 / 14، ومن 74 / 4 - 74 / 9
ومن 74 / 11 - 74 / 13، ومن 75 / 10 - 75 / 12، 75 / 15، 75 / 16، 75 / 17
76 / 1 - 76 / 2، 77 / 2
من 78 / 3 - 78 / 4، ومن 79 / 1م - 79 / 8، ومن 80 / 3 - 80 / 4
+++
73 / 14، 74 / 14، 75 / 13، 77 / 3
من 79 / 9 - 79 / 10
80 / 5، 82 / 4، ومن 85 / 3 - 85 / 6