في المسيرة إلى عمواس
(
)(لو 13:24ــ35)
?lUl�
l
صديق البشرية العجيب رافقهم في المسيرة ليعرف ما رأيهم
فيه بعد أن صُلِبَ ومات ودُفن؟
l
ووبَّخهم كثيراً لبطء إيمانهم، ولم يستطع أن يمنع نفسه عنهم، فعند كسر
الخبز ظهر ثم اختفى.
قصة تلميذي عمواس لا تقلُّ جمالاً عن قصة الميلاد، وكلاهما للقديس لوقا فقط.
يُضاف إليهما قصة القديس بطرس وكرنيليوس (أع 10) في سفر الأعمال. هنا يُقدِّم
لنا القديس لوقا حادثة فريدة عن القيامة انفرد بها هو وحده دون جميع
الأناجيل، وهي قصة تلميذَيْ عمواس. فتلميذا المسيح ــ أحدهما اسمه كليوباس ــ
كانا عائدَيْن من أُورشليم بعد هذه الأخبار المذهلة قاصدَيْن قريتهما عمواس،
وإذ بهما يجدان مَنْ يفاجئهما ويسألهما عمَّا يتباحثان، فراجعاه في حزنٍ
واندهاش: وأين كنت أنت؟ هل كنت متغرِّباً وحدك في أُورشليم؟ ألم تسمع
بالأهوال التي حدثت؟ وهنا يحدث العجب، فالمسيح يظهر لهما بهيئة رجل غريب
متغرِّب كان في أُورشليم ويسألهما عمَّا حدث. والقصة تحوي أهم حدث بالنسبة
لفهم مسيح القيامة، فهو قادر أن يظهر وقادر أن يلغي ظهوره، يقابل ذلك عين
الإنسان التي ترى فهي قد تنفتح من قبَل الله لترى ما لا يُرى، أو تنغلق فلا
ترى شيئاً من أمور الروح. ولكن المسيح لم يكن مسروراً أبداً لمَّا وجدهما
متعثِّريْن في قبول خبر القيامة الذي أتت به النسوة رسمياً لتخبرن به
التلاميذ والرسل، حتى أنه من حزنه نعتهما بالغباء وبطء الإيمان بالقلب. وعليه
أخذ يفتح فهمهما قليلاً قليلاً من موسى والأنبياء والمزامير، نبوَّات تحكي عن
كل ما سمعاه ورأياه من جهة المسيح. ولمَّا دخلا القرية ترجَّياه أن يأتي
ويبيت معهما، فوافق وعند كسر الخبز أعلن شخصه وفي الحال اختفى عنهما.
هذه القصة يقدِّمها القديس لوقا كدرس تعليمي للكنيسة كيف انعمى الشعب
وحُكَّامه وصلبوا مَنْ أتاهم بملكوت الله وهم لاهون، بل كيف أُعثر فيه
تلاميذه أنفسهم وجميع الرسل الموجودين في أُورشليم ولم يــدركوا رسالته التي
سبق وعلَّم بها، كما عيَّرهم حبقوق النبي في ذلك الزمـان: «انظروا بين الأُمم
وأبصروا وتحيَّروا حيرة لأني عامل عملاً في أيامكم لا تصدِّقون به إن أُخبر
به» (حب 5:1). يُلاحِظ القارئ كيف وقفت النسوة ”محتارات“، وهو نفس الحال الذي
سبق وأنبأ به حبقوق: «انظروا ... وتحيَّروا حيرة»، إنه عجب أن يكون تطبيق
النبوَّة حرفياً! والقديس لوقا لم يأخذ هذه القصة عن أحد الإنجيليين بل هي من
تحقيقاته والتي بمقتضاها يظهر بوضوح أن القيامة جاءت كنور يضيء كل الماضي
ويجعله مقروءاً اليوم في حوادث الموت والقيامة. فلولا القيامة ما عُرفت
النبوات عن مَنْ هي؟ وإلى أين؟ ففي القيامة تكميل جميع الكتب والوعد. هذه
القصة بالذات تشرح ذلك شرحاً.
وقد التقطت الكنيسة من هذه القصة مفهوم حضور المسيح في الإفخارستيا في
لحظة كسر الخبز، وهي من أقدس اللحظات في القداس. وهي بالتحديد أثناء
القسمة حيث يقسِّم الكاهن القربانة (القسمة الأُولى). وتقسيم القربانة فن
كهنوتي يُسلَّم بتسليم السرّ، لأن تقسيم القربانة يتبع تفصيل جسم الذبيحة
المذبوحة حيث يستلمها الكاهن بحسب أصول التسليم الموروثة والموضَّح مضمونها
في شرح تقديم الذبيحة في العهد القديم، إذ بعد أن يقسِّم الكاهن الجسم
تقسيماً فنياً، يعود ويضعه على مذبح النحاس ويعود بأقسام الجسم إلى وضعها
الصحيح قبل التقسيم بضم الأجزاء على بعضها قبل أن يُشعل النار لتلتهمها ويصعد
دخانها إلى الله. هكذا يعمل الكاهن في الطقس القبطي بدقة: فبعد أن يقسِّم
القربانة حسب أصول الكهنوت (في القسمة الأُولى التي يقسِّم فيها القربانة إلى
الثلث والثلثين) يعود ويضمّها جميعاً صحيحة كما كانت ويطلب حلول الروح القدس
(الإبيكليسيس epiclesis).
هنا حضور الرب واستعلانه للعيون التي تُبصر. وبعد تمام القسمة الثانية يصلِّي
الكاهن صلاة الاعتراف العلني.
13:24-16
«وَإِذَا اثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِلَى
قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً، اسْمُهَا
عِمْوَاسُ. وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ
هذِهِ الْحَوَادِثِ. وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ،
اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا. وَلكِنْ
أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ».
كان التلميذان يسردان معاً أخبار قيامة المسيح بعد الصلب وكان ذهنهما منشغلاً
حزيناً، وإذا بالمسيح يمشي بجوارهما ثم ينضم إليهما ولكن أُمسكت أعينهما عن
معرفته. وهنا في الحقيقة ينبغي أن نوعِّي القارئ بما يحدث عند ظهور المسيح أو
عدم ظهوره. فالأمر يتعلَّق بقدرة الوعي الذاتي للإنسان على الانفتاح لاستخدام
رؤيته الروحية الممنوحة له من الله. فالمسيح ممكن أن يُظهر ذاته أو يلغي هذا
الظهور بناءً على قدرته في ذلك، ولكن يمكن أيضاً أن يفتح وعي الإنسان أو
يغلقه هو بحسب إرادته كما حدث هنا مع تلميذَي عمواس، إذ حدث ظهور المسيح وعدم
فتح الوعي عند التلميذَيْن، وعند كسر الخبز فتح أعينهما ليرياه حاضراً بصفته
في وضع القيامة، وفي الحال اختفى: «حقاً أنت إله محتجب يا إله إسرائيل
المخلِّص.» (إش 15:45)
17:24-20
«فَقَالَ لَهُمَا: مَا هذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ
وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟ فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، الَّذِي اسْمُهُ
كِلْيُوبَاسُ وَقَالَ لَهُ: هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي
أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هذِهِ
الأَيَّامِ؟ فَقَالَ لَهُمَا: وَمَا هِيَ؟ فَقَالاَ: الْمُخْتَصَّةُ
بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ، الَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيًّا مُقْتَدِراً فِي
الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ. كَيْفَ أَسْلَمَهُ
رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ الْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ».
كان كليوباس مندهشاً كيف أن إنساناً في أُورشليم لم يعرف ما حدث من جهة ”يسوع
الناصري“، وهو كان في عُرفهما نبيًّا مقتدراً في الفعل والقول أمام الله
والناس. والعجيب أن نفس التلميذين لا يعرفان معنى الذي حدث ولا سببه بالنسبة
للحكم بالموت والصَّلْب، ومن كلامهما يتضح لنا أن شيئاً مهماً جداً قد حدث
ولكن لا يعلمان ”كيف“؟! وهنا واضح اتهام رؤساء الكهنة والحكَّام بما حدث لنبي
مقتدر قولاً وعملاً أمام الله والناس.
21:24-24
«وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ
إِسْرَائِيلَ. وَلكِنْ، مَعَ هذَا كُلِّهِ، الْيَوْمَ لَهُ ثَلاَثَةُ
أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذلِكَ. بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا
إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ الْقَبْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ
أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا
إِنَّهُ حَيٌّ. وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلَى الْقَبْرِ،
فَوَجَدُوا هكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً النِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ
يَرَوْهُ».
إن كلام التلميذين يُحسب تسجيلاً صادقاً لمشاعر التلاميذ حتى تلك اللحظة.
ويعود كليوباس ليقول نفس المشاعر التي قالتها النسوة، «قد حيَّرننا»، على نفس
مستوى نبوَّة حبقوق: «انظروا بين الأُمم وأبصروا وتحيَّروا حيرة لأني عامل
عملاً في أيامكم لا تصدِّقون به إن أُخبر به» (حب 5:1). وحيرة التلميذين
وبقية التلاميذ معهما هي نوع من قساوة القلب بحسب كلام المسيح، لأنه كان
واجباً عليهم أن يفتِّشوا الكتب ليعرفوا ماذا يحدث أمامهم. وبالرغم من رؤيتهم
القبر فارغاً بما لا يُعطي للشك مكاناً أنه قام، إلاَّ أنهم لم يمتد إيمانهم
ليكتشفوا الحقيقة. أمَّا الكلمة الفاصلة في هذا القول فهي ما جاء في الآية
(21): «نحن كنَّا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل»!! لذلك كان حزن
التلميذين شديداً، فهو رجاء خاب وأمنية سقطت بدون تحقيق. وهكذا تبدأ دينونة
التلاميذ في نظر المسيح، ونعتهما بالغباء وبطء القلوب في الإيمان، لأن
التعليم كله عن الفداء يقوم أساساً على القيامة، والقيامة أُذيعت أول ما
أُذيعت بواسطة الملاك عند القبر للنسوة ويشهد بذلك القبر الفارغ. فكان المسيح
ينتظر أن يؤمن التلاميذ بالفادي الذي مات على الصليب أمامهم ودُفن وقام. لأن
تحقيق الرؤيا العينية ليس أساساً للإيمان: «طوبى للذين آمنوا ولم يَرَوْا»
(يو 29:20)، فكان مفروضاً أن يؤمن القديس بطرس بما رأى وبما عاين وما سمع،
وكذلك النسوة وبقية التلاميذ لأن الإيمان القلبي لا يطلب العيان، فانتظار
الرؤية العينية يُضعف مستوى الإيمان.
25:24-27
«فَقَالَ لَهُمَا: أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي
الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، أَمَا كَانَ
يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟
ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا
الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ».
l
مال إليَّ قبل أن يميل النهار. دعوته ليبيت عندي ليستريح في قلبي من وعثاء
السفر.
l
فمهما اظلمَّت الدنيا فهو نور في قلبي يقيم. وعندما تركني كل صحبتي، وجدته
كل صباح في صحبتي!!
توبيخ المسيح العنيف لهما يُظهر لنا بوضوح فعلاً أن مستوى إيمانهما مع بقية
التلاميذ كان متدنِّياً جداً. فكيف أن كل ما سبق من تعاليم المسيح التي علَّم
بها عمَّا سيكون وتوضيحه عمليات الآلام والتسليم والصلب والموت التي أوضحها
عدَّة مرَّات، ثم كل الحوادث التي يسردونها والتي سبق وقال لهم عنها، كيف
حينما أتت كل هذه وتحقَّقت لا تكون هي بحد ذاتها كفيلة أن تحرِّك إيمانهم؟ ثم
بقية الكتب والآيات التي فتح المسيح سرَّها لهم، كيف ولا آية منها توقظ
قلوبهم وتفتح عيونهم؟ هذا الشيء أحزن قلب المسيح جداً.
ولكن من كلام المسيح هنا ننتبه نحن أيضاً جداً إلى أهمية ما قاله الأنبياء
وما سلَّمه الله لموسى من جهة الآتي بعده، وكل الوحي والعلامات التي ساقها
على الأنبياء بتدقيق حتى لا يوجد عمل أو قامة للمسيح إلاَّ ويكون قد سبق
وتنبَّأ عنها الأنبياء.
وربما كلَّمهم المسيح عن معنى مسيَّانيته وتوضيحها في الأنبياء، وعن اسمه
عمانوئيل وما يعني (إش 14:7)، وغصن البرِّ لدى إرميا الذي يحكم بالبرِّ
والعدل (إر 23: 5و6)، والحجر الذي قُطع بغير يد الذي صار جبلاً يملأ الأرض
كلها عند دانيال (دا 2: 34و35). وهو إسرائيل الجديد عند هوشع لينمو كالسوسن
في الوادي ويضرب أصوله كأرز لبنان (هو 5:14)، وملجأ الشعب عند يوئيل
(يؤ 16:3)، ومظلَّة داود الساقطة المقامة مع ردمها والتي تُبنى لمدى الدهر
عند عاموس (عا 11:9). وأيامه الحلوة حيث يدرك الحارث الحاصد، ودائس العنب
باذر الزرع، وتقطر الجبال عصيراً وتسيل جميع التلال (عا 13:9)، والنجاة من
فوق جبل صهيون مع القداسة عند عوبديا (عو 17)، والذي يفدي الشعب من يد أعدائه
ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل عند ميخا (مي 10:4؛ 2:5)، والمبشِّر
بالسلام على الجبال عند ناحوم (نا 15:1)، والمسيح الخارج لخلاص شعبه الذي
غنَّى له حبقوق (حب 13:3)، وذلك الذي يُحْضِر الشفاه (لغة) نقية لكل الشعوب
ليدعوا كلهم باسم الرب ليعبدوه بكتف واحدة عند صفنيا (صف 9:3)، وزرُبابل
الحقيقي الذي يبني بيت الرب إلى الأبد عند حجي. وهذا الفجر الجديد حينما تعمّ
القداسة حتى إلى أجراس الخيل عند زكريا (زك 14: 20و21). وشمس البر التي تُشرق
والشفاء في أجنحتها كحلم ملاخي (مل 2:4)!! وكثير كثير جداً، وليت الله يعطيني
عمراً جديداً لأتبع صوت الرب في جميع ما قال المسيح وعلَّم تلميذي عمواس!!
وقول القديس بطرس المشهور عن أهمية النبوَّات ليس هو منه بل بتوبيخ من المسيح
مرَّات ومرَّات:
+ «ونحـن سمعنا هـذا الصوت مُقبلاً مـن السماء، إذ كُنَّـا معه في الجبل
المقدَّس. وعندنـــا الكلمـة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن
انتبهتم إليها، كما إلى سراج منير في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار، ويطلع
كوكب الصبح في قلوبكم، عالمين هذا أولاً: أن كل نبوَّة الكتاب ليست من
تفسير خاص. لأنه لم تأتِ نبوَّة قط بمشيئة إنسان، بل تكلَّم أُناس الله
القديسون مسوقين من الروح القدس.» (2بط 1: 18-21)
وقيامة المسيح بالذات أخذت من الأنبياء الشيء الكثير خاصة إشعياء بعد وصف
الآلام بتدقيق (إش 53 كله)؛ ولكن في الحقيقة من تصرف المسيح مع التلميذين
وبقية التلاميذ ينكشف عذر واضح في تعوُّق التلاميذ لإدراك ما في الكتب من
نبوَّات عنه، لأنه جاء في نهاية الإنجيل وقال: «هذا هو الكلام ... حينئذ
فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو 24: 44و45). إذن، فدراية التفسير للنبوَّات
كانت تحتاج إلى ذهن مفتوح بعطية خاصة. كذلك ما هو واضح لنا الآن أن
التلاميذ بمجرَّد أن حلَّ عليهم الروح القدس طفقوا يتكلَّمون بالنبوَّات
بطلاقة وكأنهم يحفظونها عن ظهر قلب، مع أنهم لم يحفظوا!! وهذا واضح حينما عاد
الرسل بعد أن هدَّدوهم في السنهدرين يصلُّون ويتحقَّقون مما حدث للمسيح
تحقيقاً لما جاء في المزمور الثاني (أع 25:4)، وفي (أع 35:8) يشرحون أقوال
إشعياء النبي، وفي (أع 3: 22و23) يذكرون قول موسى عن إقامة الآتي بعده (تث
15:18). أمَّا قيامة المسيح فحقَّقها القديس بطرس في (أع 2: 26-32).
وهكذا فالقيامة تغطِّي جميع النبوَّات في كل الكتب. لذلك تُعتبر لحظة حديث
المسيح مع تلميذي عمواس بخصوص الأنبياء والنبوَّات هي بداية الشرح
المسيَّاني! الذي اهتمت به الكنيسة بنوع خاص جداً في ليتورجيتها وطقوسها
بعد عيد القيامة مباشرة كدروس للمؤمنين وقراءات من كافة الكتب.
28:24-31
«ثُمَّ اقْتَرَبُوا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَــا مُنْطَلِقَيْنِ
إِلَيْهَا، وَهُــوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّـهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ
أَبْعَدَ. فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: امْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ
الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ. فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا.
فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا، أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ
وَنَاوَلَهُمَا. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى
عَنْهُمَا».
هذه الآيات القليلة فتحت عندنا طاقات غير متناهية لتُدخِل لنا النور السماوي
ليمسح من عيوننا البكاء على إسرائيل وما عملته إسرائيل في عريسها. هنا تعود
إسرائيل وتُبرز لنا عيِّنات من شعبها التقي البسيط الحلو المعشار والودود،
كيف بحبِّهم وسخاء بذلهم ألزماه!! ألزماه حقـًّا ألزماه. ألزما الرب الإله
يسوع المسيح، ألزماه بالدخول إليهم فدخل. وهكذا أعطى المسيح لأول مرَّة
قيادته لآخر ليلزمه بالدخول وقبول الضيافة، وكأن المسيح كان عطشاناً إلى هذا
السلوك والوعي البسيط المبارك، فَقَبـِلَ في الحال ودخل وبارك أول بيت مسيحي
في العالم حينما كسر فيه الخبز فاستُعلن مسيح الله لأول مرَّة في الإنجيل!!
«هأنذا واقفٌ على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه
وأتعشَّى معه وهو معي» (رؤ 20:3). هذا هو الحبيب وقد بدأت حلاوة حبه ووداعة
ألوهيته تتبيَّن لمحبِّيه. ولكن لابد أخيراً من أن يختفي!!
وكانت هذه ”العزومة“ هي أول مائدة أغابي فيها سرّ المسيَّا وإعلانه.
أمَّا اختفاؤه فهو الوجود السرِّي السمائي الذي تنعم به أرواحنا دون رؤية،
هنا عمل ابن الله الحقيقي من فوق، حيث لا يزال هو الراعي الصالح والدجاجة
التي احتفظت بأولادها الصغار تحت أجنحتها السماوية!!
32:24-35
«فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا
إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟
فَقَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَا
الأَحْدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ، هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ وَهُمْ
يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!
وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي الطَّرِيقِ، وَكَيْفَ
عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ الْخُبْزِ».
وصار للتلميذين خبرة روحية ينقلانها بهدوء عجيب إلى قلوبنا وأفهامنا، كيف
أحسَّا بحضور المسيح وحديثه من الكتاب المقدَّس، وكيف التهب قلبهما بحضوره
السرِّي غير المعلن وغير المنظور، فأصبحت خبرة الكنيسة الأُولى بحضور الرب
وممارسته تعليمه لقلوب أولادها. ولم يحتمل التلميذان، بعد أن نالا أول اختبار
لعمل القيامة الجديدة وهو شرح الكتب المقدَّسة، فقاما وأسرعا وأخبرا وبشَّرا.
هذا درس القديس لوقا للكنيسة الساهرة، لأن أول اختبار تلقَّته الكنيسة من
القيامة هو من إنجيل القديس لوقا ومن تلميذي عمواس؛ إذ ذهبا مُسرِعَين إلى
أُورشليم وبشَّرا الكنيسة المجتمعة في العلِّية. وبمناسبة مجيء التلميذين إلى
أُورشليم تلقَّينا أول إشارة لظهور الرب لسمعان أولاً وسلَّما الكنيسة هذا
الخبر: «وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب، وأنه ظهر لصفا ثم للاثني عشر
...» (1كو 15: 4و5)
الأب متى المسكين
************************************************
|