|
|
|
نيافة أنبا إبيفانيوس
أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار الكبير
المسيح «مات من أجل خطايانا حسب الكُتُب»:
في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، يُقدِّم مُعلِّمنا بولس الرسول حديثاً طويلاً عن قيامة الرب يسوع، وهو الأصحاح الذي يُقرأ نصفه في قدَّاس سبت الفرح، وبقيته في قدَّاس عيد القيامة. يبدأ القديس بولس هذا الأصحاح بقوله:
+ «وأُعرِّفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشَّرتكم به، وقبلتموه، وتقومون فيه، وبه أيضاً تخلصُون، إن كنتم تذكرون أيُّ كلامٍ بشَّرتكم به. إلاَّ إذا كنتم قد آمنتُم عبثاً! فإنني سلَّمتُ إليكم في الأول ما قبلتُه أنا أيضاً: أنَّ المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكُتُب، وأنه دُفِنَ، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكُتُب» (1كو 15: 1-4).
أول كلمة هي: ”وأُعرِّفكم“، وهي كلمة تحمل معنى التوبيخ، لأنـه سيقول لهم بعد ذلك: «اصحُوا للبرِّ ولا تُخطئوا، لأن قوماً ليست لهم معرفةٌ بالله. أقول ذلك لتخجيلكم!» (1كو 15: 34)
«... أنَّ المسيح مات من أجل ???? خطايانا حسب الكُتُب»، بمعنى أنَّ المسيح مات لكي يرفع خطايانا، كما وردت في غلاطية (1: 4): «الذي بذل نفسه لأجل خطايانا، ليُنقذنا من العالم الحاضر الشرير حسب إرادة الله وأبينا». وهي تختلف عن الآية التي وردت في رسالة رومية، والتي تعني أنه مات بسبب خطايانا (رو 4: 25): «الذي أُسْلِمَ من أجل ??? خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا».
«مات من أجل خطايانا حسب الكُتُب»، هي تكريمٌ لشهادة الكتابات الإلهية أكثر من الرؤيا العينية. وبولس الرسول في هذه الآية يُشير إلى بعض النصوص مثل: «أَقسِمُ له بين الأعزِّاء، ومع العظماء يَقْسِمُ غنيمةً، من أجل أنه سَكَبَ للموت نفسه، وأُحْصِيَ مع أَثَمَة، وهو حَملَ خطيةَ كثيرين وشَفَعَ في المذنبين» (إش 53: 12)؛ «يَبِسَتْ مثل شَقفةٍ قوَّتي، ولَصِقَ لساني بحنكي، وإلى ترابِ الموت تضعُني» (مز 22: 15).
وهذا يُذكِّرنا بكلام الرب لتلاميذه في العليَّة: «وقال لهم: ”هذا هو الكلام الذي كلَّمتكم به وأنا بعد معكم، أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوبٌ عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير“. حينئذ فَتَحَ ذهنهم ليفهموا الكُتُب» (لو24: 45،44).
من هذه المقدِّمة، نرى القديس بولس يشرح ما هو الإنجيل الذي كَرَزَ به لأهل كورنثوس. هذا الإنجيل الذي يقوم عليه خلاصهم، وبدونه ليس لهم خلاص. ويتضح مِمَّا كتبه لهم أنَّ محور كرازته كانت موت الرب وقيامته من بين الأموات.
مشكلة كنيسة كورنثوس:
عدم إيمان البعض بالقيامة عامةً، وبقيامة المسيح بصفة خاصة:
ثم يتطرَّق القديس بولس لمشكلة كانت قائمة في كنيسة كورنثوس، وهي: عدم إيمان البعض بالقيامة عامةً، وبالتالي بقيامة الرب يسوع، فيقول:
+ «ولكن إنْ كان المسيح يُكْرَزُ به أنه قام من الأموات، فكيف يقول قومٌ بينكم إن ليس قيامةُ أمواتٍ؟» (1كو 15: 12)
واضحٌ من هذا الكلام أنه كان هناك أُناس في الكنيسة الأولى، بالرغم من إيمانهم بالرب يسوع، إلاَّ أنهم كانوا يُشكِّكون في أَمْر القيامة. وبأسلوب آخر: نحن نؤمن أنَّ الرب يسوع مات من أجلنا على خشبة الصليب، وأنه بموته نلنا جميعاً الخلاص، فما الداعي لأن يُبشِّرونا بقيامته، وما منفعة قيامة الرب لنا، أليس موتُ الربِّ كافياً ليغفر لنا الخطيئة؟
نُلاحِظ أنَّ موضوع قيامة الأموات كان موضع شكٍّ خاصةً في أوساط الأُمم، مثلما وَرَدَ في حديث القديس بولس في آيوس باغوس: «ولما سمعوا بالقيامة من الأموات، كان البعض يستهزئون، والبعض يقولون: سنسمع منك عن هذا أيضاً!» (أع 17: 32)، وكذلك في حديثه مع أغريباس الملك: «لماذا يُعَدُّ عندكم أمراً لا يُصدَّق إن أقام الله أمواتاً؟» (أع 26: 8)
وهنا يردُّ عليهم بولس الرسول، موضِّحاً خطورة عدم الإيمان بالقيامة من بين الأموات:
+ «فإن لم تَكُن قيامةُ أمواتٍ فلا يكون المسيح قد قام! وإن لم يَكُن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا، وباطلٌ أيضاً إيمانكم» (1كو 15: 14،13).
هنا يتضح لماذا الإصرار على التأكيد على قيامة الرب! فبدون القيامة ليس هناك خلاص. والسؤال: ألم يَكُن موت الرب على الصليب كافياً لكي ننال الخلاص، وليس هناك داعٍ للقيامة؟
يوضِّح القديس بولس للمؤمنين أنه إن لم نؤمن بالقيامة من بين الأموات، تكون كرازة الرسل باطلة، وإيماننا أيضاً باطلٌ. ولكي نفهم هذه النقطة، يجب أن نرجع إلى الوراء، إلى بدء الخليقة، إلى قصة سقوط أبوينا الأوَّلين، ونتائج هذا السقوط، لنعرف مدى احتياجنا لقيامة الرب.
بدء الخليقة، وسقوط أبوينا الأوَّلين، ونتائج هذا السقوط:
لقد صدر الحُكْم على آدم مُسْبقاً أنه إن عصى وصية الله، وأَكَل من شجرة معرفة الخير والشر، فإنه موتاً يموت. ولم يكن الله كاذباً في حُكْمه. لذلك حُكِمَ على آدم (وحواء) بالطرد من الفردوس، كما حُكِمَ عليه بالموت. لأنه ما هو الموت في مفهومه الروحي؟ أليس هو انفصال الإنسان عن الله مصدر حياته؟ وهكذا عندما تغرَّب الإنسان عن وجه الله، بسبب الخطيئة، دخل الموت إلى حياة الإنسان: الموت الروحي أولاً، ثم تبعه الموت الجسدي:
+ «وأوصى الربُّ الإله آدم قائلاً: من جميع شجر الجنَّة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت... بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخِذْتَ منها، لأنك ترابٌ وإلى ترابٍ تعود» (تك 2: 17،16؛ 3: 19).
وهذا ما أوضحه لنا مُعلِّمنا بولس الرسول، عندما أراد أن يشرح نتائج سقوط أبينا آدم في الخطيئة: «من أجل ذلك كأنما بإنسانٍ واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت. وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع» (رو 5 12). واضح من هذا الكلام، أن خطيئة آدم جلبت عليه الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الخليقة. إذاً تكون النتيجة الحتمية لهذا التعليم، أنَّ الإنسان يحتاج إلى القيامة من الموت، الموت الذي دخل إلى طبيعته، وسيطر على حياته، إنْ كنَّا نُسمِّي تلك حياة:
«الربُّ من السماء أشرف على بني البشر لينظر: هل مِن فاهم طالِب الله؟ الكلُّ قد زاغوا معاً وفسدوا. ليس مَن يعمل صلاحاً ليس ولا واحد» (مز 14: 3،2). فإنْ كان الجميع قد زاغوا معاً وفسدوا، فهل هم أحياء؟ بالطبع هم موتى، لأنهم زاغوا بعيداً عن مصدر الحياة، ودخلهم عنصر الفساد الذي هو الموت. فماذا يحتاج الموتى إلاَّ إلى خلقة جديدة أو حياة جديدة من ربِّ الخليقة، يعود ضخَّها في كيانهم ليعودوا أحياءً مرةً أخرى:
[يا الله العظيم الأبدي الذي جَبَل (خلق) الإنسان على غير فساد (أي على الخلود)، والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس، هدمته بالظهور المحيي...].
(صلاة الصُّلْح في القدَّاس الباسيلي).
بركة القيامة العُظمى: قيامتنا مع المسيح:
+ «وأنتم إذ كنتُم أمواتاً بالذنوب والخطايا... ونحن أمواتٌ بالخطايا، أحيانا مع المسيح، بالنعمة أنتم مُخلَّصون» (أف 2: 5،1).
هذه هي بركة القيامة العظمى: إننا قمنا مع المسيح بعد أن كُنَّا أمواتاً بالذنوب والخطايا. وعدم الإيمان بقيامة الرب من بين الأموات، معناه أننا ما زلنا في خطيئتنا: «وإن لم يَكُن المسيح قد قام فباطلٌ إيمانكم. أنتم بعدُ في خطاياكم. إذاً الذين رقدوا في المسيح أيضاً هلكوا! (”رقدوا في المسيح“، أي في حالة شركة واتحاد بالمسيح)» (1كو 15: 18،17).
بعد ذلك يوضِّح القديس بولس العلاقة بين قيامة الرب يسوع وقيامتنا: «ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة ?????? الراقدين» (1كو 15: 20). ففي ثاني يوم سبت الفصح يبدأ عيد الباكورات، وبعد خمسين يوماً عيد الخمسين. فالمسيح باكورة وبعده باقي الثمار. ونُلاحِظ أنَّ الباكورة هي من نفس النوع مثل بقية الثمار، هكذا كان آدم باكورة الجنس البشري. ولكي نفهم ما معنى الباكورة نرجع لسفر اللاويين:
+ «هذه مواسم الرب، المحافل المقدَّسة التي تُنادون بها في أوقاتها. في الشهر الأول في الرابع عشر من الشهر بين العشاءين فصحٌ للرب... وقال الربُّ لموسى: ”قُلْ لبني إسرائيل: متى جئتم إلى الأرض التي أنا أُعطيكم وحصدتُم حصيدها، تأتون بحُزْمةِ أولِ حصيدكم إلى الكاهن. فيُردِّد الحُزمة أمام الرب للرضا عنكم. في غدِ السبتِ يُردِّدها الكاهن. وتعملون يوم ترديدكم الحُزمة خروفاً صحيحاً حَوْليّاً مُحرقةً للرب. ثم تحسبون لكم من غدِ السبت من يومِ إتيانكم بحُزمة الترديد سبعة أسابيع تكون كاملة. إلى غدِ السبت السابع تحسبون خمسين يوماً ثم تُقرِّبون تقدمةً جديدةً للرب“» (لا 23: 4-16).
يُعلِّق القديس كيرلس الكبير على هذا النص قائلاً:
[إنَّ يسوع المسيح واحدٌ هو. ولكنه كمثل الحزمة يُعتَبَر جامعاً الكثيرين في ذاته، وهو كذلك لأنه يقتني في ذاته جميع المؤمنين في اتحادٍ روحي. ولهذا السبب يكتب بولس الطوباوي إننا: ”أُقمنا معه وأُجلسنا معه في السماويَّات“ (أف 2: 6)، لأنه لما صار مثلنا، صرنا معه «شركاء في الجسد» (أف 3: 6)، واغتنينا بالاتحاد به بواسطة جسده، ولذلك نقول إننا كلنا فيه...
إنه يقول إنه يجب ترديد الحزمة في غدِ اليوم الأول (من الفطير)، أي في اليوم الثالث (بعد ذَبْح الخروف)، لأن المسيح قام من بين الأموات في اليوم الثالث، وفيه أيضاً انطلق إلى السموات... فلما قام ربنا يسوع المسيح وأكمل ترديد نفسه كباكورة للبشرية أمام الله الآب، حينئذ بالذات تم تغيير أعماق كياننا إلى حياةٍ جديدة](1).
لأننا جميعاً قد مُتنا في آدم، وجميعنا نلنا الحياة مرة أخرى بقيامة المسيح من بين الأموات: «فإنه إذ الموتُ بإنسانٍ، بإنسانٍ أيضاً قيامة الأموات. لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيُحيا الجميع» (1كو 15: 22،21).
إذاً لو كان التجسُّد لمجرد غفران الخطايا فقط، ما كُنَّا في احتياجٍ لننال الخليقة الجديدة، وكان أقصى ما سنناله أن نأخذ صورة آدم مرة أخرى قبل السقوط. لكن الإنجيل يوضِّح لنا، أنه بقيامة الرب من بين الأموات، سنصير على صورته، لأننا سنصير سماويين، بعد أن كُنَّا ترابيين. اسمع ما يقوله لنا بولس الرسول:
+ «هكذا مكتوبٌ أيضاً: ”صار آدم، الإنسان الأول، نفساً حيَّة، وآدم الأخير روحاً مُحيياً“. لكن ليس الروحاني أولاً بل الحيواني، وبعد ذلك الروحاني. الإنسان الأول من الأرض ترابي. الإنسان الثاني الربُّ من السماء. كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضاً، وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضاً. وكما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضاً صورة السماوي» (1كو 15: 45-49).
إذاً، بقيامتنا مع الرب من بين الأموات، لن نعود فقط للصورة الأولى التي خُلِقَ عليها آدم، لكن سنأخذ صورة الرب القائم من بين الأموات، الذي مات بسبب خطايانا، وقام لأجل تبريرنا.
ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.