بحث كتابي آبائي:
صورة الله وشبهه في
الإنسان
ــ 2 ــ
l
”صَنَع الإنسان كشبهه وصورته
لكي يُباركه.“
(لبش
الهوس الثاني)
تكلَّمنا
في الجزء الأول من هذا البحث (مارس 2003، ص 14)
عن الإنسان ككائن إلهي وليس مجرد مخلوق
منساق بغرائزه الترابية لأنه مخلوق على
صورة الله ومثاله. ثم تحدَّثنا عن معنى
الصورة والشَّبَه والفرق بينهما. ثم ذكرنا
أن المسيح، الذي هو وحده صورة الله
الكاملة، قد جدَّد فينا بتجسُّده صورة
الله التي لوَّثتها وأضعفتها الخطية.
وسنُكمِل في هذا العدد الحديث عن مفهوم
صورة الله عند القديس بولس وعند آباء
الكنيسة.
المسيحي
الحقيقي يحمل صورة المسيح:
لقد
ذكرت آيات عديدة أن المسيحي الحقيقي يحمل
صورة المسيح، مثل (رو 29:8): «سبق فعيَّنهم
ليكونوا مُشابهين صورة ابنه»، وفي (2كو 18:3):
«ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في
مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها». وفي
(كو 9:3و10): «خلعتم الإنسان العتيق مع
أعماله، ولبستم الجديد الذي يتجدَّد
للمعرفة حسب صورة خالقه». فالصورة هنا
تحتوي على معرفة فائقة دون التفرقة بين
يوناني ويهودي أو ختان وغرلة أو عبد وحر أو
رجل وامرأة (كو 11:3).
ومفهوم
صورة الله عند القديس بولس يتضح في ثلاثة
اتجاهات:
الأول:
فيما
يتعلَّق بالمسيح (2كو 4:4، في 6:2، كو 15:1، عب
3:1).
الثاني:
فيما
يتعلَّق بالذكور: «الرجل لا ينبغي أن
يُغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده» (1كو
7:11). (ويُلاحظ أن المرأة بخضوعها للرجل
تكون هي أيضاً كصورة الله التي فيه).
الثالث:
فيما
يخص المسيحيين (كو 10:3)، وفي (يع 9:3) نجد أنه
يخص البشرية بصفة عامة.
ويرى
القديس إيرينيئوس أن الرب المتجسِّد
يمكنه ــ لو أعطيناه الفرصة ــ أن يستعيد
الشَّبَه الإلهي فينا الذي شوَّهناه
وطمسناه بالخطية، وبالتالي فهو يُعيد
توضيح الصورة التي خُلِق عليها الإنسان،
فهو يقول:
[لكي
يُجدِّد الرب حياة الإنسان، اتخذ تدبير
التجسُّد... وذلك لكي يُظهر هو أيضاً شبه
دخول آدم في جسد، ولكي يكون فيه ما كُتب
منذ البدء، أنه على صورة الله ومثاله.]([1])
فرؤية
الإنسان لصورة الله (في المسيح) استعادت له
ما فقده. فعندما صار كلمة الله جسداً ثبَّت
كُلاًّ من الصورة والشبه، لأن فيه ظهرت
صورة الله واستعاد الشبه بجعل الإنسان
مُشابهاً لله.
حقًّا
لقد شوَّه الإنسان الجمال الإلهي الذي
فيه، ولكن روح الله الذي حلَّ فيه منذ
معموديته يعمل كل يوم على استرجاعه بنعمة
المسيح، فالقديس كيرلس الكبير يقول:
[يستحيل
أن نسترجع جمالنا الأصلي منذ أن سقطنا منه
بمعصية الإنسان الأول إلاَّ بتكميلنا
للشركة والاتحاد بالله غير المُعبَّر
عنهما. والاتحاد بالله لا يمكن أن
يُحقِّقه الإنسان إلاَّ بالشركة في الروح
القدس الذي يغرس فينا تدريجياً تقديسه
الخاص، فيُعيد تشكيل الطبيعة التي خضعت
للفساد حسب حياته هو. وهكذا يسترد الروح
لله وللتشبُّه بالله ما سبق أن تجرَّد من
المجد. فصورة الآب الكاملة هي الابن،
والشبه الطبيعي للابن هو الروح، وبالتالي
فإن الروح إذ يُعيد تشكيل نفوس الناس ينقش
فيهم شبه الله ويختم فيهم حضور جوهره
الفائق مرة أخرى.]([2])
والقديس
دوروثيئوس يقول:
[عندما
خلق الله الإنسان وضعه في الفردوس وزيَّنه
بكل فضيلة، مع وصية عدم الأكل من الشجرة...
فظل متمتِّعاً بالفردوس، في الصلاة، في
الرؤيا، في كل مجد وكرامة، وله حواس صحيحة
وكيان في نفس الحالة الطبيعية التي خُلِق
عليها على صورة الله، أي خالداً وسيِّداً
على ذاته ومُزيَّناً بكل فضيلة. ولكنه لما
تعدَّى وصية عدم الأكل من الشجرة، حينئذ
طُرِد من الفردوس، وسقط من حالته الطبيعية
إلى حالة مضادة للطبيعة، وهكذا بَقِيَ في
الخطية ومحبة المجد (الباطل) ومحبة مُتَع
هذا الدهر والأهواء الأخرى، فسادت عليه
وصار عبداً لها بالتعدِّي.
ثم
أخذ الرب يسوع المسيح طبيعتنا وقوام
تكويننا، فصار بمثابة آدم جديد في صورة
الله الذي خلق آدم الأول. فجدَّد طبيعتنا
وصحَّح حواسنا مرة أخرى كما كانت منذ
البدء!]([3])
والقديس
أثناسيوس يصف عمل الكلمة الإلهي في تجديد
صورة الله فينا التي شوَّهتها الخطية
بقوله:
[الملك
الأرضي لا يسمح للأراضي التي أسَّسها أن
تصير بين أيادٍ أخرى وخاضعة لحكام آخرين،
ولكنه يبعث برسائل وأصدقاء، وإن كان
ضرورياً يزورها شخصياً لكي يربحها بحضوره
بدلاً من أن يسمح لعمله أن يتحطَّم. فكم
بالأكثر يكون الله طويل الأناة معتنياً
بخليقته حتى لا تضل بعيداً عنه إلى خدمة
الذين هم لا شيء، ولاسيما إن كان مثل هذا
الخطأ قد يعني هلاكاً كليًّا لهم، ولأنه
ليس من الصواب أن يهلك أولئك الذين شاركوه
مرةً في صورته!
فما
الذي كان يمكن أن يعمله الله سوى تجديد
صورته في البشر لكيما من خلالها يأتون
مرةً أخرى إلى معرفته؟ بل كيف كان يمكن أن
يتم ذلك إن لم يأتِ صورة الله ذاته:
مخلِّصنا يسوع المسيح؟ فالبشر لا يمكنهم
أن يفعلوا ذلك لأنهم جُبلوا بحسب صورة
الله فحسب، ولا الملائكة لأنهم ليسوا
صوراً لله. أما الابن ــ الذي هو وحده صورة
الآب ــ فهو وحده الذي أمكنه أن يُعيد خلقة
البشر المخلوقين أصلاً حسب صورة الله.]([4])
قيل
عن الكلمة المتجسِّد: «ورأينا مجده، مجداً
كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمةً وحقاً» (يو
14:1)، والقديس بولس يُخبر المؤمنين أنهم
تغيَّروا إلى نفس الصورة التي يرونها: «ونحن
جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما
في مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها» (2كو
18:3). والرب يسوع يقول علانية: «الذي رآني
فقد رأى الآب» (يو 9:14). فإن كان الإنسان
صورة الله، فهو أمر حقيقي بدرجة أعظم
سموًّا وتفوقاً في شخص المسيح الذي تحمل
حياته وشخصيته وأعماله كلها ختم المصادقة
الإلهية: «هذا هو ابني الحبيب الذي به
سُرِرتُ» (مت 17:3، مر 7:9)، «يسوع الناصري
رجلٌ قد تبرهن لكم من قِبَل الله بقوات
وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم» (أع
22:2)، وهو قد «تعيَّن ابن الله بقوة من جهة
روح القداسة بالقيامة من الأموات.» (رو 4:1)
المسيح
هو صورة الله الحقيقية، ولكي يُتمِّم
خلاصنا جاء في شبه جسد آدم الخاطئ ودان
الخطية في الجسد (رو 3:8) «آخذاً صورة عبد،
صائراً في شبه الناس» (في 7:2)، «مِن ثمَّ
كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء» (عب 17:2).
فيوجد هنا عنصران متضادان ظاهرياً، لأن
الأصل ينبغي أن يكون مثل الشَّبَه؛ فآدم
خُلِق على شبه صورة الله، أما المسيح فهو
النموذج لصورة الله الأصلية. فكما أن آدم
حمل صورة الله، ومع ذلك عاش حياة خاطئة؛
هكذا فإن المسيح حمل صورة الإنسان، ولكنه
عاش حياة بلا خطية (عب 15:4).
ولكن
يجب ملاحظة أنه في الحقيقة لا توجد هنا
مفارقة أو تناقُض ظاهري كما في حالة آدم،
لأنه حتى آدم الساقط لا يزال يحمل الصورة
الإلهية، والمسيح القدوس «الذي لم يفعل
خطية ولا وُجد في فمه مكر» (1بط 22:2) هو الذي
يُعيد الطبيعة البشرية إلى التوافُق مع
الصورة الأصلية. وبتعبير آخر، المسيح هو
إنسان كامل في حين أن آدم الساقط إنسان
ناقص. كما ينبغي ملاحظة أن المسيح حمل شبه
جسد الخطية، وذلك فقط لكي يُتمِّم عملية
الخلاص. لقد صار إنساناً لكي يموت لأجل
الإنسان. أخذ شبه جسد الخطية، لا لكي يكون
خاطئاً، بل لكي يعيش الحياة التي على
الخاطئ أن يعيشها! ليُقدِّم نفسه ضحية
برٍّ بدلاً من خطية الخاطئ، ولكي يُجدِّد
الخاطئ ليكون على شبه الله. فالمسيح، صورة
الله الحقيقية، صار في شبه الناس حتى
يُعيد الإنسان بالكلية وبالحق إلى شبه
الله.
وفي
نهاية الزمن عندما يأتي المسيح في هيئته
البشرية المُمجَّدة، سيظهر أنه يُعبِّر
مباشرةً عن صورة الله. وإن كان في أيام
حياته الأرضية قد لَبـِسَ صورة عبد، تلك
التي هي مخلوقة على صورة الله؛ فإن ذلك كان
يرتبط مباشرة بعملية تجديد هذه الصورة،
ولكنها كانت تُخفي مجده من الذين لا
يريدون أن يؤمنوا أو يتوبوا، الذين
يقاومون استنارة الروح القدس.
المسيحي
هو الإنسان الذي بالتوبة والإيمان يصير
بالروح القدس متمثِّلاً بشخص المسيح الذي
مات وقام لأجله. فهو ميت والمسيح هو الذي
يحيا فيه: «مع المسيح صُلِبتُ، فأحيا لا
أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن
في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان
ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي.» (غل
20:2)
وهكذا
فإننا عندما نقوم في اليوم الأخير «سنلبس
صورة السماوي» (1كو 49:15). لأن الرب «سيُغيِّر
شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده»
(في 21:3). فنحن «نعلم أنه إذا أُظهِرَ نكون
مثله لأننا سنراه كما هو» (1يو 2:3). ففي تلك
الخليقة الجديدة سيتحقق هدف الله الأصلي
من خلقتنا على صورته ومثاله، تحقيقاً في
ملء كماله ومجده عندما يحمل مفديُّو شعب
الله الجديد صورة ربهم ورأسهم، ذاك الذي
حمل صورة الإنسان لأجلهم!
|