من تاريخ كنيستنا
|
|
|
بعد ثلاثة وأربعين يوماً على انتقال البابا يوأنس التاسع، استدعى مُقدِّمو الشعب الأساقفة إلى الدار البطريركية لإقامة بطريرك جديد. وورد في كتاب ”تاريخ البطاركة“ أنَّ القديس أنبا برسوم العريان تنبَّأ قبل نياحته بتكريس راهب عابد بدير البغل بجبل طُره (جنوب القاهرة)، يُدعَى ”بنيامين المصوِّر (أي الرسَّام)“ من أهالي ”الدميقراط“ أو ”الدبقراط“، وهي ضيعة بناحية المحاميد مركز إسنا غرب النيل.
? فلما اجتمع الآباء الأساقفة ومُقدِّمو الشعب، وقع اختيارهم على الراهب بنيامين، ووضع الأساقفة الأيادي على رأسه، وأقاموه بطريركاً في 15 بشنس سنة 1043 للشهداء الموافق 10 مايو سنة 1327م، باسم البابا بنيامين الثاني البطريرك الثاني والثمانين. وكان ذلك في أواخر مُلك ”الملك الناصر“.
اضطهاد المسيحيين في عصره:
على أنه لم يكد يتسلَّم مهام حَبْريته الرعوية حتى هبَّت ثورة عارمة أثارها الوالي ”شرف الدين بن التاج“، تعذَّب على يديه الأساقفة والرهبان والراهبات، وأُهينت النساء المسيحيات وأولادهن.
لكن سرعان ما مات ”شرف الدين“ هذا بعد سنة من ولايته. وزادت رحمة الله وضوحاً في تنصيب والٍ جديد كان حليماً مُنصفاً شديد العطف على الشعب كله، مسلمين ومسيحيين.
الأب البطريرك يهتم بتعمير الأديرة:
وفي هذا الهدوء بعد العاصفة، وجَّه الأنبا بنيامين الثاني عنايته إلى تعمير الأديرة البحرية الواقعة في برية شيهيت، وبدأ بتعمير دير القديس أنبا بيشوي وأنفق عليه، واستدعى إليه بعض الرهبان ليسكنوا فيه.
صُنع وتكريس الميرون المقدس:
استعدَّ البابا بنيامين الثاني لعمل الميرون المقدس أثناء الصوم الكبير. فجمع الآباء الأساقفة، وكان عددهم عشرين أسقفاً، وتوجَّه إلى دير القديس أنبا مقار وأجرى هناك طبخ الميرون المقدس سنة 1046ش / 1330م.
مناشدة ملك الحبشة والي مصر بشأن الأقباط:
في سنة 1329م (1045ش)، ولما بدأت تخف وطأة الاضطهاد على أقباط مصر، كتب ملك الحبشة إلى سلطان مصر يُخبره بأنه عَلِمَ بما حلَّ بالمسيحيين في مصر، وطلب منه أن يُعيد ما هُدِم من الكنائس وإلاَّ فإنه سيهدم جميع الجوامع القائمة في بلاده. ولما كان سلطان مصر الجديد واثقاً بنفسه، صرف رُسُل ملك الحبشة بدون جواب، غير أنه لم يَفُتْه مُصالحة الأقباط، فصرَّح لهم ببناء الكنائس التي هُدِمَت بناءً على طلبهم، ومثال ذلك كنيسة القديسة بربارة بمصر القديمة.
نياحة البابا بنيامين الثاني:
وبعد جهاد عظيم وتوالي المحن على شعب الكنيسة، تنيَّح البابا بنيامين الثاني يوم عيد الغطاس 11 طوبة سنة 1055 للشهداء الموافق 6 يناير سنة 1329م (هذا التاريخ قبل التعديل الغريغوري للتقويم الميلادي، والذي بموجبه صار الآن يوم 11 طوبة، وهو عيد الغطاس، يوافق 19 يناير).
وقد أقام البابا بنيامين الثاني على الكرسي الإسكندري مدة 11 سنة و7 شهور و26 يوماً، وكان ذلك في أيام الملك محمد بن قلاوون. وقد دُفِنَ في دير شهران بكل إكرام.
وقـد ظـلَّ الكـرسي الإسكندري مـن بعـده شاغـراً حوالي السنة، حـدث خلالها اضطرابات شديدة بحيث لم تتمكن الكنيسة من انتخاب بطريرك لها.
البطريرك الثالث والثمانون في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1340 - 1348م)
فاجتمع الآباء الأساقفة والأراخنة وظلوا يبحثون عمَّـن يصلح من الرهبان لأنْ يجلس على كرسي الإسكندرية ليصير رئيس أساقفة الكرازة المرقسية.
وقد كان يوجد في هذا الوقت راهب اسمه ”بطرس بن داود“ ترهَّب بدير أنبا مقار ثم اختير لدير شهران. ففكَّر بعضهم في ترشيحه لِمَا امتاز به من الوداعة وطيب الخُلُق والتقوى والعلم. فحاز اقتراحهم قبولاً لدى الجميع. فقدَّموه بطريركاً، ووضع الأساقفة على رأسه الأيادي في يوم 6 طوبة سنة 1056 للشهداء الموافق 2 يناير سنة 1340م، وذلك في أيـام الملك الناصـر ابـن قلاوون في المدة الثالثة من تولِّيه عرش المملكة.
بدء الاشتباكات بين المسلمين والمسيحيين:
وقد حدث في بداية بابويته أن بعض المسلمين في الريف اشتكوا رجلاً قبطياً لقاضي البلدة مدَّعين عليه بأن جدَّه كان مسلماً، فحكم عليه القاضي بضرورة اعتناقه الدين الإسلامي، ولما أَبَى أُلقِيَ في السجن. فقام الأقباط وأخرجوه منه ليلاً. فقرَّ قرار المسلمين في الصباح على إعدام كل قبطي.
فهرب الكثيرون من الأقباط، ولكن رغم ذلك أمكن القبض على الكثيرين منهم، فعذَّبوهم أشد العذاب، ثم اعتدوا على كنيسة القرية وسلبوا ذخائرها وبنـوا جامعاً أمامها، ولم يتركوا الأموات في قبورهم بل نبشوها وأحرقوا جثث الموتى.
ولما ارتبكت أحوال البلدة، قدَّم حاكمها تقريراً إلى سلطان مصر يشكو فيه من سوء تصرُّف قاضي البلدة مع الأقباط. كما قدَّم الأقباط من جهتهم شكوى أخرى إلى الأمير حسام بالقاهرة، يطلبون فيها إعادة بناء كنيستهم.
فاستقدموا القاضي لمحاكمته، وقام أحد المشايخ بالاعتراض على محاكمة قاضٍ مسلم من أجل اضطهاده المسيحيين، فلم يكترثوا بهذا الاعتراض وعزلوا القاضي (عن سلسلة تاريخ البابوات بطاركة الكرسي الإسكندري، الحلقة الثانية، جمع الشماس كامل صالح نخلة، 1952، صفحة 55).
عمل الميرون المقدس:
وفي أثناء فترة السكون وعدم الاضطراب في البلاد، جمع البابا بطرس الخامس الأساقفة وقام في أواخر الصوم الكبير بإعداد محتويات الميرون المقدس، وسافروا جميعاً إلى دير القديس أنبا مقار، وقاموا بعمل الميرون المقدس في يوم الخميس الكبير في شهر برمهات سنة 1058ش.
وقد حضر من الأساقفة اثنا عشر أسقفاً. وقد اشترك معهم القس الأسعد فرج الله بن القس قسيس كنيسة المعلَّقة، والشيخ المعلم يوحنا بن أخو البابا يوأنس الثامن البطريرك الثمانين.
? وقد جاء في كتاب رقم 101 طقس - صفحة 27 (بمكتبة الدار البطريركية)، أنَّ طبخ الميرون المقدس حدث مرة أخرى في عهد البابا بطرس الخامس في سنة 1062ش / 1346م.
عودة الاضطهاد:
وما كاد البابا بطرس الخامس يعود من رحلته في الأديرة حتى اندلعت نيران الاضطهاد على شعبه الوديع.
وابتدأ عامة المسلمين في التسلُّط على الأقباط، فهدموا الكثير من مساكنهم القائمة أمام مساكن المسلمين، وصاروا يتعقَّبونهم ويتعرضون لهم في الشوارع، ويُمزِّقون ملابسهم، ويضربونهم بكل قساوة، ويلقون عليهم النار المشتعلة؛ حتى اضطر الأقباط أن يختبئوا عن الأنظار، وأصبحوا في حالة يُرثَى لها، وظلوا ملازمين منازلهم مدة كبيرة.
كتاب قديم يشهد لمهارة الأقباط العاملين
في دواوين السلاطين:
وفي وسط هذه الأهوال، ظهرت كتب عديدة ضد الأقباط مثل: ”الكلمات المهمة في مباشرات أهل الذمة“ للأسناري، و”المذمَّة في استعمال أهل الذمة“ (دار الكتب المصرية، مخطوط رقم 1693)، و”منهاج الصواب في قبح استكتاب (أي استخدام) أهل الكتاب“, وبعد أن أعلن المؤلف سُخطه على الأقباط عموماً، أورد الأدلة التي قدَّمها المماليك تبريراً لاستخدامهم الأقباط في دواوينهم إذ يقولون:
? ”ولكن الضرورات تبيح المحظورات. ولولا ضرورتهم (أي الأقباط) ما قدَّمناهم، ولكن الحاجة هي إلى استكتابهم (أي استخدامهم ككُتَّاب في ديوان الأمير)“.
والواضح أن البعض كانوا يتخوَّفون من الأثر النفسي البعيد الذي كان للكاتب القبطي على شخص الأمير الذي يعمل في ديوانه. وقد قال مؤلف كتاب ”المنهاج“:
? ”ونجد الأمير مع ذلك يفوِّض إلى الكاتب القبطي أمره، ويُطلعه على سرِّه، ويرجع إلى قوله في شأن إقطاعه وغلمانه وحاشيته، حتى أنَّ "عدو الله" تكون حُرمته (أي احترامه وتبجيله) عند حاشية الأمير والفلاحين أكثر من حُرمة الأمير، إذ يُقبِّلون يده ويقفون أمامه إذا جلس، لا يُخالفه الأمير فيما يقول، ولا يفعل إلاَّ ما يُشير به“(1).
وهكذا وضح أن مهارة الأقباط الإدارية في دواوين الحكومة، كان يُصاحبها مهارتهم في الطب والعمارة.
? ولكن من المحزن أن استمرار الضغط والتضييق على الأقباط، جعل عدداً كبيراً من أعيان القبط يتنكَّرون لدينهم ويتحوَّلون عنه إلى الإسلام. ولكنهم استمروا بعد إسلامهم على ما كانوا عليه، إذ يقول المقريزي عن أسرة بني مكانس الذين أسلموا سنة 1279م: ”وبقاء نسلهم على النصرانية“. كما ظلَّت السجلاَّت الحكومية تُضيف كلمة ”قبطي“ بعد اسم الذين أسلموا حتى الجيل الثالث والجيل الرابع من إسلامهم(2).
آخر أيام البابا بطرس الخامس:
وبعد كل هذه الآلام والأهوال التي حلَّت بالشعب المسيحي في مصر، بدأت تسود فترة راحة وهدوء، إذ ظهرت رغبة السلطان قلاوون في استقرار الأمن وتنصيب العدالة مرة أخرى، فاستفاد منها الأقباط، وبدأوا يتنفَّسون شيئاً من الحرية من جديد.
وما أن اطمأن البابا بطرس الخامس على شعبه، حتى انتقل إلى عالم النور، فأسلم روحه الطاهرة يوم 14 أبيب سنة 1064 للشهداء الموافق 8 يوليو سنة 1348م، بعد أن تولَّى رعاية شعب المسيح مدة 8 سنوات و6 شهور و6 أيام. وكان ذلك في عهد السلطان حسن، ودُفِنَ في دير الحبش في مصر.
(يتبع)
(1) عن ”البيروقراطية القبطية في عصر المماليك“ بالإنجليزية، لريتشاردز، محاضرة ألقاها في ندوة ألفية القاهرة، صفحة 8؛ عن كتاب ”قصة الكنيسة القبطية“، الكتاب الثالث، تأليف: إيريس حبيب المصري، مطبعة الكرنك، صفحة 314. (2) المرجع السابق، صفحة 315.