”لستم أنتم المتكلِّمين
بل روح أبيكم الذي يتكلَّم فيكم“()
(مت 10: 16-23)
?lUl�
16:10 «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسْطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا
حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ».
«كغنم»:
prÒbata
من طبقة الحَمَل الوحيد.
إرسالية المسيح من جهته هو «أنا أُرسلكم»: ”™gè
= أنا“.
إرسالية فاقدة كل أدوات التسليح والدفاع والنقمة! كغنم بلا أنياب، بلا قرن
ولا ظلف، والذئاب من حولها تعيش وتتربَّص. والمسيح يقولها وسط ذئاب
™n mšsJ lÚkwn
ليُبيِّن مدى الخطورة المحيطة. والآن والحال كذلك لم تعد فرصة، أي فرصة
للدفاع عن الذات، أو استخدام الهجوم أو المقاومة أو حتى الاستفزاز. فانتبهوا
لأن عينكم على الخروف الضال وعين الذئاب عليه بآن واحد! واستدراج الخروف
الضال إلى الحظيرة كم يحتاج إلى حكمة لمخاتلة الذئب وإلى بساطة تناسب بساطة
الحمام. إنه صراع متبادل على فريسة واحدة ولا سبيل إليها إلاَّ بالحكمة
والبساطة، أمَّا استخدام القرن والناب فهذه ليست من وظيفتكم. الحيَّة قيل
عنها قديماً إنها ذات مكر: «وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها
الرب الإله» (تك 1:3). وبولس الرسول يؤمِّن على هذا القول: «ولكنني أخاف أنه
كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح»
(2كو 3:11). ولكن القديس بولس نفسه استخدم مكر الحية ليُخلِّص نفساً من
الهلاك، وهكذا تقمَّص مكر الحية ليسحق رأسها بمكره هو: «أنا لم أثقِّل عليكم
لكن إذ كنت محتالاً أخذتكم بمكر» (2كو 16:12). وهنا يود المسيح لتلاميذه أن
يكون لهم مكر الحية في استخلاص الحمل من فم الذئب، ولكن ليس في شراسة القوة
بل في بساطة الحمام. وسوف نعرف من باقي الوصايا أنه إن جدَّ الجد ورُفع السيف
فلا مقاومة البتة بل كحمامة وديعة تحني رأسها: «وسَيُسْلِم الأخ أخاه إلى
الموت.» (مت 21:10)
ولكن كلام المسيح يعود أيضاً على سلوك التلاميذ أنفسهم بالنسبة لحياتهم،
فالمطلوب بحسب فكر المسيح أن يكون للكارزين وعي يتسم بالحكمة والبساطة معاً
وبآن واحد، وذلك في مواجهة الأخطار المحيطة بهم. وأعظم توجيه يمكن أن نستخلصه
من كلام المسيح هو الالتجاء إلى الروح القدس فوراً الذي سيكشف عنه المسيح في
الآية (19)، إذ معه تبلغ الحكمة والبساطة أوجها: «فلا تهتموا كيف أو بما
تتكلَّمون، لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلَّمون به. لأن لستم أنتم
المتكلِّمين بل روح أبيكم الذي يتكلَّم فيكم» (مت 10: 19و20). إلى هنا
نكون قد بلغنا ملجأ الحكمة والبساطة، حيث يبقى علينا أن نسلك بوداعة
واستقامة دون خوف ولا اضطراب حتى تخرج الشهادة بروح المسيح ونصرة الصليب
ولا يوجد ضدنا ما يمكن أن نُسأل عنه! «أجابه يسوع: أنا كلَّمت العالم علانية.
أنا علَّمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائماً، وفي الخفاء
لم أتكلَّم بشيء.» (يو 20:18)
17:10و18
«وَلكِنِ احْذَرُوا
مِنَ النَّاسِ، لأَنَّهُمْ
سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ،
وَفِي مَجَامِعِهِمْ
يَجْلِدُونَكُمْ. وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ
أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ».
وهكذا تظهر الآية السالفة ممهِّدة لهذه الآية، ففي الناس مَنْ هُم أشر من
الذئاب: «أنعم من الزبدة فمه وقلبه
قِتَال. ألين من الزيت كلماته وهي سيوف مسلولة» (مز 21:55). لقد صار هذا
الاصطلاح لغة الكنيسة في الحديث
عن غير المختارين وقدرتهم في تضليل أولادها: «ذئاب خاطفة».
ولكن هنا الخطر وارد على حياة الرسل، وقد جازوا هذه المواقف بجدارة. وسفر
الأعمال مليء بما عاناه الرسل، وخاصة بولس الرسول أكثر مَنْ انطبق عليه هذا
المثل، حيث مَثَلَ أمام مجمع وراء مجمع حتى ظفروا به وأسلموه كسَيِّدِهِ، بعد
أن أشبعوه جلداً وضرباً ورجماً، وسِيقَ القديس بولس أمام الولاة والملوك
ودافع عن المسيح وعن إيمانه وشهد في أعظم محافل روما القضائية، ونال بالنهاية
إكليل الشهادة. إن المسيح هنا في اعتقادنا لا يُحذِّر بل يُبشِّر، ولا يوعِّي
هنا من خطر بل يسبق ويبارك عليه. ويكشف هذا المعنى قوله في النهاية: «من
أجلي شهادة لهم وللأمم». فمخاطر الذئاب الخاطفة وقسوة المجامع والحُكَّام
والأحكام جيدة وكلها تؤول إلى صميم خدمة الكرازة. وقد أكمل بها الرسل
رسالتهم، وبها انتشر الإيمان أكثر من الخدمة والوعظ الهادئ. فما عرفه العالم
من المسيحية ودقائق الإيمان بها عن طريق المحاكمات والسجن والضرب والقتل
يُعتبر إنجيلاً كاملاً. وأصبحت هذه المواقف الصعبة دروساً في صميم الإيمان
المسيحي، بل ومصدراً للكرازة وإذاعة الإيمان، وعندنا محاكمة القديس والشماس
استفانوس نعتبرها بداية إذاعة الإيمان المسيحي الحقيقي في وسط الشعب اليهودي
وللفرِّيسيين أنفسهم، الذين قاموا بالاضطهاد والتعذيب والقتل. فمحاكمة وتعذيب
القديس استفانوس وهو مجرَّد شماس كان درساً إلهياً بمعنى الكلمة لفريسي عنيد
وأشد مضطهد للكنيسة ظهر في العصر الأول، الذي روَّع الكنيسة وأرعب الرسل
وشتَّتهم وشتَّت المؤمنين ونكَّل بهم رجالاً ونساءً. ولكن كانت النتيجة أنه
هو الذي التقط الإيمان الصحيح وأصبح جاهزاً للدعوة العليا من السماء من الرب
الروح نفسه! بل وأثناء سجن القديس بولس بعد ذلك ودفاعه المتواصل عن نفسه كان
أهم موضوع يعرضه على الحكَّام والملوك هو كيفية اضطهاده للمسيحيين وما نشأ عن
ذلك من إيمانه هو. وهكذا وإلى الآن فبذرة محاكمة استفانوس هي رأس مال الكنيسة
لاهوتياً وتاريخياً وتعليمياً. أمَّا النعمة والحكمة والإلهام الذي دافع به
استفانوس عن المسيح والصليب أمام السنهدرين وضد مضطهدي الكنيسة فكانت أقوى ما
سمعنا عن الإيمان المسيحي حتى اليوم. وهكذا وعد المسيح وحقَّق الوعد!!
والكرازة والرسولية والإرساليات تسير!! (انظر دفاع
القديس استفانوس في كتاب شرح
أعمال الرسل صفحة 327 وما يليها).
19:10و20
«فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ،
لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، لأَنْ
لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي
يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ».
هنا رسالة خاصة بالقبض والسجن والمحاكمة: وكأنما يصوِّر المسيح تاريخ الرسل
والرسالة بفيديو يعطي الصورة الكاملة المسبقة بكل مواقفها ومخاطرها،
ويحوِّلها إلى قصة شيقة قبل أن تكون واقعة تعذيب ومــوت وسفر! ويلاحظ أن
اتجاه المسيح ذو الشعبتين: ”لا تهتموا لا كيف
pîj
ولا بما
t…
(How & What)
تدافعون“، فهنا المحامي جاهز وقد درس القضية وأعدَّ المذكرات والدفاع واستخدم
كل وسائل تعجيز المحقِّق والقاضي والحاكم، ورتَّب بنود موجبات البراءة
لموكِّله. والبراءة الكاملة دون نقض هي طلباته التي يُلزم بها المحقِّق
والقاضي. اسمع أقوال التعجيز التي استخلصها القديس بولس بروح الله من فم
الحاكم والملك عنوة مما أذهل الشهود والسامعين والمحلفين والقضاة: فقال للملك
أغريباس وهو يستمع إلى مراحل قضية القديس بولس التي تزاحمت وملأت دوسيهاً
بأكمله، والقديس بولس لا يكف عن الدفاع ومراوغة الملك وملاطفته حتى استدرجه
للإيمان:
+ «لأنه من جهة هذه الأمور، عالِمٌ الملك الذي أُكلِّمه جهاراً، إذ أنا لست
أُصدِّق أن يَخْفَى عليه شيء من ذلك، لأن هذا لم يُفعل في زاوية (بل أمام
محاكم). أتؤمن أيها الملك أغريباس بالأنبياء؟ أنا أعلم أنك تؤمن. فقال
أغريباس لبولس: بقليل تُقنعني أن أصير مسيحيًّا. فقال بولس: كنت أُصلِّي إلى
الله أنه بقليل وبكثير، ليس أنت فقط، بل أيضاً جميع الذين يسمعونني اليوم
يصيرون هكذا كما أنا، ما خلا هذه القيود.» (أع 26: 26-29)
نعم، فقد صدق القديس بولس في تعليمه حينما قال: «لنعرف الأشياء الموهوبة لنا
من الله التي نتكلَّم بها أيضاً، لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما
يُعلِّمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات» (1كو 2: 12و13). ويعرِّف
القديس لوقا هذا الموقف بقوله: «أعطيكم فماً وحكمة.» (لو 15:21)
والمعروف والمؤكَّد أن في محاكمات وتعذيبات الرسل والمسيحيين أن الذي كان
يُحاكَم هو بالفعل المسيح، لذلك تكفَّل المسيح بالدفاع عن حق، لأن القضية
قضيته بالدرجة الأُولى، فهو المتهم وهو المسئول عن الاتهام! ثم تأتي التعاذيب
والآلام، فقطعاً كان يشترك فيها المسيح بأكثر من النصف أو كقول أحد الإخوة:
لم أكن أحس بالضرب بكعب البندقية الذي كان يصوَّب إلى ركبي وظهري حتى ظننت
أنهم طحنوا عظمي، فبعد أن وصلتُ أمام الضابط قمتُ واقفاً أتحسَّس شيئاً من
الكسر فلم أجد ولا أثر لكدمة واحدة!! فأعادوا الضرب!!
والقديس بولس ينقل لنا خبرة شاول من السماء عن كيف يُضرب المسيح حينما يُضرب
المسيحي: «شاول شاول لماذا تضطهدني؟!» (أع 4:9)، «أمَّا هم فذهبوا فرحين من
أمام المجمع لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه.» (أع 41:5)
21:10و22
«وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ
الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ، وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ
مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى
الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ».
هنا بغضة الأقربين للإنسان الذي يشهد للمسيح خوفاً من العار والفضيحة، كيف
يصير
أخوهم مسيحياً، فالعار الذي يلحق
بالعائلة لا يطيق أن يتصوَّره الأهل، فيشتركون لا في التسليم للموت
وحسب بل ويرتكبون الموت بأيديهم. سمعنا عن قتل الأُم ورأينا كيف تتضافر جهود
كبيرة ومسئولة لتسليم أخت بكل تدبير ممكن أن يكون. ولكن رأينا كيف ينقذ
المسيح ابنته من أيديهم نهاراً جهاراً، لا في زمان مضى بل في هذه الأيام.
فالخوف والاستهتار بالاسم يبلغ حد الخيانة والبيع المجاني. سمعنا عن أخ مؤمن
حبسه أهله توطئة لإغراقه في النهر، وإذا في نصف الليل جاء العريس المنقذ وفتح
له الباب ودفعه قائلاً: اهرب لحياتك. يخطِّطون ويسلِّمون بلا رحمة وأب الرحمة
يفكّ ويطلق السراح. قصص ألوف ومئات الألوف نصفها مفزع في كيف تصنع البغضة،
والنصف الآخر مُذهل إذ كيف تصنع المحبة. والبغضة تسرح وتمتد لا تعرف أخاً أو
أباً أو أمًّا لأن اسم المسيح لا يُطاق، كفيل أن يزلزل العلاقات ويبدِّد كل
أثر لا للمحبة ولا للصداقة ولا للرحمة وحسب، بل وللإنسانية. فما يعمله ذئب
أرحم مما يعمله أخ أو أب أو عم!! وكأن البشرية كلها ورثت من حنّان وقيافا
جنون الحقد والتشفِّي عندما ذهبا ليُعاينا الصليب ليطمئنا أنه قد ذُبح
بالتمام ومات؛ فاطمأنَّا، ولكنه قام!!
وقول المسيح لا يزال يُردَّد في أرجاء الكنيسة حتى اليوم: «وتكونون مُبغضين
من الجميع من أجل اسمي. ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص» (مت 22:10).
يصبر على البغضة القاتلة بالأمانة للاسم وباستعداد الموت، فهذا يخلص!
23:10
«وَمَتَى طَرَدُوكُمْ في هذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى.
فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ
حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ».
شرح هذه الآية أخذ من العلماء كل مأخذ، وأعلنوا أن حلّ هذه المعضلة غائب
تماماً من أمام عيونهم، وهذا صحيح للغاية، لأنه لا يوجد لها حلّ، إذ أن
المسيح سبق وحدَّد أن مجيئه لا يمكن أن يُحسب حسابه زمنياً، أو على حوادث
زمنية أو في محيط قدرة الإنسان في قياسات الأزمنة والأوقات وتحديد مجيئه بأي
حال من الأحوال. والواقع الذي يتكلَّم أمام أعيننا اليوم هو أن مدن إسرائيل،
ربما كلها، أبعد ما يمكن عن حتى البدء بأن تقبل كارزين باسم المسيح. فإسرائيل
تحت اللعنة إلى اليوم، ولم يحدث أن عَبَرَ الرسل كل مدنها لا أيام المسيح ولا
بعده وحتى اليوم. إذن، فقول المسيح هنا هو صادق وسيستمر صادقاً حتى يجيء
المسيح ليعلن أن إسرائيل لا تزال بعيدة عن الإيمان. لأن وعد المسيح هو أن
مجيئه يتعلَّق برفض كل مدن إسرائيل له وليس قبوله، وهي إلى الآن لا رفضته ولا
قبلته! ويبدو أن لإسرائيل نصيباً في مجيء ابن الإنسان حيث يرفع عنها اللعن
لتقبله في يوم واحد:
+ «مَـنْ سمع مثل هذا؟ مَـنْ رأى مِثل هــذه؟ هــل تمخَضُ بلادٌ في يومٍ
واحدٍ. أو تولد أُمةٌ دفعةً واحدةً؟ فقد مخضت صهيون بل ولدت بنيها. هل أنا
أمخض ولا أُولِّدُ يقول الرب. أو أنا المولِّد هل أُغلِق الرحمَ قال إلهكِ؟
افرحوا مع أُورشليم وابتهجوا معها يا جميع محبيها. افرحوا معها فرحاً يا جميع
النائحين عليها لكي ترضعوا وتشبعوا من ثديِ تعزياتها، لكي تعصروا وتتلذَّذوا
من درَّة (ضرع) مجدها. لأنه هكذا قال الرب، هأنذا أدير عليها سلاماً كنهرٍ
ومجد الأُمم كسيل جارف ...» (إش 66: 8-12)
وهكذا نرى مع العالِم جوندري أن بقية مدن إسرائيل ستنتظر خلاصها إلى أن يجيء
المسيح حقاً().
ونحن نضيف أيضاً: ألم يقل بولس الرسول: «البقية ستخلُص» (رو 27:9).
وما هذه البقية إلاَّ تعبيراً عن بقية المدن وبقية الشعب وبقية اليهود في
العالم!!
الأب متى المسكين
|