من أقوال الآباء


«لا تجعلوا بيت أبي
بيت تجارة»
(يو 2: 16)(1)

الرب طهَّر الهيكل مرتين:
يرى القديس أوغسطينوس أنَّ الرب طهَّر الهيكل مرتين:

الأولى نحو بداية خدمته بعد معجزة قانا الجليل، والمذكورة في الأصحاح الثاني من إنجيل يوحنا هكذا: «وكان فصح اليهود قريباً، فصعد يسوع إلى أورشليم. ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصيارف جلوساً، فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل: الغنم والبقر، وألقى دراهم الصيارفة، وقلب موائدهم. وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة. فتذكَّر تلاميذه أنه مكتوبٌ: غيرة بيتك أكلتني» (يو 2: 14-17).

والثانية نحو نهاية خدمته إثر دخوله أورشليم في أحد الشعانين، والتي ذكرها إنجيل متى هكذا: «ودخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، وقال لهم: مكتوبٌ: بيتي بيت الصلاة يُدعَى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (مت 21: 13،12).

? يقول القديس أوغسطينوس بهذا الصدد:

ذَكَرَ إنجيل يوحنا أنَّ الرب يسوع قال لدى تطهيره الهيكل: «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» (2: 16)، في حين أنَّ إنجيل متى ذَكَرَ أنه قال: «مكتوبٌ: بيتي بيت الصلاة يُدعَى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (21: 13). ولكن هذين القولَيْن لا يتعارضان، بل يُظهران أنَّ الرب طهَّر الهيكل مرتين. كما أن هذين التعبيرَيْن لا يُشيران إلى نفس المناسبة، بل يُشيران إلى أنَّ المرة الأولى كانت عند بداية خدمته، والثانية عندما كان مُتجهاً نحو طريق آلامه. فقد استعمل في المرة الثانية كلمات عنيفة، ولكنه في بداية معجزاته استعمل توبيخاً لطيفاً.

وربما تسألون: لماذا فعل يسوع ذلك وأظهر سخطه ضد هؤلاء الناس، وهو ما لم يُظهره في أيِّ مكان آخر، ولا حتى عندما لعنوه وسخروا منه ودعوه أو قالوا عنه ”سامرياً“ وأنَّ ”به شيطان“؟ كما أنه لم يكتفِ بالكلام، بل أخذ سوطاً وطردهم به! كما أنه عندما انتهرهم لم يُظهروا سخطهم وغيظهم، لأنهم لم يجدوا في تصرُّفه أي خطأ، فقالوا له: «أيَّة آية تُرينا حتى تفعل هذا؟» (يو 2: 18). أَتَرَون حسدهم المُفرط؟ وعندما قال إنهم جعلوا الهيكل مغارةً للِّصوص، كان ذلك لكي يُظهر أن ما كان يُباع كان ناتجاً عن السرقة والجشع، وأنهم كانوا يزدادون غنًى من نهب الآخرين. ولكنه عندما سمَّى الهيكل ”بيت تجارة“، فذلك لكي يُظهر أن تجارتهم كان فيها عدم تقوى. ولماذا فعل ذلك؟ لأنه كان على وشك أن يشفي في السبت، وأموراً أخرى مشابهة قد تبدو لهم أنها تعدٍّ على الناموس. وبذلك فقد صحَّح أيَّ شكٍّ يعتريهم من جراء ذلك. لأن الذي أظهر غيرةً مثل هذه على بيت الله لن يُقاوم رب البيت الذي كان يُعبَد فيه.

لقد طهَّر يسوع الهيكل في وجود الجموع المحتشدة لأجل العيد رغم أن ذلك كان ينطوي على مخاطرة لحياته هو شخصياً. وهو لم يطرد الباعة فحسب؛ بل إنه قلب موائدهم وبَعثَرَ النقود على الأرض، لكي يفهموا أن ذاك الذي ألقى بحياته في الخطر بكل جراءة من أجل توقير بيت الله لا يمكن أن يزدري بربِّ البيت. فلم يكن أمراً هيِّناً أن يُعرِّض نفسه للغيظ من التجَّار، وأن يُثير على نفسه فوضى الباعة الممتلئين بالوحشية، وذلك بإهانتهم وإصابتهم بالخسائر. وقد أثبت لهم أن هذا ليس هو تصرُّف إنسان مُرائي، بل ذاك الذي اختار التألُّم من أجل كرامة بيت الله!

كما أنه أظهر بكلامه وحدانيته المنسجمة مع الآب، فهو لم يَقُل: ”البيت المقدس“، بل ”بيت أبي“. ويُلاحَظ أنه لما سمَّاه ”أباً“ لم يغضبوا، لأنهم ظنُّوا أنه يتكلَّم عنه بصفة عامة كأب الجميع. ولكنه لما تكلَّم بوضوح أكثر لكي يؤسِّس فكرة مساواته للآب، أثار ذلك غضبهم. ولما قالوا له: «أيَّة آية تُرينا حتى تفعل هذا؟»، أظهروا جنونهم، لأنه هل توجد حاجة إلى معجزة لإيقاف الممارسات الشريرة وتخليص الهيكل من مثل هذا العار؟ وأَلَم تكن تلك الغيرة على بيت الله أعظم علامة على فضيلته؟ كما أن الذين كان لهم إدراك صائب تعلَّموا من ذلك: «فتذكَّر تلاميذه أنه مكتوبٌ: غيرة بيتك أكلتني» (يو 2: 17).

أما الآخرون فلم يتذكَّروا النبوَّة، بل طلبوا علامةً! وفي نفس الوقت، فقد حزنوا على أرباحهم التي فقدوها، وأرادوا أن يفحصوه ويتحدّوه بأن يُجري معجزة ثم يُحاكموه على ما حدث منه. ولكنه لم يُعْطِهم آية، لأنه في مناسبة أخرى عندما طلبوا منه آية، قال لهم: «جيلٌ شريـرٌ فاسقٌ يلتمس آية، ولا تُعطَى له آية إلاَّ آية يونان النبي» (مت 16: 4). وذلك بسبب قساوة قلوبهم المُفرطة.

فلننقض القديم لكي يُقيم الرب الجديد:

وكانت إجابة الرب لهم: «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه» (يو 2: 19). الكثير من أقواله لم تكن واضحة لسامعيه عندما نطق بها، ولكنها اتَّضحت لغيرهم بعد ذلك. ولماذا فعل ذلك؟ لأنه عندما تحقَّقت هذه النبوَّة، أثبت أنه رأى مُسبقاً الأحداث قبل وقوعها. فالإنجيلي (يوحنا) يقول: «فلما قام من الأموات، تذكَّر تلاميذه أنه قال هذا، فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع» (يو 2: 22). وعندما قال يسوع ذلك تحيَّر البعض فيما يعنيه كلامه، في حين أنَّ آخرين قالوا: «في ستٍّ وأربعين سنة بُنِيَ هذا الهيكل، أفأنت في ثلاثة أيام تُقيمه؟» (يو 2: 20). وقد قصدوا بذلك بناءه الأخير، لأن بناءه السابق تم في عشرين سنة. ولماذا لم يشرح الرب هذه الأُحجية قائلاً: ”أنا لا أتكلَّم عن هذا الهيكل بل عن جسدي“. ثم فسَّرها الإنجيلي بعد ذلك، لأنهم ما كانوا سيقبلون شرحه. فإذا كان تلاميذه لم يفهموا حينئذ ما قاله، فكم بالحري الجموع؟! إنه لم يُعطِهم العلامة التي طلبوها لأنه بدا لهم أنه يقول أمراً لا يمكن تصديقه، حتى أنهم لم يُواصلوا الاستفسار منه بل استخفُّوا بكلامه باعتباره أمراً مستحيلاً.

? وفي هذا الصدد يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

إنهم جسدانيون ولا يعرفون إلاَّ أمور الجسد، أما هو فكان يتكلَّم روحياً. ثم إنه مَن ذا الذي أمكنه أن يُدرك أي هيكل كان يتكلَّم عنه؟ فقد أوضح الإنجيلي ذلك بقوله: «أما هو فكان يقول عن هيكل جسده» (يو 2: 21). فمن الواضح لنا أنَّ الرب مات ثم قام بعد ثلاثة أيام، وإنْ كان ذلك قد أُخفِيَ عن اليهود حينئذ. لأنه هكذا: «وَضَعَ نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب، لذلك رفَّعه الله أيضاً وأعطاه الاسم الذي هو فوق كل اسم» (في 2: 9،8 - حسب النص).

ما هو الذي كان يُباع في الهيكل؟

? وفي شرحه للتطهير الأول للهيكل، يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

ما هو الذي كان يبيعه هؤلاء الناس؟ هو ما كان الناس يحتاجون لتقديمه ذبائح في ذلك الزمان. لأنكم تعلمون، يا أحبائي، أنَّ تلك الذبائح كان يجب أن يُقدِّمها الناس بسبب ميولهم الجسدانية وقلوبهم الحجرية، ذبائح كانوا يُقدِّمونها لكي تحفظهم من السقوط في الوثنية. فكانوا يُقدِّمون ذبائح من الثيران والغنم والحمام. فكان الجميع يعتقدون أن هذه ليست خطيئة عظيمة أن يبيعوا في الهيكل ما يُقدَّم كذبائح في الهيكل، ومع ذلك فقد صنع (الرب يسوع) سوطاً من حبال وطردهم من هيكل الله، لأن كل إنسان يُضفِّر حبلاً لنفسه في خطاياه. والنبي يقول: «ويلٌ للجاذبين خطاياهم كما بحبل طويل، والآثام كما بالسير الجلدي» (إش 5: 18 - سبعينية). ومَن هو الذي يجعل الحبل طويلاً؟ الذي يُضيف خطايا إلى خطايا، وذلك عندما يضم الخطايا التي ارتكبها إلى خطايا أخرى. فإذا ارتكب أحد خطيئة السرقة مثلاً، ولكي لا يكتشف أحد ذلك يلجأ إلى أحد المُنجِّمين أو السَّحَرَة، وبذلك يضم خطيئة إلى أخرى.

ومَن هم الباعة؟

الحبل يكبر، فخَف من الحبل. فجيدٌ لك أن تُصحِّح حياتك هنا عندما تُجلَد به حتى لا يُقال في النهاية: «اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية» (مت 22: 13)، لأن «الشريـر تـأخذه آثامه وبحبال خطيته يُمسَك» (أم 5: 22).

وإذا بحثنا في المعنى الرمزي السرِّي، فمَن هم الذين يبيعون الثيران والغنم والحمام؟ هم الذين يبحثون عن منفعتهم الشخصية في الكنيسة وليس ما هو للمسيح: «إذ الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح» (في 2: 21). إن الذين لا يريدون أن يُفتَدوا يكون لهم كل شيء للبيع. لا يريدون أن يُشتَروا بل أن يبيعوا. فجيدٌ لهم أن يُفتَدوا بدم المسيح لكي يحصلوا على سلام المسيح. أليس كل شيء في هذا العالم وقتي وعابر وقبض الريح؟ فويلٌ للذين يتعلَّقون بالأمور العابرة لأنهم سيعبرون معها!

لقد أراد سيمون الساحر أن يشتري موهبة الروح القدس لأنه أراد أن يبيعها (انظر أع 8: 18-23). فقد ظنَّ أن الرسل تجَّار مثل الذين طردهم الرب من الهيكل. فليحذَر أمثاله من جلدات السياط، وليأتوا حيث يُعطَى الروح القدس كهبة مجانية، أي نعمة. وعندما يتألمون بسبب آثامهم، فليتحقَّقوا من أن الرب صنع حبالاً ليجلدهم، وأنه يُحذِّرهم لكي يتغيَّروا ولا يكونوا تجَّاراً.

فلتأكلنا الغيرة على بيت الله وبيت قلبنا:

«فتذكَّر تلاميذه أنه مكتوبٌ: غيرة بيتك أكلتني» (يو 2: 17). لأن الربَّ طرد الباعة من الهيكل بسبب غيرته على بيت الله. فلتأكل الغيرة على بيت الله كل مسيحي عضو في جسد المسيح.

ومَن هو الذي تأكله تلك الغيرة؟ هو الذي يُجاهد لأجل تصحيح كل ما يراه خطأ في بيت الله، بل يشتهي أن تتحسن أمور الكنيسة.

إن الحنطة لا تُدرَس إلاَّ في البيدر حتى تدخل الأهراء (أي المخازن) بعد أن يُفصَل التبن منها. وأنتم، إذا كنتم حنطة، لا تُدرَسوا إلاَّ في البيدر أمام المخزن حتى لا تلتقطكم الطيور قبل أن تتجمَّعوا في المخزن. لأن الطيور، أي القوات العُليا، إنما هي متأهِّبة لكي تخطف شيئاً من البيدر، وهي تخطف من هناك تلك التي دُرِسَت. ولذلك، فلتأكل الغيرة على بيت الله كل مسيحي، لأن بيتك ليس مُفضَّلاً على البيت الذي لك فيه خلاص أبدي!

وإن كنتَ تُجاهد حتى لا يحدث شرٌّ في بيتك؛ فإنَّ بيت الله الذي فيه يُعلَن لك خلاص وراحة لا تنتهي، أَفَلا يجب عليك أن تفعل ذلك بقدر إمكانك (أي تُجاهد) إذا رأيتَ فيه أي شر؟

اكبح جماح مَن يفعل شيئاً غير لائق في بيت الله ولا تسكت، وبذلك فأنت تُتمِّم الآية: «غيرة بيتك أكلتني». ولا تكفّ عن محاولة أن تربح أحداً للمسيح كما ربحك المسيح.

**************************************************************************************************

دير القديس أنبا مقار

بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:

21.130.153

دير القديس أنبا مقار

بنك كريدي أجريكول مصر - فرع النيل هيلتون

**************************************************************************************************