|
|
|
+ يُعتَبَر تجلِّي(1) ربنـا يسـوع المسيح - والذي تُعيِّد له كنيستنا القبطية في 13 مسرى(2) من كل عام - من أكبر محطات استعلان لاهوته على الأرض قبـل الصليب. ففيـه أَظْهَر الرب مجده أمام بطرس ويعقوب ويوحنا، الأمر الذي انطبع في مُخيِّلة بطرس الرسول طوال حياته، حتى أنـه ذَكَرَه في رسالته الثانية قُـرْب خَلْع مسكنه، كما أعلن له ربنا يسوع المسيح، إذ يقول: «لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: ”هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ“. وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ» (2بط 1: 16-18).
ولكن، لماذا التجلِّي؟
+ لمَّا أراد الرب يسوع أن يُسكِّن قلـوب تـلاميذه ويُشجِّعهم، لئلا يعثروا أو يتعثَّروا فيه أثناء الصليب، وأَظْهَر لهم: «... أَنَّـهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِـنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَـاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَـوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ» (مت 16: 21)، بل وقال لهم: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (مت 16: 24)؛ حينئذ «أَخَـذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ» (مت 17: 2،1)، ثم حدَّثهم مرَّةً ثانية عن آلامه (راجع مت 17: 22،12).
فحادثة التجلِّي حدثت وسط حـديث الـرب يسوع عن آلامه، حتى لا يَفْنَى إيمان تلاميذه في مرحلة آلامه.
+ على أنَّ التجلِّي في ذاتـه كان يُلمِّح إلى موت المسيح وقيامته. فظهور موسى وإيليا ليس ظهوراً عشوائياً لنبيَّيْن من الأنبياء. فموسى النبي مات ودفنه الله بنفسه، وفي هذا إشارة إلى أنَّ موت المسيح ليس ضعفاً بل كان بإرادة الآب. أما صعود إيليا النبي إلى السماء حيّاً، ففيه إشارة إلى أنَّ المسيح سيقوم من بين الأموات، ولن تُتْرَك نفسه في الهاوية، ولن يرى جسده وهو في القبر فساداً، بل وسيصعد إلى السماء، لذا قال بولس الرسول عن المسيح: «مَشْهُوداً لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ» (رو 3: 21). هذا ما قد وَضَحَ في ظهور موسى النبي الـذي يُشير للناموس، وإيليا النبي الذي يُشير للأنبياء.
+ ظهور موسى وإيليا بمجدٍ، فيه تلميح إلى أنَّ المسيح سيُمجِّد الآب، ويُمجِّده الآب عَبْر الصليب والقيامـة. وأمَّا أنهما تكلَّما معه عن خروجه الذي كان عتيداً أن يُكمِّله (لو 9: 31)، فهذا إشارة إلى أن موته سيكون خارج أورشليم، وكذلك إشارة إلى قيامته. وهذا ما يستحثنا به بولس الرسول لاقتفاء أَثَر الرب، إذ يقول: «فَلْنَخْرُجْ إِذاً إِلَيْـهِ خَـارِجَ الْمَحَلَّةِ حَـامِلِينَ عَارَهُ» (عب 13: 13).
على أننا نرى أنَّ ظهور موسى النبي نفسه هو إشارة إلى الخروج، فهو نبي الخروج الذي عمل الفصح ورشَّ الدم؛ أما إيليا فاجتاز من الأرض إلى السماء، وهو الذي أخرج إسرائيل من عبودية البَعْل من يد إيزابل.
ما هو نصيبنا من عيد التجلِّي؟
+ علينا أولاً أن نَعْلَم - كما يقول الأب متى المسكين - أننا مدعوُّون لحَمْل الصليب قبل أن نكون مدعوِّين لمجد القيامة.
وقد شدَّد المسيح كثيراً في كلامه على أنَّ مَن يريد أن يتبعه ينبغي أن يحمل صليبه أولاً. فطريقنا طويل، أيها الحبيب، وصليبنا ثقيل، وكثيراً ما نتعثَّر ونسقط ونقوم، وأمامنا الجلجثة بكلِّ أثقالها، والنور مُحتَجَب، والصليب مُرعب؛ ولذلك فمسيرتنا الروحية تستلزم تشجيعات وتعزيات لئلا نخور في الطريق.
+ إذاً، قيمة التجلِّي الروحية في أنه لمسة تشجيع للسائرين في دَرْب الجلجثة. فالتجلِّي هو عربون القيامة الذي به نجتاز كل خِفَّة ضيقتنا الوقتية، وهو مثالٌ للمجد العتيد أن يُستَعلَن فينا. وهذا المجد ليس مجداً مجرَّداً وحسب، بل هو بعينه مجد الابن الوحيد: «الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (في 3: 21).
+ صورة التجلِّي هي سندٌ لكلِّ قلب يجتاز عار الصليب، وهي عُصابة لكلِّ جنب مجروح من طَعْن الحربة، وضمادة لكلِّ يد مثقوبة من دقِّ المسمار.
السحابة النيِّرة التي تُظلِّل، هي نورٌ للعين إذا غطَّت الظلمةُ الأرضَ. والثلاث مظال، هي عـزاءٌ عـن منظر الثلاثة صلبان. وشهادة النبيَّيْن موسى وإيليا، هي سندٌ للقلب حال انفتاح فم اللِّصَّيْن بالتعيير والاستهزاء. وصوت الآب هنا هو ردٌّ على سكوته وانحجابه ساعة الصليب. وشهادة الآب بمسرته بالابن، تُوازِن صراخ الابن الذي قال: «إِلهِي إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (مت 27: 46).
ما هو التجلِّي بالنسبة لنا؟
+ التجلِّي هو لحظاتٌ من الأبدية، من المجد الأَسْنَى العظيم، فيها الصلاة مُستجابـة، والسماء مفتوحة، والقلب ينبض بالحب الإلهي. فيها الدموع مسكوبة بغزارة، والرب قريبٌ جـداً، وحضوره مُختَبَرٌ، والتعزيـة مُستمرة ومُتزايـدة، والملكوت مُسْتَعلَنٌ؛ ورغم أننا في الجسد، لكننا نعيش، ليس حسب الجسد، ولكن كأننا في الملكوت.
هي لحظاتٌ تكـون فيها الصـلاة حـارَّة، والتسبيح لذيذاً وخفيفاً، والاتضاع سهلاً، والأَتون ندًى بارداً، والإنجيل مفتوحاً، والروح يتكلَّم بسرِّ المسيح في القلب.
في التجلِّي، الآب يتكلَّم ويشهد للابن، والمسيح حـاضرٌ بمجده، والروح يشفع ويطبع فينا صورة المسيح، فننحصر ونمتلئ بالروح، وتجري مـن بطوننا أنهار ماءٍ حي، فنسير مـن قوَّةٍ إلى قوَّة، ويتصوَّر المسيح فينـا؛ فنتغيَّر إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجد (2كو 3: 18).
+ كل صليب نحتمله لأجل المسيح لابد أن يسبقه تجلٍّ وتعقبه قيامة. وكل تجلٍّ يجعلنا نفرح ونَنْعَم به، ونودُّ أن نبقى فيه، مثلما أراد بطرس الرسول: «يَـا رَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا!» (مت 17: 4). ولكن، يتحتَّم علينا أن نتوقَّع بأنَّ هناك صليباً قادماً لا محالة.
فموسى النبي بعدما اجتاز التجلِّي في حضور الرب على الجبل عندما استلم الشريعة، كانت الجلجثة بالنسبة له هي عندما رأى الشعب كله قد جنح إلى عبادة الأوثان. وكذا اسطفانوس عندما امتلأ بالروح، ورأوا وجهه كوجه ملاك؛ كانت تنتظره الجلجثة، حيث رُجِمَ بتهمة التجديف على الناموس.
أمَّا بولس الرسول فبعدما رُجِمَ (في لسترة)، صَعِدَ إلى السماء الثالثة، ورأى ما لم تَرَه عين إنسان، وما لم تسمع به أُذُن إنسان، وما لم يخطر على قلب بشر (1كو 2: 9). بل أيضاً يوحنا الرائي شاهَـدَ رؤيـاه في الجزيرة التي تُدعَى بَطْمُس، إذ كان منفيّاً من أجل كلمة الله ومن أجل شهادة يسوع المسيح.
+ التجلِّي ليست لـه مـواقيت، ولا يـأتي بمراقبة، ولا هو حالة مستمرة نبقى فيها دائماً. فـالروح يهبُّ حيثما يشاء وكيفما يشاء، وهـو لا يأتي إلينا بسبب استحقاقنا، ولا كنتيجة لجهادنا؛ بل هو عملٌ إلهي خالص، حيث تجرفنا النعمة في تيَّاراتها، ونَسْبَح في بحار الحبِّ الإلهي، وحينئذ ننحلُّ من حدود الزمان والمكان، ونقتطع - من وسط الآلام - وقتاً من الأبدية.
+ فإن أتتك فرصة التجلِّي، أيها الحبيب، فلا تُرْخِها؛ بل تمسَّك بها قَدْر ما تستطيع، فهي سَنَدُك في دَرْب الجلجثة.
(1) الكلمـة اليـونـانيـة ++++++++++++ = transfiguration = ”تغيُّر الشكل إلى حقيقته المختفيـة وراء الجسد“، والفعـل منهـا هـو ++++++++++، وقد وَرَدَ في حادثـة التجلِّي في (مت 17: 2؛ مر 9: 2). وكلمة ”التجلِّي“ تعني: استعلان حقيقة شخص المسيح أنه ابن الله الآتي إلى العالم، والذي أتى في الجسد، والذي سوف يتألَّم ويموت ويُدفَن، لكنه سيقوم من بين الأموات، ليُقيم كل البشرية معه: «مَن آمن واعتمد خَلَصَ» (مر 16: 16).
(2) يوافق 19 أغسطس، بحسب التقويم الميلادي الحالي.