ثانياً: فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (10: 11-25: 18) د - دور الكهنوت في الرعاية، وشريعة البقرة الحمراء (18: 1-19: 22) دور الكهنوت في الرعاية: لا شكَّ أن معجزة عصا هارون التي أفرخت في يوم وليلة بعد وضعها في خيمة الاجتماع أمام تابوت الشهادة في قدس الأقداس، دون باقي العِصِيّ الاثني عشر التي لجميع رؤساء أسباط إسرائيل التي وُضعت معها، لا شكَّ أنها كانت دليلاً قاطعاً على اختيار الله لهارون ليكون رئيس كهنة لبني إسرائيل، حتى لا يعود المتمرِّدون إلى الاحتجاج على كهنوته. ورغم هذه المعجزة العظيمة المبهرة التي أراد بها الرب أن يُعطي الشعب علامة يتذكَّرون بها تمرُّدهم على هارون فيكفُّون عن تذمُّرهم لكي لا يموتوا بسببه؛ فقد كلَّم بنو إسرائيل موسى قائلين: «إننا فنينا وهلكنا، قد هلكنا جميعاً. كل مَن اقترب إلى مسكن الرب يموت...» (عد 17: 12و13) مع أن الرب لم يكن يقصد من إعطائهم هذه المعجزة سوى أن يحميهم من مخاطر التذمُّر التي أدَّت إلى هلاك المتمردين. فهذه النبرة اليائسة إنما تدلُّ على عجزهم عن فهم مشيئة الله واستيعاب الدرس الذي أراد أن يُلقِّنه لهم. فما أبعدهم عمَّا ينبغي أن يشهد به كل مؤمن واثق في مراحم الله، فيتغنَّى مع المرنم قائلاً: + «أما أنا فالاقتراب إلى الله حسنٌ لي.» (مز 73: 28) + «ما أحلى مساكنك يا رب الجنود، تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب. قلبي وجسمي يهتفان بالإله الحي.» (مز 84: 1و2) ومع هذا فإن الرب لم يترك شعبه لمخاوفهم، بل نجده هنا يُطمئنهم ويُعرِّفهم حدودهم الآمنة، لكي لا يصيبهم ما أصاب غيرهم من المعاندين. التزامات الكهنة واللاويين وحدود مسئولياتهم: (عد 18: 1-7) + «وقال الرب لهارون: أنت وبنوك وبيت أبيك معك تحملون ذنب المَقْدِس. وأنت وبنوك تحملون ذنب كهنوتكم.» (عد 18: 1) لقد حدَّد الله من البداية أن يكون العمل في الكهنوت وفي خدمة خيمة الاجتماع منوط به الكهنة واللاويون، وظهر ذلك بوضوح في معجزة عصا هارون التي أفرخت. فلم يَعُدْ هناك خوف من حلول الرب في مسكنه وسط شعبه، طالما يلتزم كل واحد بحدود خدمته. فلكي يُطَمْئِن الله الشعبَ من جهة سكناه في وسطهم بعد أن أبدوا مخاوفهم من الهلاك بسبب الاقتراب من مسكن الرب مثلما حدث لقورح وداثان وأبيرام وجماعتهم؛ خاطب هارون بهذا القول إنه هو وبنوه وبيته هم الذين يحملون مسئولية كل الأخطاء المتعلقة ببيت الله وبالخدمة المقدسة، التي عبَّر عنها الوحي بقوله: ”ذنب المَقْدِس“، و”ذنب كهنوتكم“. فمقابل الكرامة التي نالوها في خدمة بيت المقدس وكهنوته، يحملون مسئولية أي تقصير في هذه الخدمة. ولقد سبق الرب وقال مثل هذا الكلام عن هارون حينما أمر موسى أن يصنع لهارون إكليلاً ويجعله على عمامته مكتوباً عليه ”قدس للرب“، فيكون على جبهة هارون «فيحمل هارون إثم الأقداس التي يُقدِّسها بنو إسرائيل.» (خر 28: 38) وما دام الرب قد أوكل إلى كهنته أن يحملوا ”ذنب المَقْدِس“ أو ”إثم الأقداس“، ويتحمَّلوا مسئوليات خدمتهم ”ذنب كهنوتهم“؛ فعلى شعبه أن يطمئن ويترك أمر هذه الخدمة لكهنته، وبالتالي يتركون جميع أمورهم ليد الرب. ويشير ذلك إلى حمل المسيح لخطايانا على الصليب لكي يفتدينا من موت الخطية باعتباره رئيس كهنة الخيرات العتيدة الذي «بعدما قُدِّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه» (عب 9: 28)، كما جاء في كتاب قوانين الرسل القديسين مُخاطباً كهنة العهد الجديد: [لأنكم تمثِّلون المسيح الرب. فكما أنه ”حَمَل خطايانا على الخشبة“ عند صلبه، البار من أجل الأَثـَمَة المستحقين للعقاب؛ هكذا أنتم أيضاً ينبغي أن تحسبوا خطايا الشعب أنها خطاياكم. لأنه قد قيل عن مخلِّصنا في إشعياء: «لأنه حمل خطايانا، وأحزاننا تحمَّلها» (إش 53: 4 حسب النص)، وأيضاً: «وهو حمل خطية كثيرين، وأُسلِمَ من أجل آثامنا» (إش 53: 12 حسب النص). فكما أنكم، هكذا، أمثلة للآخرين، كذلك ليكن المسيح مثالكم. وكما كان هو حاملاً أثقال الجميع، هكذا كونوا أنتم أيضاً للشعب الذي تحت رعايتكم. فلا ينبغي أن تتصوَّروا أن مهمة الأسقف سهلة أو أنها حِمْل خفيف.]( ) + «وأيضاً إخوتك سبط لاوي، سبط أبيك، قرِّبهم معك فيقترنوا بك ويُوَازروك وأنت وبنوك قدَّام خيمة الشهادة. فيحفظون حراستك وحراسة الخيمة كلها، ولكن إلى أمتعة القدس وإلى المذبح لا يقتربون لئلا يموتوا وأنتم جميعاً. يقترنون بك ويحفظون حراسة خيمة الاجتماع مع كل خدمة الخيمة. والأجنبي لا يقترب إليكم.» (عد 18: 2-4) لقد سبق الرب فعيَّن سبط لاوي لخدمة خيمة الاجتماع (عد 3: 6و7)، وخصَّ هارون وبنيه بالكهنوت. أما باقي عشائر اللاويين، فكان عملهم في خدمة الخيمة كشمامسة مساعدين للكهنة، يقترنون بهم ويؤازرونهم في كل ما قرَّره الرب لكل عشيرة من مسئوليات يقومون بها في خدمة مسكن الشهادة، أما دخول القدس وقدس الأقداس فلا يقتربون إليها لئلا يموتوا، لأن هذا هو من اختصاص الكهنة ورئيس الكهنة، بل إن عقوبة الموت تحلُّ ليس على اللاويين فقط بل وعلى الكهنة الذين يتساهلون في مسئوليتهم تجاه حراسة القدس وحراسة المذبح. لذلك عاد وأكَّد على هارون مسئوليته مع بنيه في حراسة القدس قائلاً: + «بل تحفظون أنتم حراسة القدس وحراسة المذبح لكي لا يكون أيضاً سخط على بني إسرائيل.» (عد 18: 5) فمتى لَزِمَ كل واحد حدوده، يرضى الله على شعبه ولا يعود يغضب عليهم ولا تتكرر مأساة قورح التي هلك فيها أُناس كثيرون بسبب تمرُّده. + «هأنذا قد أخذتُ إخوتكم اللاويين من بين بني إسرائيل عطية لكم، مُعْطَيْن للرب ليخدموا خدمة خيمة الاجتماع.» (عد 18: 6) لقد اختار الرب اللاويين وأفرزهم من بين بني إسرائيل ليكون الرب نصيبهم، وأعطاهم عطية لهارون وبنيه الكهنة ليساعدوهم في خدمة الرب، فينبغي عليهم أن يكونوا خاضعين ومطيعين لهم حتى تحل نعمة الرب ورضاه على الجماعة كلها. + «وأما أنت وبنوك معك فتحفظون كهنوتكم مع ما للمذبح وما هو داخل الحجاب وتخدمون خدمةً. عطيةً أعطيتُ كهنوتكم، والأجنبي الذي يقترب يُقتل.» (عد 18: 7) هنا تأكيد آخر لهارون وبينه على مسئولياتهم لحفظ كهنوتهم وكل ما يختص بالمذبح وكل ما هو داخل الحجاب حيث القدس وقدس الأقداس. فالكهنوت عطية مقدسة ونعمة خاصة من الرب لمختاريه. وقد أفرزهم لها وأعطاها لهم ليخدموا بها الشعب ويحملوا أثقاله ويُقدِّموا عنه الذبائح والقرابين، وألاَّ ينشغلوا أو يقتنوا شيئاً معها، فهي لهم كل شيء وأثمن من ميراث الأرض أو أي خدمة أخرى. ويعود الرب فيؤكِّد أن كل مَن ليس من بيت لاوي، فهو أجنبي عن خدمة الكهنوت. والذي يقترب إلى هذه الخدمة، فإنه مستوجب الموت ما دام غريباً عن سبط لاوي. الحقوق المستحقة للكهنة مقابل تفرُّغهم لخدمة الكهنوت: (عد 18: 8-20) لقد رتَّب الرب أن يكون سبط لاوي الذي منه الكهنة واللاويون مخصَّصين لخدمة الرب، فقد اختارهم الرب بدل كل بكر من بني إسرائيل، وجعلهم مفرزين ومُكرَّسين لخدمته حتى أنهم لكون الرب نصيبهم لم يُعطوا نصيباً في أرض الموعد، في الأراضي التي قُسِّمت بالقرعة. لذلك أوصى الرب أن ينالوا مقابل تفرُّغهم لخدمته هذه الحقوق المحددة لهم: + «وقال الرب لهارون: وهأنذا قد أعطيتك حراسة رفائعي مع جميع أقداس بني إسرائيل، لك أعطيتها حق المسحة ولبنيك فريضة دهرية. هذا يكون لك من قدس الأقداس من النار، كل قرابينهم مع كل تقدماتهم وكل ذبائح خطاياهم وكل ذبائح آثامهم التي يردُّونها لي. قدس الأقداس هي لك ولبنيك. في قدس الأقداس تأكلها، كل ذكر يأكلها، قدساً تكون لك.» (عد 18: 8-10) الرفائع جمع رفيعة، وهي الجزء الذي يُرفع من التقدمة أو الذبيحة ويوضع جانباً ليكون لله، وكل ما هو لله هو من نصيب الكهنة. وكل ما يُعطَى للكهنة كان مُعتَبَراً أنه قد أُعطِيَ للرب نفسه (انظر خر 29: 28). وجميع أقداس بني إسرائيل هي كل ما هو من حق الله من تقدمات أو ذبائح يُقدِّمها بنو إسرائيل، سواء كانت نذوراً تُقدَّم اختيارياً، أو ذبائح تُقدَّم إجبارياً. أما ”حق المسحة“، فإن الله قد أعطاهم هذه الأشياء كحق لمسحة كهنوتهم المقدس، فريضة دهرية ما دام الكهنوت اللاوي قائماً. وهذه الأشياء التي يستحقها الكهنة هي قدس أقداس لهم، أي أنها مخصصة لهم، ولا يأكلها سوى الكهنة وأولادهم الذكور في دار خيمة الاجتماع. أما قوله: «من النار كل قرابينهم»، أي أن الأجزاء المقررة للكهنة تؤخذ من الذبائح والتقدمات التي توقد أجزاء منها للرب على نار المذبح، مما يُقدِّمها الشعب للرب ردًّا وتكفيراً عن خطاياهم وآثامهم. أما قوله: «في قدس الأقداس تأكلها»، فليس المقصود هو قدس الأقداس، بل يعني به المكان الطاهر النقي، أي في دار خيمة الاجتماع. لأن قدس الأقداس لا يدخله إلاَّ رئيس الكهنة مرة واحدة في السنة، ولا يأكلها إلاَّ الذكور فقط من الكهنة وأولادهم. + «وهذه لك: الرفيعة من عطاياهم مع كل ترديدات بني إسرائيل، لك أعطيتها ولبنيك وبناتك معك فريضة دهرية. كل طاهر في بيتك يأكل منها. كل دسم الزيت وكل دسم المِسْطار والحنطة أبكارُهُنَّ التي يعطونها للرب، لك أعطيتها. أبكار كل ما في أرضهم التي يُقدِّمونها للرب، لك تكون، كل طاهر في بيتك يأكلها. كل مُحرَّم في إسرائيل يكون لك.» (عد 18: 11-14) لقد وهب الرب للكهنة كل ما يُقدَّم ويُرفع له من الذبائح والتقدمات، وهذا هو ما يُقصد من قوله: «الرفيعة من عطاياهم مع كل ترديدات بني إسرائيل، لك أعطيتها ولبنيك وبناتك معك». ولم يشترط على مَن يأكلها إلاَّ أن يكون طاهراً. ولكن يُلاحَظ هنا أنه سمح لبناته أيضاً أن يأكلوا منها؛ أما الرفائع المأخوذة من ذبائح الخطية والإثم التي توقد أجزاء منها للرب على نار المذبح فلا يأكل منها إلاَّ الكهنة وأولادهم من الذكور فقط. وهذا امتياز له مغزى يشير إلى أن خدمة الكهنوت كانت وما زالت محصورة في الرجال دون النساء، فحيث إن الكهنة وبنيهم هم الذين يحملون ذنب المقدس وذنب كهنوتهم، وبالتالي فعليهم أن يحسبوا خطايا الشعب وتقصيرهم من جهة كل ما يختص بحقوق الله ومقدَّساته على أنفسهم؛ لذلك صار لهم هذا الامتياز دون غيرهم أن يأكلوا من نصيب الرب الذي يُقدِّمه الشعب تكفيراً عن خطاياهم وآثامهم. وكذلك أعطاهم الرب كل نصيبه من أفضل ما يُقدِّمه الشعب من الزيت والمسطار (أول عصير الخمر الجديدة) والحنطة (أي القمح)، وكل باكورات المحاصيل والثمار، وكل محرَّم في إسرائيل (أي كل ما يفرزه الإنسان بتحريم وقَسَم على نفسه وعلى الآخرين ليكون للرب). كما أعطاهم الرب كل أبكار الناس والبهائم وذلك بقوله: + «كل فاتح رحم من كل جسد يُقدِّمونه للرب من الناس ومن البهائم، يكون لك؛ غير أنك تقبل فداء بـِكْر الإنسان وبـِكْر البهيمة النجسة تقبل فداءه. وفداؤه من ابن شهر تقبله حسب تقويمك فضة خمسة شواقل على شاقل القدس، هو عشرون جيرة. لكن بكر البقر أو بكر الضأن أو بكر المعز لا تقبل فداءه، إنه قدسٌ، بل ترُشُّ دمه على المذبح وتوقِد شحمه وقوداً رائحة سرور للرب. ولحمه يكون لك كصدر الترديد والساق اليُمنى، يكون لك. جميع رفائع الأقداس التي يرفعها بنو إسرائيل للرب، أعطيتها لك ولبنيك وبناتك معك حقاً دهرياً، ميثاق مِلح دهرياً أمام الرب لك ولزرعك معك. وقال الرب لهارون: لا تنال نصيباً في أرضهم، ولا يكون لك قِسْمٌ في وسطهم. أنا قِسْمك ونصيبك في وسط بني إسرائيل.» (عد 18: 15-20) سبق أن حدَّد الرب في سفر الخروج (13: 2و12و13) أن كل أبكار الناس وأبكار البهائم تُقدَّم للرب، وذلك تذكاراً لحادثة قتل أبكار المصريين وافتداء أبكار بني إسرائيل بدم خروف الفصح، إشارةً إلى دم المسيح ”بـِكْر كل خليقة“ الذي فدى البشرية كلها بدم صليبه. وهنا يُعطي الرب حقَّه من الأبكار للكهنة هكذا: أما أبكار الناس فقد أخذ الرب بدلاً منها اللاويين الذين يخدمون الرب. وإذا زاد عدد الأبكار عن عدد اللاويين كان كل بـِكْر يُفدى بخمسة شواقل من الفضة. وهذه الحصيلة كانت تخصَّص للكهنة. وكان فداء الأبكار من ابن شهر، ومقدار الشاقل من الفضة نحو خمسة عشر جراماً. أما أبكار الحيوانات النجسة فكانت تُفْتدَى بدفع قيمتها للكهنة (انظر خر 13: 13؛ 34: 20، لا 27: 27). أما أبكار الحيوانات الطاهرة فكان يتحتَّم تقديمها للرب فيُرش دمها على المذبح وتوقد أجزاؤها الداخلية وشحمها، أما باقي اللحم والجلد فهو للكهنة. لقد أعطاهم الرب جميع هذه الرفائع المقدسة حقاً دهرياً لهم، أي دائماً ما دام الكهنوت اللاوي، و«ميثاق ملح دهرياً»، أي عهداً ثابتاً لا رجوع فيه، لأن الملح كان رمزاً للعهود الثابتة (انظر لا 2: 13، 2أي 13: 5، عزرا 4: 14). وكان ذلك لأنهم تخصَّصوا لخدمة الرب ولم ينالوا نصيباً في أرض الموعد عند تقسيمها على أسباط إسرائيل، لأنهم قد أخذوا الرب نصيبهم وهذا حسبهم وكفايتهم، وكل نصيب الرب من الذبائح والتقدمات والأبكار والباكورات هو نصيبهم. وقد امتد تطبيق هذا المبدأ على خدَّام العهد الجديد من الكهنة وخدَّام الكلمة، إذ يقول بولس الرسول: «... لأنه ينبغي للحرَّاث أن يحرث على الرجاء، وللدَارِس على الرجاء، أن يكون شريكاً في رجائه. إن كنَّا نحن قد زرعنا لكم الروحيات، أفعظيمٌ إن حصدنا منكم الجسديات؟... ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدسة، من الهيكل يأكلون. الذين يُلازمون المذبح، يُشاركون المذبح. هكذا أيضاً أمر الرب أن الذين يُنادون بالإنجيل، من الإنجيل يعيشون. أما أنا فلم أستعمل شيئاً من هذا، ولا كتبتُ هذا لكي يصير فيَّ هكذا...» (1كو 9: 10-15) (يتبع) |