ظهرت الجماعة الأولى من تلاميذ المسيح، أول ما ظهرت في التاريخ، تحت اسم ”إككليسيا“، أو بالعربية ”كنيسة“ (وهي أصلاً كلمة سريانية من فعل ”كنس“ أي جمع إلى مكان واحد من أماكن متفرقة). وهذا الاسم يُعلن عن شخصية الكنيسة وعن الحق الكائن فيها. ومن الأسماء القديمة للكنيسة: ”كيرياكوس“ kyriakos نسبة إلى كلمة ”كيريوس“ أي ”الرب“، فالكنيسة هي المنتمية أو المملوكة للرب. أما ”إككليسيا“ أو ”الكنيسة“ فهي تعني التجمُّع الحادث نتيجة ”دعوة“، فهي تجمُّع أو مجتمع ”المدعوِّين“. وتلاميذ المسيح الأوائل كانوا واعين جداً إلى أن كل واحد منهم ”دُعِيَ“ من المسيح يوماً ما، فهم كلهم ”مدعوُّون“ من المسيح ليكوِّنوا الجماعة المتحدة الواحدة، ليس لكي يتناقشوا في أمورهم، أو لكي يكونوا مخلِصين ”للدين الجديد“، ولا لكي يُروِّجوا للمفاهيم الجديدة أو بعض ”المبادئ“ أو ”الشعارات“؛ بل إن ما يوحِّدهم هو قبولهم لهذه الدعوة التي غيَّرت مجرى حياتهم: من مجرد أفراد منطوين كل واحد حول أنانيته، إلى ”جسد“ واحد هو ”الكنيسة“. لقد بدأت تظهر ثمار هذه الدعوة لتكوين الجسد الواحد بعد امتلاء التلاميذ من الروح القدس يوم الخمسين. فقد بدأوا يعيشون كـ ”كنيسة“، كجسد حي واحد، يتشاركون حياتهم كـ ”إخوة“، كمثل إخوة ظهروا إلى الوجود من نفس الرَّحِم أو البطن الواحدة، فصاروا ”أعضاء“ في جسد حي عضوي واحد، أو عائلة واحدة. شعب الله في القديم، رمز للكنيسة في العهد الجديد: ويُعبِّر شعب الله في العهد القديم عن تشبيه ورمز تاريخي للكنيسة. فشعب الله لم يكن يُمثـِّل ”ديناً“ وسط باقي الشعوب، حتى ولو باعتباره هو الدين الصحيح أو أفضل الأديان السائدة آنذاك. ولكنه كان شعباً مكوَّناً من المدعوِّين من الله الحي ليؤدُّوا رسالة وإرسالية محدَّدة. وهكذا جمع الله الاثني عشر سِبْطاً (أو قبيلة) أبناء يعقوب، إلى شعب واحد اختاره الله وارتبط به بعقد ميثاق أو عهد معه، سُمِّي عهد الله، ونحن نسميه الآن العهد القديم بعد ظهور العهد الجديد الذي عقده ربنا يسوع المسيح مع العالم أجمع في ملء الزمان. وقد ظهر وعي هذا الشعب بهذا التجميع نتيجة الدعوة الإلهية، في المكان الذي كانوا يجتمعون فيه واسمه ”المجمع“ الذي كان يضم جماعة شعب الله حينما يجتمعون. و”المجمع“ مثله مثل ”الكنيسة“ كلمة مترجمة من لغة شعب الله القديم (العبرية) ”كاهال“، والتي ننطقها بالعربية ”هيكل“. إلاَّ أن الكلمتين ”مجمع“ و”كنيسة“ صارتا تعنيان معنىً مختلفاً جذرياً، بعد أن اختار تلاميذ المسيح الكلمة الثانية: ”كنيسة“ ليُعبِّروا بها عن وحدتهم واجتماعهم معاً بناء على دعوة المسيح. الكنيسة هي شعب الله الجديد (أو إسرائيل الجديد): والكنيسة هي أيضاً ”الشعب المختار من الله“ (أف 1: 4) أي ”إسرائيل الجديد“، ولكن برسالة تاريخية جديدة هي: إعلان بشارة العهد الجديد، أي العلاقة الجديدة التي عقدها الله مع البشرية في شخص ”ربنا يسوع المسيح“. ولم يَعُد تجمُّع ووحدة هذا الشعب الجديد ”إسرائيل الجديد“ قائماً على الانتساب إلى قبيلة أو سبط أو أب جسدي واحد (مثل شعب إسرائيل القديم منتسباً إلى إسرائيل يعقوب)؛ بل الكنيسة أصبحت منفتحة على كل القبائل والأمم والجنسيات والطبقات والشعوب. ذلك لأن هذا العهد أو الميثاق الجديد استمد قوته ومصداقيته وختمه من دم ذبيحة المسيح على الصليب التي بذلها من أجل حياة العالم أجمع. فهذا الثمن الغالي يساوي خلاص العالم كله، وليس أمة بعينها. فأنت لكي تدخل ضمن رَعَويَّة هذا الشعب المبارك، ولكي تصير عضواً في جسد هذه الكنيسة، فما عليك إلاَّ أن تقبل هذا ”العهد الجديد“. وهذا القبول يتمثـَّل في ”كسر الخبز“ و”بركة الكأس“ اللذين تشترك فيهما حينما تتناول سر الإفخارستيا، لأن المسيح قال: ”لأن في كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس، تبشـِّرون بموتي، وتعترفون بقيامتي، وتذكرونني إلى أن أجيء“ (كلمات التأسيس - قداس القديس باسيليوس - عن تقليد شفاهي من فم المسيح). لا يجب أن ننسى، بل دائماً علينا أن نتذكَّر هذه الحقيقة: نعم، لأننا كثيراً ما ننسى هذه الحقيقة التي تحدد وتعلن معنى الكنيسة: الكنيسة التي هي الاجتماع حول وليمة الإفخارستيا. إنها شعب الله مجتمعاً معاً لكي يكسر الخبز ويُبارك الكأس. وفي سفر أعمال الرسل نجد هذا الأساس الأول الذي يجعل من هذا الاجتماع هو الكنيسة. فالذين آمنوا بكرازة الرسل كانوا يجتمعون لكي «يواظبوا على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات» (أع 2: 42)، «وجميع الذين آمنوا كانوا معاً، وكان عندهم كلُّ شيء مشتركاً»، «وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة، وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت، كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مُسبِّحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب» (أع 2: 44و46و47). - وهذه هي النواة الأولى للحياة الرسولية الكنسية التي عاشتها الكنيسة إلى هذا اليوم، متمثـِّلة في احتفال وليمة الإفخارستيا، والتناول من الجسد والدم الأقدسين، وحياة الشركة بين المؤمنين خارج الكنيسة بالحياة الروحية المشتركة لدى المؤمنين في بيوتهم؛ حيث تتحوَّل بيوتهم إلى بيوت بركة، بيوت طهارة، بيوت صلاة، والتغذِّي الدائم بتعليم الرسل المتمثل بالقراءة المستمرة، والهذيذ واللهج في كلام الله، وحفظه بالعقل، وفي القلب بالسلوك. - وقد وهب الروح القدس للكنيسة فيما بعد حياة الرهبنة لكي تكون دائماً نموذجاً وصورة أصيلة لكنيسة الرسل الأولى، تأخذها الكنيسة في العالم نموذجاً وتطبِّقها. وقد كان الآباء القديسون قديماً يسمُّون ما نسمِّيه نحن اليوم بحياة الرهبنة، يسمُّونها ”العيشة الرسولية“ أو ”الحياة الرسولية“، كما ورد في رسائل القديس مقاريوس. وحتى مبنى الكنيسة التي يصلِّي فيها الرهبان تُسمَّى في الكتابات القديمة بـ ”القاثوليكا“ أو ”الجامعة“، أي الموضع حيث يجتمع كل الرهبان معاً بناءً على دعوة المسيح لهم ليواظبوا على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات، وتسبيح الله، وحيث تضم مع الرهبان كل أرواح القديسين والطغمات السمائية، فهي ”قاثوليكا“ أي ”جامعة“ بحق! نحن نصير جسد المسيح، حينما نتناول جسد المسيح: المؤمن المسيحي يندمج في جسد المسيح (رو 6: 5)، من خلال إيمانه بالمسيح، ومشاركته في المعمودية والإفخارستيا المقدسة وباقي الأسرار. مثل هؤلاء المؤمنين يصيرون مُطعَّمين في جسد المسيح، إذ صاروا ”فَلاَحَة (أي حقل) الله“ (1كو 3: 9)، وكأنهم مغروسون معاً في المسيح، كأغصان في كرمة الحياة. وبهذا تصير لهم الشركة في حياة ابن الله المتجسِّد. هذه هي الكنيسة ”جسد“ المسيح، و«ملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف 1: 23)، وبهذا تصير الكنيسة هي استمرار حياة المسيح في المؤمنين الثابتين في الشركة معه، بالتناول من جسده ودمه الأقدسين، حسب صلاة الكنيسة: ”اجعلنا مستحقين أن نتناول من قدساتك طهارةً لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا، لكي نكون جسداً واحداً...“. الكنيسة مجتمع القديسين: والمسيحيون يكوِّنون ”مجتمع القديسين“، إذ يصيرون - في المسيح - وحدة عضوية سرائرية، ومشاركين في حياة المسيح الإلهية، وذلك بقوة وفعل الروح القدس الساكن فيهم والحالِّ في وسط الكنيسة. والمسيح نفسه يحل في المؤمنين الثابتين فيه، إذ يكون هو مركز حياتهم الذي منه تتفجَّر ينابيع نعمة الله، فتفرز الحياة الجديدة التي تنسكب على كل الجسد، وتتلامس مع كل عضو على حدة، حيث تعطيه قوة روحية لتقديسه. ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم، إن المؤمن ”ينال نفس الروح المنسكب من الرأس الواحد للجسد، فاعلاً بتأثيره في الكل على حدٍّ سواء، موصِّلاً نفسه للجميع على حدٍّ سواء أيضاً“(1) سواء للكهنة أو للشعب. وفي عقيدة الكنيسة، هذه هي صورة الكنيسة كجسد المسيح وكهيكل الروح القدس. وفي هذا السر، سر الإفخارستيا، تتجلَّى أمامنا صورة الوحدة السرية mystical واندماج المسيح في المؤمنين المشتركين فيه، الذين هم أعضاء جسده. كما في التجسُّد، كذلك في الكنيسة، حصل هذا الاتحاد ليكون امتداداً للتجسُّد: ومن هنا نرى أنه كما أن الله والبشرية اتحدا في المسيح ابن الله المتجسِّد، هكذا كل مَن يؤمنون بالمسيح يتحدون معاً في جسدٍ واحد هو الكنيسة جسد المسيح. وبهذا فإن المسيح نفسه، الذي صار معنا: ”هوذا كائنٌ معنا على هذه المائدة اليوم عمانوئيل إلهنا“ (صلاة القسمة - القداس الإلهي)، من خلال تناولنا الإفخارستيا، ”يمتد إلى كل الأبدية“، بحسب تعبير القديس أغسطينوس، وتصير الكنيسة اتساعاً وامتداداً للتجسُّد الإلهي، إذ تجعل في ديمومة، عمل الفداء الذي أكمله المسيح على الصليب، حتى يصل خصيصاً إلى كل مؤمن في كل مكان في العالم. حقاً، إن الكنيسة وُجدت في المسيح منذ قبل تأسيس العالم، وقد ظهرت فعلاً، في المسيح، في تجسُّده الإلهي. ولذلك رآها الكاتب المسيحي ”هرماس“ من القرن الثاني، في صورة ”امرأة عجوز، لأنها تأسست قبل الكل، والعالم كان مُهيَّئاً لها“(2). لذلك قيل إن الكنيسة اختيرت قبل تأسيس العالم، كما يقول العلاَّمة كليمندس الإسكندري(3). ولذلك، ومن خلال الكنيسة تظهر للبشر نعمة الله والحياة الإلهية، في الكنيسة، النعمة التي تُخلِّص وتقدِّس البشر. وبهذا، فالكنيسة تمتد بعمل المسيح في الفداء. ويقول العلاَّمة كليمندس الإسكندري موضِّحاً هذا الدور الذي تؤدِّيه الكنيسة: [لأن الكنيسة تخدم تتميم قصد الرب، فالإنسان كان هكذا خادماً لمشيئة الآب، حتى صارت محبة الله للبشر تنسكب على كل البشر، قديماً بواسطة الأنبياء، ولكن الآن بواسطة الكنيسة.](4) (يتبع)
(1) العظة الحادية عشرة على رسالة أفسس - Migne PG 9,677. (2) كتاب ”الراعي“ - الرؤيا الثانية. (3) PG 9,677. (4) On Prophecy, 23; Migne, PG 9, 708. |