|
|
|
استكمالاً لما تم عرضه في العدد الماضي (سبتمبر 2020 ص 31)
2. نعمة التجسُّد:
يُعَدُّ تجسُّد الرب يسوع من أعظم النِّعم الموهوبة للإنسان، لأنه صار لنا القناة الموصِّلة التي تدفَّقت لنا من خلالها، كل تدابير النعمة والخلاص والفداء والشركة مع الله، فهذا السرّ هو الذي حيَّر السمائيين، وأدهش الشيطان وأصابه في مقتل؛ أعني سرّ التجسُّد أو سرَّ التقوى الذي أتمَّه المسيح في ملء الزمان، باتخاذه الذي لنا (أي الجسد)، وإعطائنا الذي له (أي مجد البنوة لله)، حتى يستطيع أن يحقق لنا خلاصنا المنشود: «لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ» (1تي 2: 8)، ويكمِّل تبريرنا مجاناً بهذه النعمة: «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ» (رو 3: 24)، ويفتح لنا الطريق لنتقدَّم بجراءة وثقة إلى عرش النعمة، فننال رحمته ومعونته: «فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ» (عب 4: 16).
كل هذا لم يكن ممكناً بدون نعمة التجسُّد، التي كانت سرًّا مكتوماً عند الآب، واستُعلِنت لنا في ملء الزمان، لتحوِّل لنا كل ما أتمَّه المسيح عنَّا ومن أجلنا في جسده، من ميلاد وموت وحلول الروح القدس، وكذا عطية التبنِّي ورجاء الحياة الأبدية.
فالمسيح أتى ليهبنا الحياة والخلاص، لأنه وحده الذي قيل عنه: «لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ» (أع 4: 12)، وبولس الرسول يقول: ”إننا بالنعمة مخلَّصون“ (انظر: أف 2: 8)، إذن فالمسيح هو هذه النعمة العظمى والمخلِّصة، والذي بدون تجسُّده، مَا كنَّا قد نلنا أي خلاص أو نجاة، والرسول بولس في سفر العبرانيين يقول عن ذلك بالروح: «لِذلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ: «ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً» (عب 10: 5)، فغاية التجسُّد كانت إعطائنا نعمة شركة البنوَّة لله والحياة معه إلى الأبد.
3. نعمة الميلاد الجديد:
(تجديد الخليقة/ الولادة من الله):
تمثِّل نعمة الميلاد الجديد من الماء والروح في العهد الجديد بواسطة المعمودية المقدَّسة، نعمة من أعظم النعم والعطايا التي وهبنا الله إيَّاها من قِبَل تجسُّده الطاهر، وهذه النعمة تُضاهي وربما تفوق في عظمتها وروعتها، عظمة الخلقة الأولى التي عملها الله، في بداية إنشاء العالم. لأنها تُعْتبر: بمثابة إعادة خلقة لآدم الإنسان الأول، حتى إن كثير من القديسين يتحدثون عن المسيح بمسمَّى آدم الثاني، ولكن هذه الخليقة الجديدة تتجلَّى بوجه مضيء مبرَّر أمام الله، مهيَّأة لحياة جديدة مقدَّسة، تليق بهذه الخليقة الجديدة، مغسولة بدم المسيح، حمل الله وقائمة معه في المجد، مستعدة للاشتراك في العرس السمائي، بلباس الخلاص والفرح، الذي صنعه لها الرب يسوع، وألبسه لنا، عوضاً عن ثوب الجلد الذي لم يقدر أن يستر عري خطيتنا، فالولادة من الماء والروح، صَبَغَتنا بشركة الآلام ومجد القيامة التي للمسيح، وأقامتنا معه مرة أخرى، في حياة البنين لله، مولودين من زرع لا يفنى، لميراث حيّ مصنوع ومُعدّ لنا في السموات.
لذلك فالولادة الجديدة من الماء والروح، صارت من أهمّ وأعظم النِّعم، وتُعدُّ أولى ثمار سرِّ التجسُّد، وعن طريقها نلنا صفة البنين واستحقاق الملكوت المفقود مرة أخرى.
4. نعمة التبنِّي وعطية الروح القدس:
نعمة التبنِّي هي الغاية الأساسية لسرِّ التجسُّد، وهي قائمة على أساس تحقيق الاتحاد بالله، وذلك بمشاركتنا للكلمة المتجسِّد في كلِّ تدبيراته الخلاصية التي صنعها من أجلنا، وذلك بممارسة الأسرار المقدَّسة، التي هي بمثابة وسائط النعمة، وبواسطة الروح القدس المُعطَى لنا نستطيع أن نتَّحد بالكلمة. فبالمعمودية نولد روحيًّا كخليقة جديدة، ونتحد بالابن بشركة موته وقيامته في سرِّ الإفخارستيَّا وننال ميراث البنين، ونصير إخوة للمسيح بسرِّ الميرون أو سرّ التثبيت وحلول الروح القدس فينا، والذي يشهد داخلنا أننا أولاد الله، ويؤهِّلنا أن نهتف قائلين: «يَا أَبَا الآبُ» (رو 8: 15).
فالتجسُّد والولادة الجديدة، ثم حلول الروح فينا، قد أبطلوا مأساة انفصالنا عن الله، والتي تسبَّبت في دخول الفساد إلى طبيعتنا، وأُعِيدت عملية خلقتنا بشركة حيَّة بالثالوث القدوس، فأصبح كياننا البشري مؤهَّلاً ومتوافقاً لقبول نعمة الله فينا، لتلدنا بالروح القدس كأبناء لله بالتبنِّي، كقول يوحنا الرسول بالروح: «اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ! .. الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ ..» (1يو3: 1 و2).
وغنيٌٌ عن البيان أن اتحادنا بالله، ليس هو اتحاداً جوهريًّا، كما الحال لأقانيم الثالوث الإلهي، بل هو اتحاد المشاركة؛ ذلك لأن بنوتنا لله هي نعمة موهوبة لنا، ولن تُغيِّر من طبيعتنا البشرية المخلوقة، أو تُذِيبها، بل إنها سوف تتمجَّد بالانتساب والشركة معها، لتنال المجد المنطبع عليها من الله نفسه، واهب النعمة والمجد لها. فغاية النعمة أن تحقق فينا شركة الطبيعة الإلهية، دون أن تغيِّر جوهرنا البشريِّ الذي جُبِلنا عليه، أو تلاشيه، وبهذا الاتحاد السري العجيب، تُصيِّرنا أبناء لله بالتبنِّي، وتعيدنا لحضن الآب مرة أخرى بالمصالحة التي أتمَّها المسيح من أجلنا. وبواسطة إيماننا وشركتنا في الأسرار المقدسة، وتوبتنا الصادقة، تعمل النعمة على زرعِنا كأعضاء في جسد المسيح نفسه، وكأغصان في الكرمة الحيَّة، لنحيا كبنين في مجد الآب السمائي.
كيف نقبل النعمة ونذوقها:
1- من خلال الأسرار:
أوَّل هذه الأسرار، كما سبق القول، هو سرّ المعمودية (الاستنارة أو الميلاد الجديد)، ثم يليه سرّ الميرون (التثبيت أو سكنى الروح القدس)، الذي يقدِّس النفس والجسد، وبعد ذلك يأتي سرُّ الأسرار وأهمها، ألا وهو سرُّ الإفخارستيِّا، الذي هو سرّ الشركة في موت المسيح وقيامته، أو سرّ الاتحاد بالمسيح، بواسطة تناول جسده ودمه الأقدسين. فالأسرار في الكنيسة هي القناة الأولى، والمدخل الرئيسي لقبول نعمة الله ، حيث المسيح هو نفسه هبة الله العظمى ونعمته الإلهية المُعطاة لنا. والقديس كليمندس الإسكندري يحدِّثنا عن ذلك فيقول عن المعمودية، مثلاً: [ تُدعَى المعمودية نعمة واستنارة وكمالاً واغتسالاً! اغتسال لأننا بالمعمودية نغتسل من خطايانا، ونعمة لأن العقوبة المفروضة على التعدِّي تُرفع في المعمودية، واستنارة لأننا بالمعمودية نرى نور الخلاص، أي نرى الله جيداً](1). ثم يأتي القديس كيرلس الإسكندري فيقول عن الإفخارستيِّا، التي هي نعمة الشركة في الجسد الواحد: [ الذين اعتمدوا وذاقوا النعمة الإلهية ... يأتي الشيطان مزمجِراً عليهم ... ولكن ما دمنا قد فككنا قيودنا (بالمعمودية)، فلنتقدَّم إلى النعمة الإلهية ونتناول من الجسد المقدَّس](2).
فالإفخارستيِّا مُكمِّلة للمعمودية، وبهما نبلغ إلى غاية النعمة، وهي الشركة الدائمة، بالاتحاد والثبات في شخص الرب يسوع، بالاصطباغ بشبه موته، ونوال روح قيامته، والدخول في امتياز عضوية جسده.
2 - الجهاد الروحي والسيرة المقدَّسة:
نعمة الله ليست عقيمة، بل تهب الإنسان قوة الإيمان العامل بالمحبة، وهذا الإيمان المسنود بقوة الروح القدس، هو الذي نغلب به العالم، وكما يعلِّمنا الكتاب المقدس، فإن إيمان بدون أعمال ميت في ذاته، (انظر: غل 5: 6)، فإن النعمة هنا هي التي تزكِّي في الإنسان روح الجهاد والنشاط والمثابرة والاجتهاد في كل عمل صالح، وفي كل نشاط روحي، كما كان يحدث مع الرسل ومع بولس الرسول في كل سلوكهم وتصرفاتهم في الحياة، فالنعمة ينبوعٌ مقدَّس يدفع الإنسان الممتلىء بها، إلى السلوك بسيرة مقدَّسة، وتجعله مستعدًّا لإضرام الموهبة التي فيه، والشهادة لمجد الله، وعربوناً لإكليل الجهاد الحسن له، أمام الله واهب هذه النعمة.
3 - الاتضاع وطلب معونة الروح القدس والنعمة الإلهية:
«اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً» (1بط 5: 5)، هنا نقول إنه بدون اتضاع وخضوع أمام الله، وقدام نعمته، فلا نظن أننا سوف نجني شيئاً، فتواضع الروح ضروري لكي يهب الله معونته وقوته للمساكين بالروح، فالله لن يُغني غنياً، ولن يُشبع شبعاناً، بل كل من يشعر بحاجته لله، ويتقدم بانسحاق قلب طالباً المعونة، فسيشبعه الله أكثر مما يتوقَّع، ويصنع له خلاصاً يفوق حتى احتياجات نفسه! وها بطرس الرسول عندما انتبه إلى نفسه، وكان على وشك الغرق، صرخ قائلاً: «يَا رَبُّ نَجِّنِي، فَفِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ» (مت 14: 30 و31)، فليطمئن الإنسان لأن يد المعونة ممتدة لمن يطلبها باتضاع، كما قيل: ”لأنك لو رأيت مخلصك قريباً منك، لن تنهزم من العدو المعاند لله“ لأن معونة الرب ونعمته حاضرة للمتضعين، إن طلبوها بأمانة قلب. كما نذكر قول القديس مار إسحق: [الاتضاع يتقدَّم النعمة](3).
النعمة في حياة المسيحي اليومية:
على الإنسان المسيحي أن يكون إيجابيًّا، مقابل مبادرات النعمة المجانية التي قدَّمها ويقدِّمها له الرب يسوع كل يوم، وذلك بحريته الكاملة، وحبه الحقيقي، وجهاده الأمين حتى الدم، وبطهارة وصلاة وتغصُّب ودموع وشكر، حتى يستحق أن يُحسَب أهلاً لاستحقاقات نعمة الخلاص المجانية، الموهوبة له فضلاً من الله، وبولس الرسول يوصي تلميذه تيموثاوس بالمثابرة والتشدد والجهاد بقوله: «تَقَوَ أَنْتَ يَا ابْنِي بِالنِّعْمَةِ» (2تي 2: 1)، لأن النعمة قادرة أن تسند جهاد المجتهدين والأمناء، وتشدِّدهم في سعيِهم، إزاء تحرُّكِهم الإيجابي نحوها.
كذلك ينصحنا الرسول، في رسالته إلى العبرانيين، بالثبات في النعمة وعدم التزعزع، بقوله: «حَسَنٌ أَنْ يُثَبَّتَ الْقَلْبُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِأَطْعِمَةٍ...» (عب 13: 9)، لذلك فالإنسان المسيحي، بصفة عامة، عليه أن يستند في حياة الشركة مع الرب بنعمة الروح القدس، على ركائز أساسية وهامة، تتلخص في:
( إيمانٌ عاملٌ بالمحبة،
( معرفة مستنيرة بالروح،
( حبٌّ ملتهب في القلب.
فإن صارت هذه الركائز هي منهجنا في حياتنا وسلوكنا، نستحق بنعمة الرب أن نتأهَّل لدخول ملكوته الأبدي، كأبناء حافظي الأمانة.
السقوط من النعمة:
إن احتمال السقوط من النعمة إلى حياة الخطية، لهوَ أمر وارد ومحتمل، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على منتهى الحرية المُعطاة للإنسان في حياته وسلوكه واختياراته، وأيضاً في حرية قبوله أو رفضه لعمل النعمة، المقدَّم له، كقول بولس الرسول: «قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ» (غل 5: 4).
أهم أسباب السقوط من النعمة:
1. الكبرياء والتشامخ، والعظمة وعدم الشكر: هؤلاء يسلِّمهم الله لذهن مرفوض، فيسقطون كأوراق الخريف، لأن الله يقاوم المُستكْبِرين.
2. إهمال صوت الضمير وصوت الله: وهذا يقود للاستهتار والتهاون والتخاذل، فيسهل السقوط.
3. النفاق وخداع الناس، وتبرير الذات: وهؤلاء محبُّون للمديح، ولا يقبلون المراجعة، يمتلكهم الغضب والتعالي على الجميع.
4. الاعتماد على ذراع البشر وليس الله: وأولئك هم أصحاب الإيمان الضعيف، والباحثون عن مجد الأرضيات، فيضيِّعون حياتهم في التنقيب عن آبار لا تضبط ماء، ويجلبون على أنفسهم لعنة بالاتكال على ذراع البشر، ويخيبوا من نعمة الله.
5. دينونة الناس واحتقارهم: فهم يضعون أنفسهم تحت الحُكْم عينه، وبكبرياء قلوبهم يكتنزون لأنفسهم دينونة أعظم.
6. التواني والكسل ونوم الغفلة والإهمال: إنها الثعالب الصغيرة التي تفسد أتعاب العمر كله، ولا سبيل لمقاومتها سوى بالسهر والدموع، واستعداد القلب الدائم للقاء العريس، والسيرة المدقِّقة في السلوك والحياة، لنُحسب مؤهَّلين للدخول إلى عرس عشاء العريس.
ونختم حديثنا هنا، بقولٍ رائع لأبينا القديس أنبا مقارعن أهمية الجهاد الذي يقدِّمه الإنسان، تعبيراً عن استجابته لمبادرات النعمة المجانية في حياته، وذلك لتفعيل عملها داخله، إذ يقول:
[ ففي الأمور المنظورة يعمل الفلاَّحُ الأرضَ، لكنه وإن كان يعملها إلاَّ أنَّه يحتاج إلى المطر والغَيْثِِ من فوقُ، فما لم ينزل المطر من فوقُ، تذهب فِلاحةُ الفلاَّح لأرضه أدراج الرِّياح؛ هكذا هو الحال أيضًا في العالم الرُّوحانيّ ... لأن الله يطلب تَعَبَ الإنسان وكَدِّه وعملَه، إلاَّ أنَّه ما لم تَلُحْ من فوقُ سحابة سماويّةٌ وغُيوثُ النِّعمة، فهيهات أنْ ينتفع الفلاَّح المكدودُ شيئًا] (الأعمال الكاملة للقديس أنبا مقار - العظات الخمسون - عظة رقم 26 صفحة 408 و409). ]
(1) Paed. 1, 6, 26.
(2) Jo. 36.
(3) Isaac. Ar. 111, 29, 1, 2. بستان الرهبان - إصدار دير القديس أنبا مقار - قول رقم 1102 ص 421