دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

دراسة الكتاب المقدس:


 
ملخص دراسة السفر

أولاً: إعداد الجيل القديم ليرث أرض الموعد (1:1ــ10:10).
1- تنظيم الجماعة تمهيداً للارتحال ( 1:1ــ49:4).
2 ــ تقديس الجماعة (1:5ــ10:10).
ثانياً: فشل الجيل القديم في أن يرث أرض الموعد (11:10ــ18:25).
1 ــ بدايات الفشل في الطريق إلى قادش (11:10ــ16:12).
2 ــ أزمة قادش برنيع (1:13ــ45:14).
3 ــ إخفاق إسرائيل المتواصل (1:15ــ22:19).
4 ــ حوادث في الطريق إلى موآب (1:20ــ18:25).
ثالثاً: إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (1:26ــ13:36).
1 ــ إعادة تنظيم إسرائيل (1:26ــ23:27).
2 ــ شرائع للتقدمات والنذور (1:28ــ16:30).
3 ــ الانتصار على الشعوب في شرق الأردن وتقسيمها على أسباط إسرائيل (1:31ــ13:36).

ثالثاً: إعداد الجيل الجديد لميراث أرض الموعد (26: 1-36: 13)
3 - ملخَّص رحلات بني إسرائيل من مصر حتى عربات موآب (33: 1-49)

كانت أيام موسى على الأرض ورحلته مع بني إسرائيل في البرية قد قاربت من الانقضاء، كما ذكرنا من قبل. وكان قد وصل بالشعب إلى أعتاب أرض الموعد، ولكنه لم يُكلَّف من قِبَل الرب بأن يَعْبُر بهم الأردن ويُقسِّم بينهم أرض الموعد، فقد انتهت مهمته عند هذا الحدِّ. وهنا يُطالبه الرب بأن يكتب سجلاًّ لرحلات بني إسرائيل في البرية تحت قيادته، لكي يذكروا أعمال الرب معهم في كل مراحل ارتحالهم، ولكي يتذكَّر هو أيضاً يد الله التي آزرته وعضدته في كل مواقف حياته وقيادته لبني إسرائيل، وكأنه كان يكتب ويُقدِّم حساب وكالته:

+ «هذه رحلات بني إسرائيل الذين خرجوا من أرض مصر بجنودهم عن يد موسى وهارون. وكتب موسى مخارجهم برحلاتهم حسب قول الرب. وهذه رحلاتهم بمخارجهم» (عد 33: 1و2).

ونلاحظ في هذا السِّجل المقتضب للرحلة شريطاً متتابعاً لكل المحطات الرئيسية التي مرَّ بها شعب الله من أول خروجهم من مصر حتى وصولهم إلى عربات موآب على أردن أريحا. كما يتكرر في هذا السجل القول ”ارتحلُوا“، ”نزَلوا“؛ لكي يعلن الله من خلال ذلك أن طريق الإنسان على الأرض إنما هو حركة دائمة دائبة، وارتحال وخروج وتغيُّر مستمر من وضع إلى وضع جديد لكي يتوافق مع إرادة الله ومشيئته من جهتنا. كما لم يأتِ في هذا السجل أي ذِكْر لأي إخفاق أو نكوص للشعب، وكأن الله قد نَسِيَ كل ما بَدَرَ من الشعب من تذمُّرات وشكوك خلال الطريق.

وقد جاء ذِكر بعض هذه الارتحالات في سفر الخروج من أصحاح 12 إلى أصحاح 40، وجاء ذِكْر البعض الآخر في سفر العدد أصحاحات 12، 20-22؛ والباقي في سفر التثنية أصحاحات 3،2،1.

واكتفى موسى بأن يذكر أسماء المحطات الرئيسية التي اجتازت بها الجماعات المرتحلة من بني إسرائيل مع ذِكْر بعض الأحداث الهامة التي تحيط بكل رحلة.

ويمكن تقسيم هذه الرحلة الطويلة إلى خمس مراحل تسهيلاً لمتابعتها:

المرحلة الأولى: من رعمسيس في مصر إلى برية سيناء (33: 3-15).

المرحلة الثانية: من برية سيناء إلى قادش برنيع (33: 16-18).

المرحلة الثالثة: من قادش برنيع إلى عصيون جابر (33: 19-35).

المرحلة الرابعة: من عصيون جابر إلى قادش ثانية (33: 36).

المرحلة الخامسة: من قادش إلى سهول موآب (33: 37-49).

المرحلة الأولى: من رعمسيس في مصر إلى برية سيناء: (عد 33: 3-15)

1. «ارتحلوا من رعمسيس في الشهر الأول في اليوم الخامس عشر من الشهر الأول في غدِ الفصح، خرج بنو إسرائيل بيدٍ رفيعة أمام أعين جميع المصريين؛ إذ كان المصريون يدفنون الذين ضرب منهم الرب من كل بـِكْر. والرب قد صنع بآلهتهم أحكاماً» (عد 33: 3و4).

كانت هذه هي البداية التي لا يمكن أن تُنسَى لرحلة الخروج من أرض مصر - أرض العبودية - للوصول إلى الهدف المنشود، إلى الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. خرجوا وهم لا يعلمون ماذا ينتظرهم في الطريق إلى هذا الهدف، يحدوهم الأمل ويدفعهم الاشتياق إلى الحرية والتخلُّص من النير الذي طالما عانوا منه في عبودية مُرَّة تحت يد المصريين التي لا ترحم.

بدأت الرحلة من رعمسيس. وقد اختلف العلماء والباحثون في تحديد موقع هذه المدينة التي سخَّر فيها المصريون بني إسرائيل لبناء مخازن لفرعون. ومن المرجَّح أنها ”تانيس“ التي كانت تُدعى ”أفاريس“ التي كانت عاصمة المصريين، وهي الآن ”صان الحجر“ بمحافظة الشرقية، والتي سُميت أيضاً ”صوعن“ في (عد 13: 22؛ مز 78: 12و43): «قدَّام آبائهم صنع أعجوبة في أرض مصر، بلاد صوعن» (مز 78: 12)، وهي أعجوبة قتل أبكار المصريين التي حدثت يوم خروجهم من أرض مصر، في اليوم الخامس عشر من شهر أبيب، وهو الشهر الذي جعله الرب أول شهور السنة العبرية. وكان خروجهم في غد الفصح بعد أن أكلوا خروف الفصح، بينما كان المصريون يدفنون موتاهم من الأبكار الذين ضربهم الرب، مُظهِراً قوته على آلهتهم التي كانوا يعبدونها، والتي لم تستطع أن تُخلِّصهم من يد الرب الذي عاندوه بقسوتهم على العبرانيين. لذلك يقول الوحي إنهم خرجوا بيد رفيعة أمام أعين جميع المصريين.

2. «فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس ونزلوا في سُكُّوت. ثم ارتحلوا من سُكُّوت ونزلوا في إيثام التي في طرف البرية» (عد 33: 5و6).

”سُكُّوت“ معناها ”مظلات“، ويُرجَّح أنها الآن بلدة ”تل المسخوطة“، وهي لا تبعد كثيراً عن بحيرة التمساح. وقد وصل إليها بنو إسرائيل في مسيرة يوم واحد. وجاء في سفر الخروج أن عددهم كان نحو ستمائة ألف ماشٍ من الرجال عدا الأولاد (والنساء) (خر 12: 37)، والذي يُقدَّر بنحو مليونين ونصف المليون من الأنفس جملةً.

من ”سُكُّوت“ التي تعني المظلات، جاءوا إلى ”إيثام“ التي تعني علامة، وهي المحطة الثالثة من الرحلة. فعند بلوغهم إلى هذه المحطة وصلوا إلى طرف البرية. وهذا معناه أن إيثام كانت عند طرف البرية التي يُرجَّح أنها كانت موقع مدينة الإسماعيلية الحالي، في بداية عدة طرق كانت تؤدِّي إلى فلسطين. ومن هناك بدأوا رحلة غربتهم إلى أرض الموعد. ولعل في هذا رمز لا يفوت على المتأمِّل النابه، أن المرتحل لا يسكن إلاَّ في مظال أو خيام لكي يكون على استعداد دائم للرحيل، لذلك بدأت رحلتهم من سُكُّوت (المظلات)، إلى إيثام (علامة) البداية عند طرف البرية. لأنه هكذا ينبغي أن تكون رحلتهم منذ البداية رمزاً لرحلة المسيحي المسافر إلى الوطن السماوي عَبْرَ برية هذا العالم.

وقد جاء في سفر الخروج أن الشعب عند وصولهم إلى إيثام في طرف البرية، بدأ «الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليُضيء لهم، لكي يمشوا نهاراً وليلاً. لم يبرح عمود السحاب نهاراً وعمود النار ليلاً من أمام الشعب» (خر 13: 21).

ويُعلِّق العلاَّمة أوريجانوس على ذلك قائلاً:

[... يلزمنا أَلاَّ نتوقف هنا (في سُكُّوت)، بل يجب أن نحثَّ الخُطَى للرحيل، يجب أن نرفع الخيمة من سُكُّوت ونُسرع للمجيء إلى إيثام. ويمكننا أن نترجم إيثام بلغتنا إلى علامات لهم. وهذا هو ما سنسمعه بالضبط بعد ذلك، إذ قيل: «وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليُضيء لهم». فإنك لا تجد هذا الأمر العجيب في المحطة الأولى في رعمسيس، ولا في سُكُّوت التي هي المحطة الثانية للمرتحلين، ولكنك تجده في المحطة الثالثة حيث تظهر الإعلانات الإلهية. ولعلك تذكر ما قد قرأناه سابقاً عندما قال موسى لفرعون: «نذهب سَفَر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا» (خر 5: 3). هذه هي، إذن، فترة الثلاثة الأيام التي أراد موسى استعجالها وعارض فيها فرعون قائلاً: «لا تذهبوا بعيداً» (خر 8: 28). فلم يسمح فرعون لبني إسرائيل أن يذهبوا إلى حيث توجد الإعلانات، ولم يسمح لهم بالتقدُّم لينعموا بأسرار اليوم الثالث... الذي هو يوم القيامة...](1)

3. «ثم ارتحلوا من إيثام ورجعوا على فم الحيروث التي قُبَالة بعل صفون ونزلوا أمام مجدل. ثم ارتحلوا من أمام الحيروث وعبروا في وسط البحر إلى البرية، وساروا مسيرة ثلاثة أيام في برية إيثام ونزلوا في مارَّة» (عد 33: 7و8).

كانت هذه المحطة هي أخطر محطات خروج بني إسرائيل من مصر، لأنهم بعد وصولهم إلى إيثام في طرف البرية، جاءتهم أوامر الرب بأن لا يواصلوا السير شرقاً في طريق أرض فلسطين، بل «أن يرجعوا وينزلوا أمام فم الحيروث أمام بعل صفون قبالة مجدل» (انظر خر 14: 2). وكان قصد الله أن يظهروا كأنهم قد ضلُّوا الطريق، «وأنهم مرتبكون في الأرض. قد استغلق عليهم القفر» (خر 14: 3)، حتى يتشدَّد قلب فرعون في مطاردتهم، لكي يردَّهم إلى عبوديته، إذ لا مفرَّ من استسلامهم، فالبحر أمامهم والعدو خلفهم. وعندئذ يتدخل الرب بقدرته الإعجازية، ويفتح لشعبه طريقاً في البحر، فيعبروا في وسط البحر. ويُشدِّد الرب قلوب المصريين حتى يدخلوا وراءهم، ليُغرِق المصريين بجميع جنودهم ومركباتهم فيتمجَّد الرب بهم.

ورغم أهمية هذه المحطة وخطورتها كنقطة تحوُّل أساسية في حياة بني إسرائيل لأنها تُذكِّرهم بأعظم حادثة إعجازية مرَّت بهم على طول الطريق، إلاَّ أن موسى النبي اكتفى بأن يذكرها بدون إسهاب. ولعله كان واثقاً أنها لا يمكن أن تُنسَى من ذاكرتهم. ولكننا لا نستطيع أن نتجاوزها دون أن نستعرض المعاني الروحية لأسماء المواقع التي أُمِرَ موسى أن يُسجِّلها، كما يتأملها العلاَّمة أوريجانوس:

[فلننظر ما قيل لموسى بعد ذلك، وأي طريق أُمِرَ بأن يسلكه، وهو أن يرحلوا من إيثام ويُغيِّروا اتجاههم ويسلكوا الطريق بين فم الحيروث ومجدل أمام بعل صفون.

ويمكن ترجمة ”فم الحيروث“ بالصعود الوعر، و”مجدل“ بالبرج، و”بعل صفون“ بالصعود للمراقبة أو الرصد. وربما يتصوَّر البعض أن الطريق الذي ينصح به الله سهل ومستوي، ولا يقتضي إطلاقاً أي تحمُّل للصعاب أو الأتعاب، ولكنه في الواقع طريق صاعد، وصعود وعر. لأن الطريق إلى الفضيلة ليس طريقاً نازلاً ولكنه صاعد، وهو صعود في درب ضيق وكرب. اسمع الرب أيضاً يقول في الإنجيل: «ما أضيق (الباب) وأكرب الطريق الذي يؤدِّي إلى الحياة» (مت 7: 14). انظر، إذن، كيف يتفق الإنجيل مع التوراة. فالتوراة تُصوِّر الطريق إلى الفضيلة صعوداً وعراً، والأناجيل تقول عنه إنه ضيِّق وكَرِب، ولكنه يؤدِّي إلى الحياة. أليس هذا حق واضح حتى للعميان أن روحاً واحداً هو الذي كتب التوراة والإنجيل؟!

فالطريق الذي نسير فيه، إذن، هو صعود وعر وصعود للرصد والمراقبة: صعود يستلزم الجهاد والمراقبة والإيمان. هكذا يتبيَّن لنا هنا أن الأعمال والإيمان يستوجبان الكثير من الصعوبات والآلام. لأن تجارب كثيرة ومعوِّقات متعدِّدة تعترض أولئك الذين يريدون أن يسلكوا حسب مشيئة الله... هذا هو الطريق الذي يجب أن يسلكه كل مَن يتبع الله. وفي هذا الطريق برج، فما هو هذا البرج؟ إنه بكل تأكيد ما تكلَّم عنه الرب في الإنجيل قائلاً: «ومن منكم وهو يريد أن يبني برجاً لا يجلس أولاً ويحسب النفقة، هل عنده ما يلزم لكماله» (لو 14: 28)؟ هذا البرج، إذن، هو حصن الفضائل المرتفع المنيع...

فعند هروبك من مصر (أرض العبودية) لابد أن تأتي إلى هذه المواضع، وإلى هذه المصاعد التي للأعمال والإيمان، وإلى حصن البرج الشامخ، كما تأتي أيضاً إلى البحر والأمواج التي لابد أن تلاقيك. لأنه لا يوجد طريق يؤدي إلى الحياة ويخلو من أمواج التجارب، كما قال الرسول أيضاً: «جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهَدون» (2تي 3: 12)، وكذلك شهد أيوب أيضاً قائلاً: «أليست حياة الإنسان جهاداً شاقاً على الأرض» (أي 7: 1 - الترجمة التفسيرية)؟! هذا هو، إذن، البلوغ إلى البحر!](2)

والآن، بعد أن عبر بنو إسرائيل البحر الأحمر، وسبَّحوا تسبحة الغلبة والانتصار مردِّدين مع مريم النبية: «رنِّموا للرب فإنه قد تعظَّم، الفرس وراكبه طرحهما في البحر»، «ساروا مسيرة ثلاثة أيام في برية إيثام» التي تُدعى أيضاً برية شور، ولم يجدوا ماءً، إلى أن جاءوا إلى مارَّة «ولم يقدروا أن يشربوا ماءً من مارَّة لأن ماءها كان مُرّاً. لذلك دُعِيَ اسمها مارَّة» (انظر خر 15: 23). و”مارَّة“ تُدعى الآن ”عين حوارة“ (هوارة) التي تبعد عن عيون موسى نحو الجنوب بستة وثلاثين ميلاً.

وهنا لا يذكر موسى في تسجيلاته لمحطات رحلة الخروج من أرض مصر، أول تذمُّر لشعب إسرائيل على موسى عند مارَّة، حينما وجدوا الماء مُرّاً، بعد مسيرة ثلاثة أيام في البرية. ولكن موسى لا يمكن أن ينسى ما عمله الرب معه حينما أراه الرب شجرة في البرية وأمره أن يطرحها في الماء المر، فصار الماء عذباً!! ولم تكن هذه الشجرة سوى رمز للصليب الذي حوَّل مرارة الخطية إلى عذوبة لكل مَن يؤمن ويعتمد.

4. «ثم ارتحلوا من مارَّة وأتوا إلى إيليم. وكان في إيليم اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة، فنزلوا هناك. ثم ارتحلوا من إيليم ونزلوا على بحر سوف. ثم ارتحلوا من بحر سوف ونزلوا في برية سين. ثم ارتحلوا من برية سين ونزلوا في دُفْقة. ثم ارتحلوا من دُفْقة ونزلوا في ألوش. ثم ارتحلوا من ألوش ونزلوا في رفيديم. ولم يكن هناك ماءٌ للشعب ليشرب. ثم ارتحلوا من رفيديم ونزلوا في برية سيناء» (عد 33: 9-15).

من ”هوَّارة“ - التي هي ”مارة“ - سار بنو إسرائيل حوالي 15 ميلاً نحو الجنوب حتى أدركوا موضعاً لطيفاً خصباً يُعرف الآن باسم ”وادي الغرندل“ الذي هو ”إيليم“، ومعناها ”أشجار“. وقد دُعِيَت هكذا لكثرة الأشجار فيها، حيث كانت هناك اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة، فنزلوا هناك عند الماء. وكان هذا الموضع ملائماً للإقامة فيه بجوار الماء والتمر والمراعي الخضراء لماشيتهم، فمكثوا هناك ما يقرب من الشهر. ويُعلِّق على ذلك القديس غريغوريوس النيصي قائلاً:

[إن المحطة التالية في الرحلة، المليئة بالنخيل وينابيع المياه، تُنسِي المسافرين أتعابهم... فما الذي نكتشفه هنا من تسلسل الرواية؟ إن سر الخشبة الذي جعل ماء الفضيلة حلواً ومستساغاً للعطاش (إلى البر)، يقودنا إلى الاثنتي عشرة عين ماء والسبعين نخلة، التي هي تعاليم الإنجيل...](3)

أما المحطة التالية فكانت على بحر سوف أي البحر الأحمر، ثم ساروا بمحاذاة البحر الأحمر حتى وصلوا إلى المحطة التالية لها، إذ نزلوا في برية سين حيث تغيَّرت معالم الطبيعة أمامهم تماماً. فبعد أن كانت الأرض أمامهم خضراء فيها المراعي والعيون والنخيل، إذا بها أرض قحلاء خالية من كل خضرة أو عيون مياه، ويُطلَق عليها الاسم ”سين“ الذي يعني ”تجربة“، حسب رأي العلاَّمة أوريجانوس. وهي البقعة الرملية الممتدة بطول شاطئ البحر الأحمر على الساحل الجنوبي الشرقي لخليج السويس حتى حدود برية سيناء. وقد تذمَّر الشعب هناك أيضاً على الرب لأجل الطعام، فأنزل الرب عليهم المنَّ والسلوى (خر 16). ولم يذكر موسى هنا أيضاً أي شيء عن تذمرهم.

ثم ارتحلوا من برية سين ونزلوا في ”دُفقة“ التي تُدعى الآن ”وادي السيح“ حيث كانوا يصهرون المعادن ولاسيما النحاس. وموقعها بقرب وادي المغارة أو المكان المُسمَّى حالياً ”سيرابية الخادم“. ثم ارتحلوا من دُفقة ونزلوا في ألوش، التي تُدعى الآن ”وادي سن“. ولم يذكر سفر الخروج دُفقة وألوش لأنهما كانتا محطتان صغيرتان، واكتفى بذكر المحطات الرئيسية.

من ألوش نزلوا في رفيديم، وهي قريبة من جبل سيناء. وهناك لم يكن ماء للشعب ليشرب. فتذمَّر الشعب على موسى من أجل الماء، ولم يذكر موسى هنا شيئاً عن هذا التذمر، مع أنها كانت حادثة هامة أَمَر فيها الرب موسى بأن يضرب الصخرة في حوريب لتُخرِج لهم ماءً ليشرب الشعب. كما أنه دعا هذا الموضع ”مسَّة ومريبة“ أي ”تجربة وخصام“. وهناك أيضاً حارب موسى عماليق وانتصر عليهم (خر 17). كما زارهم يثرون كاهن مديان حمو موسى وتقابل مع موسى في رفيديم التي تُدعى الآن ”وادي الشيخ“ أو ”وادي فيران“ (خر 18).

وأخيراً وصلوا إلى برية سيناء في ختام المرحلة الأولى من الرحلة, وكان وصولهم إليها في الشهر الثالث للخروج من مصر (خر 19: 1و2). وقد أقاموا في ”وادي الراحة“ أمام جبل سيناء، ومكثوا في برية سيناء نحو أحد عشر شهراً وعشرين يوماً. وتراءى لهم مجد الرب على جبل الله حوريب، وسمعوا صوته واستعفوا من سماعه وطلبوا أن يكون موسى وسيطاً بينهم وبين الله. وهناك صعد موسى على جبل سيناء وتسلَّم الوصايا العشر. وأثناء وجود موسى على الجبل ضل الشعب وصنعوا العجل الذهبي وعبدوه (خر 32)، فكانت السقطة الكبرى لهم، ولكن الله لم يذكرها هنا لهم.

وفي سيناء أيضاً أُقيمت خيمة الاجتماع في اليوم الأول من الشهر الأول من السنة الثانية للخروج (خر 40: 2).

(يتبع)

 

(1) Origène, Hom. sur l'exode V,2.

(2) Ibid., Hom. V,3.

(3) La Vie de Moïse, 2:132-134.