سفر التثنية
سفر توصيات موسى الوداعية لبني إسرائيل
- 55 -


ثالثاً: الحديث الثالث:
ما سيفعله الله لإسرائيل

(27: 1-34: 12)
1. التصديق على العهد لدخول أرض الموعد
(27: 1-28: 68)

(تابع) الأصحاح الثامن والعشرون

النطق بالبركات لحافظي العهد، واللعنات لناقضيه
في ختام الوعد بالبركات يوصي الرب مُجدَّداً بطاعة وصاياه، وعدم الحياد قطعياً عن الطريق المُعيَّن لشعب الله لكي يسلكوا فيه على الدوام، رافضين بكل ثبات أن ينجذبوا وراء شَرَك عبادة الآلهة الغريبة. وفي تعديده للبركات التي جاءت في بداية هذا الأصحاح الثامن والعشرين يقول:

«مباركاً تكون في المدينة، ومباركاً تكون في الحقل» (28: 3): أي مباركاً تكون في بيتك وفي عملك أيضاً.

«ومبارَكة تكون ثمرة بطنك، وثمرة أرضك، وثمرة بهائمك نتاج بقرك وإناث غنمك» (28: 4): أي تعُمُّ البركة نسلك في الكثرة والنجاح والصلاح، وأرضك في المحاصيل الوفيرة والجيدة، وبهائمك وغنمك في الخصوبة والصحة.

«مباركة تكون سلَّتك ومعجنك» (28: 5): وتمتد البركة إلى مخازنك ودقيقك وخبزك ويمتلئ بيتك بالخيرات.

«مباركاً تكون في دخولك ومباركاً تكون في خروجك» (28: 6): مباركاً تكون في دخولك إلى من‍زلك أو إلى أرضك أي إلى كل ما تمتد إليه يدك. ومباركاً تكون في دخولك إلى الدنيا وفي خروجك منها، أي مباركاً تكون في مجيئك إلى الحياة وفي رحيلك منها؛ أي مباركاً في حياتك كلها.

«يجعل الربُّ أعداءك القائمين عليك منهزمين أمامك. في طريق واحدة يخرجون عليك، وفي سبع طُرق يهربون أمامك» (28: 7): أي يُعطيك الرب النصرة على أعدائك، ويصيبهم الذعر عند مواجهتك ويتفرَّقون ويولُّون هاربين أمامك في كل اتجاه.

«يأمر لك الربُّ بالبركة في خزائنك وفي كل ما تمتدُّ إليه يدك، ويُباركك في الأرض التي يُعطيك الربُّ إلهك» (28: 8): وفي هذا تأكيد على ما قاله سابقاً من حيث البركة التي تَعُم كل شيء له في بيته وفي عمله، وفي كل الأرض التي له.

«يُقيمك الربُّ لنفسه شعباً مُقدَّساً كما حلف لك إذا حفظت وصايا الرب إلهك وسلكتَ في طُرقه. فيرى جميع شعوب الأرض أنَّ اسم الرب قد سُمِّيَ عليك ويخافون منك» (28: 10،9): إذا حفظت وصايا الرب إلهك، يرى جميع شعوب الأرض أعمالك الحسنة فيُمجِّدوا الله فيك، وفي اختيار الرب لك شعباً مُقدَّساً له، فيخافونك ويهابونك.

«ويزيدك الرب خيراً في ثمرة بطنك وثمرة بهائمك وثمرة أرضك على الأرض التي حلف الربُّ لآبائك أنْ يُعطيك» (28: 11): يُضاعف الرب بركته عليك ولا يكفُّ عن مباركتك في كل شيء: في نسلك ونتاج بقرك وغنمك وثمار أرضك.

«يفتح لك الربُّ كن‍زه الصالح السماء ليُعطي مطر أرضك في حينه، وليُبارك كل عمل يدك، فتُقْرِض أُمماً كثيرة وأنت لا تقترض» (28: 12): يفتح لك الرب كوى السماء، ويُعطي أرضك المطر في حينه، فينمو زرعك وتكثر أثمارك حتى تقول كفانا، ويفيض منك ما هو أكثر من إعوازك فتُقْرِض شعوباً ولا تقتَرِض من أحد.

«ويجعلك الرب رأساً لا ذنباً، وتكون في الارتفاع فقط ولا تكون في الانحطاط إذا سَمِعتَ لوصايا الرب إلهك التي أنا أُوصيك بها اليوم لتحفظ وتعمل. ولا تزيغ عن جميع الكلمات التي أنا أُوصيك بها اليوم يميناً أو شمالاً لكي تذهب وراء آلهة أخرى لتعبدها» (28: 14،13): هذه هي خاتمة الوعود والبركات التي تحل عليك إذا سمعتَ لوصايا الرب إلهك وعملت بها، ولم تَحِد عنها يميناً أو شمالاً، فتجعلك دائماً في المقدمة وتكون دائماً في الارتفاع ولا تكون أبداً في الانحطاط.

+++

اللعنات التي تحل بالمخالفين

لم تكن اللعنة من نصيب الإنسان عندما خلقه الله. فقد خُلِق الإنسان لكي يرث البركة، ويكون شريكاً للطبيعة الإلهية، لأنه لما خلق الله الإنسان قال: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا». وبعد ذلك عاد الكتاب وأكَّد هذه الحقيقة مرة أخرى قائلاً: «فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأُنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض...» (تك 1: 26-28).

ولكن، متى جاء ذِكْر اللعنة لأول مرة في حياة الإنسان؟ حدث ذلك عندما تعدَّى الإنسان وصية الله بغواية الحيَّة القديمة التي هي إبليس عدو الخير. ونَطَقَ الله باللعنة على الحيَّة أولاً التي تسبَّبت في سقوط الإنسان. وتسرَّبت نتائج اللعنة بعد ذلك إلى حواء من حيث العداوة التي نشأت بين الحيَّة وبين المرأة وبين نسل المرأة ونسلها (تك 3: 15،14). كما تبدَّلت بركة إنجاب النسل وثمرة البطن والإكثار، إلى قول الرب للمرأة التي أُغويَتْ أولاً، وذلك بقوله لها: «تكثيراً أُكثِّر أتعاب حبلك. بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليكِ. وقال لآدم (أيضاً): لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلتَ من الشجرة التي أوصيتك قائلاً: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكاً وحسكاً تُنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخِذْتَ منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود» (تك 3: 16-19). ورغم هذا كله، فإننا نُلاحظ أنَّ الرب لم ينطق باللعنة على آدم وحواء مباشرة؛ بل أنبأهما بنتائج عصيانهما، واللعنة التي أصابت الأرض بسببهما، ولا شكَّ أنهما سيُعانيان منها إلى أن يعودا إلى الأرض التي أُخذا منها.

أما قايين الذي قتل أخاه هابيل، فقد نطق الرب باللعنة صريحة عليه بقوله: «ملعونٌ أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملتَ الأرض لا تعود تُعطيك قوَّتها. تائهاً وهارباً تكون في الأرض» (تك 4: 12،11).

وهكذا يتضح لنا أن الإنسان لم يُخلق للَّعنة بل للبركة. ولكن كما أن الطاعة لوصية الله يتبعها البركة، هكذا العصيان وتَرْك وصايا الرب يتبعها اللعنات. وقد كان ذلك منذ بدء الخليقة، عندما بصَّر الله آدم بذلك لما أعطاه وصيته الأولى قائلاً: «مِن جميع شجر الجنة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت» (تك 2: 17،16). وهكذا أعطى الربُّ الإنسانَ حرية الاختيار بين طاعته، فينال الحياة معه ويصحبها البركات والأَكل من جميع شجر الجنة بما فيها شجرة الحياة التي في وسط الجنة؛ أو يختار التعدِّي على وصية الله والأكل من شجرة معرفة الخير والشر وما يتبعها من نتائج: وهي الموت، والحرمان من الشركة مع الله، وحلول اللعنات عليه.

وهكذا وضع الله من البداية أمام الإنسان طريقين: الحياة والموت، الخير والشر؛ كما جعلها موسى أيضاً قدَّام بني إسرائيل وهم على وشك دخولهم أرض الموعد، إذ قال لهم: «أُشهِدُ عليك اليوم السماء والأرض. وجعلتُ قدَّامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختَر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك» (تث 30: 20،19).

وكما لاحظنا في البركات التي نطق بها الله لبني إسرائيل إذا حفظوا وصاياه وعملوا بها، أنها كانت تشمل كِلاَ الجانبين: حياتهم الداخلية من حيث الصحة والوفرة والرخاء للأُمة كلها، وعلاقاتهم الخارجية مع الشعوب من حيث السناء والبهاء والقوة والاستعلاء على جميع قبائل الأرض؛ فعكس ذلك تماماً إذا تركوا الرب ولم يحفظوا وصاياه، فإنَّ اللعنات التي سوف تُدركهم لن تشمل فقط الكوارث والنكبات والأوبئة والمجاعات على مستوى حياتهم الداخلية نتيجة عصيانهم لوصايا الرب، بل إنهم سيصيرون أيضاً مَثَلاً وهُزْأةً بين جميع شعوب الأرض، ويُستأصلون من الأرض التي هم داخلون إليها، ويُسبَوْن إلى بلاد لا يعرفون لغتها، ويُستعبدون لها. وإذا نظرنا لأول وهلة لهذا الفصل الطويل من اللعنات، نلاحظ أنها تترك انطباعاً لدى القارئ أنها تُصوِّر مدى الخطورة العظيمة التي تنجم عن ترك وصايا الرب والوقوع في شَرَك عبادة الآلهة الكاذبة، وهي تبدأ بقوله:

+ «ولكن إنْ لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أُوصيك بها اليوم، تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتُدركك: ملعوناً تكون في المدينة، وملعوناً تكون في الحقل. ملعونة تكون سلَّتك ومِعْجنك. ملعونة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك، نتاج بقرك وإناث غنمك. ملعوناً تكون في دخولك وملعوناً تكون في خروجك» (28: 15-19).

في هذه الأعداد، يُحدِّد الأشخاص الذين تنصبُّ عليهم اللعنات، أنهم أولئك الذين لا يسمعون لصوت الرب للعمل بجميع وصاياه وفرائضه، «لأنه إنْ كان أحدٌ سامعاً للكلمة وليس عاملاً، فذاك يُشبه رجلاً ناظراً وجه خلقته في مرآة. فإنه نظر ذاته ومضى، وللوقت نَسِيَ ما هو» (يع 1: 23). لذلك يُوصينا يعقوب الرسول قائلاً: «كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم» (يع 1: 22). أما اللعنات التي ذُكِرَت في هذه الأعداد، فيُلاحَظ أنها تتضمن ست لعنات تُقابل البركات الأولى التي ذُكرت في قائمة البركات. فسوف تُلاحق اللعنات الإنسان المتعدِّي في المدينة والحقل، وفي بيته وفي أرضه، وفي مخازنه وفي خبزه، وفي نسله وبهائمه، وفي دخوله وخروجه:

+ «يُرسل الربُّ عليك اللَّعن والاضطراب والزَّجْر في كل ما تمتدُّ إليه يدك لتعمله حتى تهلك وتَفْنَى سريعاً من أجل سوء أفعالك إذ تركتني. يُلصق بك الربُّ الوبأَ حتى يُبيدك عن الأرض التي أنت داخلٌ إليها لكي تمتلكها. يضربك الربُّ بالسِّلِّ والحُمَّى والبُرَدَاء (الحُمَّى مع برودة شديدة) والالتهاب والجفاف واللَّفح (الحر الشديد) والذبول فتَتَّبعك حتى تُفنيك. وتكون سماؤك التي فوق رأسك نُحاساً والأرض التي تحتك حديداً. ويجعل الربُّ مطر أرضك غُباراً وتُراباً يُن‍زل عليك من السماء حتى تهلك» (28: 20-25).

هذه مجموعة من اللعنات والكوارث التي تحيق بهم لعلَّهم يفيقون من غيِّهم فيرجعوا إلى الرب فيشفيهم، وهو يصفها بأنها ”اللعن“ الذي هو الغضب الإلهي الناتج عن تخلِّي النعمة عن الإنسان بسبب رفضه الاستماع إلى الله؛ و”الاضطراب“ الذي هو الخوف والرعب والانزعاج بلا سبب، وفي هذا يقول إشعياء النبي: «أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ وتقذف مياهه حمأةً وطيناً. ليس سلام قال إلهي للأشرار» (إش 57: 21،20)؛ وكذلك ”الزَّجْر“ وهو سخط الرب وحُمو غضبه، كقوله في المزمور: «أَرسلَ عليهم حُمُوَّ غضبه، سَخَطاً ورِجْزاً وضيقاً جيش ملائكة أشرار. مَهَّدَ سبيلاً لغضبه. لم يمنع من الموت أنفسهم بل دفع حياتهم للوبأ» (مز 78: 50،49). هذا كله يأتي على إسرائيل، لأنهم تركوا إلههم فيُصابون باللعن والاضطراب والزجر في كل ما تمتد إليه أيديهم إلى أن يهلكوا ويفنوا سريعاً من أجل سوء أفعالهم، إذ تركوه: «لأن شعبي عمل شرَّيْن: تركوني أنا ينبوع المياه الحيَّة لينقروا لأنفسهم آباراً، آباراً مُشقَّقة لا تضبط ماءً» (إر 2: 13).

والواقع أن الله لم يكُفَّ عن أن يُحذِّرهم من تركه ورفض الخضوع لوصاياه وفرائضه على لسان موسى النبي، على مدى مسيرته معهم في برية سيناء تمهيداً لدخولهم أرض الموعد. فقد جاء في ختام سفر اللاويين ما يُشبه ما نطق به ههنا من بركات طاعته ومن عواقب مخالفته، إذ قال لهم بعد أن عدَّد البركات التي سيحظون بها إذا أطاعوه: «لكن إن لم تسمعوا لي ولم تعملوا كل هذه الوصايا، وإن رفضتم وكرهتْ أنفسكم أحكامي، فما عملتم كل وصاياي بل نكثتم ميثاقي؛ فإني أعمل هذه بكم: أُسلِّط عليكم رُعْباً وسِلاًّ (هُزالاً بسبب مرض الرئة) وحُمَّى تُفني العينين وتُتلف النفس، وتزرعون باطلاً زرعكم فيأكله أعداؤكم. وأجعل وجهي ضدَّكم فتنهزمون أمام أعدائكم، ويتسلَّط عليكم مُبغضوكم، وتهربون وليس مَن يطردكم» (لا 26: 14-17).

ولم تكن هذه إلاَّ بداية الأوجاع لأجل تأديبهم وإيقاظ ضمائرهم لينتبهوا لخلاصهم ويعودوا إلى الرب إلههم، ولكن: «إن كنتم مع ذلك لا تسمعون لي أَزيدُ على تأديبكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم. فأُحطِّم فخار عزِّكم وأُصيِّر سماءكم كالحديد (لا تُمطر) وأرضكم كالنحاس (لا تُثمر). فتُفْرَغ باطلاً قوَّتكم، وأرضكم لا تُعطي غلَّتها، وأشجار الأرض لا تُعطي أثمارها» (لا 26: 18-20).

وإن لم يرتدعوا يُضاعِف عليهم التأديبات كقوله: «وإن سلكتم معي بالخلاف ولم تشاءوا أنْ تسمعوا لي أَزيد عليكم ضرباتٍ سبعةَ أضعاف حسب خطاياكم. أُطلق عليكم وحوش البريَّة فتُعدمكم الأولاد وتَقْرِض بهائمكم وتُقلِّلكم فتُوحَش طُرُقكم» (لا 26: 22،21). وهكذا يُصعِّد الرب من تأديباته لهم، لأنه لا يُسرُّ بموت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا. لذلك يُواصِل مضاعفة تأديبادته، لعلهم يفيقون: «وإن لم تتأدَّبوا مني بذلك بل سلكتم معي بالخلاف، فإني أنا أسلك معكم بالخلاف وأضربكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم. أجلبُ عليكم سيفاً ينتقم نقمةَ الميثاق فتجتمعون إلى مدنكم، وأُرسِل في وسطكم الوبأ فتُدفَعون بيد العدو، بكَسْري لكم عصا الخبز، تخبز عشر نساء خُبزكم في تَنُّور واحد، ويَرْدُدْنَ خبزكم بالوزن فتأكلون ولا تشبعون» (لا 26: 23-26).

ويستمر هكذا في تصعيد ويلاته عليهم حتى يقول لهم: «ولكن إن أقرُّوا بذنوبهم وذنوب آبائهم... أَذكر ميثاقي مع يعقوب، وأذكر أيضاً ميثاقي مع إسحق، وميثاقي مع إبراهيم...» (لا 26: 40-46).

(يتبع)