|
|
|
مقدِّمة عامة:
يتضمن العهد القديم من حيث الموضوع:
1. مُجملاً للتاريخ الطبيعي وأصل الحياة، يعقبه رسم لأصول العهد المُبرم بين الله وشعب إسرائيل، وسرد للمبادئ والفرائض والأحكام التي يتضمنها هذا العهد أو الميثاق، وما يخصُّ كلاًّ من الجانبين المتعاقدين منها، وهما الله وشعب إسرائيل، أي الوعود المعطاة من الله والواجبات التي يلتزم بها الإنسان، مع الأحكام المُلازمة لتأدية هذه الواجبات على أتمِّ وجه. وهذه هي الأسفار الخمسة والتي تُدعَى أيضاً ”توراة موسى“.
2. سلسلة من التواريخ التي تُعطي فكرة عن الأحوال التي جاز فيها هذا الشعب الموعود، مع الإشارة بصفة خاصة إلى درجة حفظهم لالتزاماتهم تجاه عهد الله معهم، أو فشلهم في حفظها، ومعاملات الله لهم تبعاً لذلك. وهي الأسفار التي تبدأ من سفر يشوع حتى سفر نحميا.
3. مجموعة من الكتب الأدبية المُعبِّرة عن المبادئ التي تضمَّنها العهد، مُصاغةً إما في أسلوب شعري بقصد استخدامها في العبادة الخاصة أو العامة في الليتورجية في الهيكل، وهو سفر المزامير؛ أو في أسلوب قصصي أو رمزي، أو سرد لأعمال عظيمة تستمد أهميتها من علاقتها بأبطال هذا الجنس المختار، وهي أسفار: راعوث ويونان وأستير ونشيد الأنشاد (باعتباره مُمثِّلاً لحب الله وتعامُلاته مع شعبه المختار)؛ أو مجموعة من الأمثال والحِكَم أو العبارات الفلسفية، وهي سفرَي الأمثال والجامعة؛ أو المعالجة الشعرية للمشاكل الدينية العويصة كمشكلة الألم، وهو سفر أيوب.
4. سلسلة كتابات القادة الروحيين المختارين لهذا الشعب، الذين كانوا بإلهامٍ خاص من الوحي الإلهي يتنبَّأون عن أمورٍ مستقبلة، وينقلون المبادئ التي تضمَّنها العهد الأول بطريقةٍ تُمهِّد لإرسائها النهائي على أُسس جديدة أكثر اتِّساعاً، وتُعِدُّها للانطلاق من حدود العهد المُبرم بين الله وشعبٍ واحد محدَّد، وهو إسرائيل، إلى عهد النعمة والرحمة اللذين يهبهما الله بلا حدود للإنسانية جمعاء، وهي أسفار الأنبياء.
التبويب العبري لأسفار العهد القديم:
يختلف التبويب اليهودي للعهد القديم تماماً عن التبويب الحالي المطبوع حديثاً الذي بين أيدينا، ولكننا نستطيع أن نجد له التصوير المناسب من نفس كلمات الرب يسوع.
ففي إنجيل لوقا 24: 44، أعطانا الرب تقسيماً مثلَّثاً للأسفار المقدسة وهو: 1. الناموس، 2. الأنبياء، 3. المزامير. ويُسمَّى الناموس بالتوراة أو أسفار موسى الخمسة؛ أما القسم الثاني وهو الأنبياء، فيُقسِّمه اليهود إلى قسمين: 1. الأنبياء الأولون؛ 2. الأنبياء المتأخِّرون. والأنبياء الأولون يُقصَد بهم: يشوع، القضاة، صموئيل، الملوك (الذين كُتِبَ عنهم بواسطة أنبياء مُلهمين). أما الأنبياء المتأخِّرون فهُم: إشعياء، إرميا، حزقيال، والأنبياء الاثنا عشر (الذين يُدعَون بالصغار بسبب أسفارهم القصيرة).
أما القسم الثالث فيشمل جميع الأسفار الباقية. وهي تُعرَف عند اليهود باصطلاح مُعيَّن هو كلمة ”كيتوبيم“، وباليونانية ”هاجيوجرافا“ أي ”كتابات مقدسة“. وهو متنوِّع في محتوياته، فهو يشمل بجانب المزامير والأمثال وأيوب، الكتب التاريخية وأعني بها: أخبار الأيام، وعزرا ونحميا؛ وكذلك الكُتُب الخمسة المُسمَّاة ”مجلُّوث“ أي ”المجلاَّت“ أو ”الدروج“ وهي: نشيد الأنشاد، راعوث، مراثي إرميا، الجامعة، أستير.
وكان اليهود يُقسِّمون الناموس والأنبياء إلى موضوعات دراسية، وهي التي قرأ ربنا يسوع فصلاً منها حينما وقف في المجمع ليقرأ، «فدُفِعَ إليه سفر إشعياء النبي. ولما فتح السِّفْر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه: ”روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين، أرسلني لأشفي المُنكسري القلوب، لأُنادي للمأسورين بالإطلاق وللعُمْي بالبصر، وأُرسِل المُنسحقين في الحرية، وأَكرز بسنة الرب المقبولة“» (لو 4: 16-19)، ثم قال لهم: «إنه اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم» (لو 4: 21). وبجانب هذا الترتيب الذي كانوا يتبعونه حينذاك، كانوا يتلُون أيضاً كُتب المجلات أو الدروج الخمسة في أعيادهم الرئيسية. فكانوا يقرأون سفر نشيد الأنشاد في عيد الفصح، وراعوث في عيد الأسابيع، ومراثي إرميا في شهر آب (أواخر يوليو)، (حيث يُقال إنَّ الهيكل الأول والهيكل الثاني هُدِما في ذاك الزمان)، وسفر الجامعة في عيد المظال، وسفر أستير في عيد البيوريم.
ويمتدُّ زمن كتابة العهد القديم إلى نحو ألف سنة. وغالبية هذا التراث الروحي كُتِبَ باللغة العبرانية، لغة إسرائيل القديمة التي اندثرت تدريجياً بعد السبي، وأعقبها اللغة الأرامية وهي لهجة مُقاربة للعبرانية ومن نفس عائلتها، وكذلك اللغة اليونانية فيما بعد. وقد اعتمد يهود فلسطين الذين عاصروا الرب يسوع المسيح جميع الاثنين والعشرين كتاباً التي هي بعدد حروف الأبجدية العبرانية. وفي حسابهم هذا العدد الكُتب المعتمدة، اعتبروا سفر راعوث جزءاً من القضاة، والمراثي جزءاً من سفر إرميا، ونحميا مع عزرا، وأسفار صموئيل الأول والثاني، والملوك الأول والثاني، وأخبار الأيام الأول والثاني؛ اعتبروا كلاًّ منهم سفراً واحداً، ولم يقسموا كل واحد منهم إلى سِفْرَيْن. وكذلك الاثنا عشر سِفْراً التي للأنبياء الصغار حسبوها كتاباً واحداً. أما حسابنا الحالي لعدد أسفار العهد القديم فهو 39 سفراً حسب ما كان مُتَّبعاً لدى يهود الإسكندرية.
وقد كان العهد القديم المُعتمَد عند الجالية اليهودية الكبيرة في الإسكندرية، الذي يُدعَى بالقانون الإسكندري، يشمل الكُتب المعروفة بالأبوكريفا (وهي تعني المختفية). وقد سُمِّيَت كذلك ربما لكونها غامضة من حيث أصلها، كما أنَّ حُكْم الكنيسة بالنسبة لها وَضَعها موضع الغموض النسبي، ودُعِيَت: الأسفار القانونية الثانية. وهذه الأسفار تكوَّنت غالبيتها بعد تمام استكمال اعتماد قانونية أسفار العهد القديم، وفي الفترة التي بين العهدين. والذين أقصوا هذه الأسفار من قانون العهد القديم علَّلوا ذلك بسبب تاريخ كتابتها، وبسبب كون مكان كتابتها ليس في فلسطين، ولأسباب أخرى ذات أساس ديني، وهي تشمل:
1 - كتابات منسوبة لبعض شخصيات العهد القديم مثل: باروخ، رسالة منسَّى، إزدراس.
2 - إضافات لبعض الكُتب القانونية مثل تلك المُضافة على سفر أستير وسفر دانيال.
3 - كتابات تاريخية خاصة بالحقبة بين العهدَيْن القديم والجديد، وهي أسفار المكابيين.
4 - روايات ذات صبغة أخلاقية أو روحية مثل: يهوديت، سوسنَّة، طوبيت.
5 - كتابات ذات طابع أخلاقي وفلسفي مثل: يشوع بن سيراخ، وحكمة سليمان.
وجدير بالذكر أن قانون الكتاب المقدس العبري لا يشمل أيّاً من هذه الكُتُب.
الحكمة من هذا التقسيم:
هذا التقسيم له علاقة هامة بتاريخ قانونية هذه الأسفار المقدسة وكيفية جمعها في كتاب واحد، إذ نستطيع أن نكتشف من ترتيبها الأطوار التي جاز فيها نص الكتاب المقدس العبري حتى وصل إلى الصورة التي انتهى إليها. فالناموس - أي أسفار موسى الخمسة - يُعتَبَر أنه نواة العهد القديم كله، وحول هذه النواة تجمَّعت سائر الكتابات اليهودية المقدسة. فقد كان الناموس أو التوراة مُعتَبَراً أنه هو السِّفْر الإلهي بالدرجة الأولى. ثم جاءت بعده سائر الأسفار لتُشاركه في ذات النبع والمنشأ.
ولم يكن الناموس محتاجاً إلى أية سلطة لاعتماد قداسته، فقد كان يكفيه شهادةً على وحيه الإلهي طبيعة ما يحتويه، حيث إنه يتمركز حول أول شريعة سماوية مكتوبة بأصبع الله على لوحين من الحجر! تلك التي تسلَّمها موسى رئيس الأنبياء وكليم الله على الجبل بعدما صام أربعين يوماً وأربعين ليلة. وقد أَمَرَ الله موسى أن يحفظ هذين اللوحين داخل تابوت العهد في قدس الأقداس، كدليل على مكانة كلمة الله وقيمتها العظمى في قيادة شعب الله وتقديسه، حيث كان تابوت العهد يُمثِّل حضرة الله في وسط شعبه. أما الأسفار الأخرى فقد جاءت بعده بترتيب تاريخ اعتماد قانونيتها وضمَّها للأسفار المقدسة.
الأهمية الروحية لكتب العهد القديم:
ترجع أصول العهد القديم إلى الوحي الإلهي لشعب الله ابتداءً من إبراهيم. ورغم أنَّ محتوياته تتضمن بعضاً من المعلومات التاريخية أكثر مما هو موجود في كُتُب العهد الجديد، إلاَّ أنَّ قانونية أسفار العهد القديم كالتوراة (الذي اعتُمِدَ منذ سنة 400 ق.م)، والأنبياء (منذ 200 ق.م)، والكتابات (منذ 90 ق.م)؛ فقد اعتُمِدَت كلها لتسُدَّ الحاجة الروحية للشعب اليهودي.
فديانة وتاريخ إسرائيل هي بالأساس نبويَّة. والوحي في العهد القديم، حسب ما جاء في الرسالة إلى العبرانيين، هو ما أُوحي به للأنبياء: «الله بعدما كلَّم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواعٍ وطُرُق كثيرة...» (عب 1: 1). ففى العهد القديم، نجد التاريخ والنبوَّة متَّصِلَيْن بعضهما البعض اتصالاً وثيقاً، بقدر ما نُلاحِظ أنَّ الأحداث العظيمة في تاريخ إسرائيل (مثل: دعوة إبراهيم، والخروج، وتأسيس مملكة داود، وسقوط أورشليم، والسبي البابلي)، تشهد لها رسائل الأنبياء وإيحاءاتهم.
فالنبوَّة، بالوحي الإلهي، نَبَعتْ من أسفار الكتاب التاريخية، ووجدت تحقيقها في التاريخ. فديانة إسرائيل، بخلاف ما كان بالنسبة لمعاصريها، مبنيةٌ على الوحي من خلال أحداث تاريخية، وليست مجرد رؤى ميتافيزيقية، أو معتقَد وهمي، أو تفكير فلسفي. وهذا يُساعد على شرح السبب في اعتبار الكتب التاريخية التي لـ ”يشوع“ و”القضاة“ و”صموئيل“ و”الملوك“، قد تمَّ تصنيفها بأنها ”الأنبياء الأوائل“ في القانون العبري. فمؤلِّفو هذه الأسفار، هم الأنبياء الأوائل وهم مثل الأنبياء الأخيرين، قد رأوا أنَّ تاريخ إسرائيل هو في حدِّ ذاته، وحي إلهي. فإنه عندما يُسجِّل كاتب تاريخ العهد القديم، فهو ليس مهتماً بمجرد كتابة التاريخ كتاريخ، بل إنه يُسجِّل الوحي الإلهي في ذلك التاريخ ومن خلاله. والنبوَّة والتدبير الإلهي يسيران جنباً إلى جنب في الكتب المقدسة.
ولهذا السبب، فإنَّ كلمة الله تتضمن بحق: الشهادة النبويَّة عن ما قاله الله وما فعله، وما هو مزمع أن يفعله في التاريخ. والفكر النبوي، إذن، يشمل مغزى التاريخ الذي يُفسِّر مساره ويتنبَّأ عن منتهى حصيلته. وليس هذا فقط، بل إنه ليس تاريخ إسرائيل فحسب، وإنما تاريخ كل الأُمم أيضاً، الذي تحت سيطرة الله وتدبيره. فكل التاريخ هو ميدان استعلان حكمة الله وقوته ومجده. وهذا واضح كل الوضوح مثلاً في عاموس 9: 7، حيث يُعلِن الله لإسرائيل الخاطئ: «ألستم لي كبني الكوشيِّين يا بني إسرائيل، يقول الرب، ألم أُصْعِد إسرائيل من أرض مصر، والفلسطينيين من كفتور والأراميين من قير؟!». إنَّ مغزى هذا القول الذي قاله الله لإسرائيل على فم عاموس النبي، هو لكي يفهم إسرائيل قبل كل شيء أنه يلزم لإسرائيل أن يُقيِّم تاريخه تقييماً سليماً، إذ كان واثقاً في نفسه ثقةً زائدة، قائمة على إحساس كاذب بالأمان والتميُّز والاستثناء من الحُكْم بالدينونة، على أساس خروجه وتحريره من عبودية مصر.
فالله هنا يُذكِّر إسرائيل أن خروجه من مصر، بدون طاعة إيمانهم، لا يمكن أن يُعطيهم أي امتياز، لأن الفلسطينيين والسوريين هم أيضاً - بنوعٍ ما - شعوبٌ ذات تاريخ خروج كذلك. وبالإضافة إلى هذه الحقيقة، فإنَّ هذا النص يُعلِن بكل وضوح لا لَبْسَ فيه أنَّ الله إله إسرائيل هو أيضاً السيِّد الكُلِّي القدرة لمصائر كل البشر والشعوب والأحداث. وفي كلمة واحدة هو رب التاريخ.
وأحكام الله على كل أُمم الأرض الوثنية، كما على إسرائيل، هي دليلٌ على ربوبيته لكل تاريخ العالم. فهناك نبوَّات كثيرة مماثلة لهذه الأحكام في كتابات الأنبياء. فأدوم وموآب والعمونيُّون والفلسطينيون، وأرام وصور وصيدا، كل هؤلاء قد حُكِمَ عليهم، مع عالم الإمبراطوريات التي لأشور ومصر وبابل وغيرهم. وفي الحقيقة، فقد نطق الأنبياء بالأحكام ضد كل هذه الشعوب: (إش 34؛ يؤ 3؛ زك 12-14؛ إر 25: 15-39؛ إش 24-27؛ مي 11... إلخ؛ صف 1-3).
وعموماً، فإنَّ القصد الإلهي من التاريخ يُعلِن بكل وضوح عن صفته النبويَّة. وفي الفكر العبري بصفة عامة، وبالأخص بالنسبة للكتابات النبويَّة، يجد الدارس تفرُّداً في مفهوم التاريخ يختلف عن المفهوم المدرسي لفلسفة التاريخ. ويظهر هذا الاختلاف في الإدراك النبوي لسيطرة التدبير الإلهي الذي يُوجِّه كل أحداث التاريخ نحو هدف مركزي واحد. فقَصْد الله في كل أعمال تدبيره في مجال التاريخ، مثل إقامة كورش مثلاً، ليس فقط من أجل صالح إسرائيل؛ بل إنَّ له قصداً نهائياً عالمياً من جهة رؤية الله له: «لكي يعلموا من مشرق الشمس ومن مغربها أنْ ليس غيري. أنا الربُّ وليس آخر» (إش 45: 6).
وهكذا فإنَّ تاريخ العهد القديم ليس مجرد تاريخ، ولكنه تاريخ هادف، وهدفه هو الفداء. فقَصْد الله من تاريخ إسرائيل هو أنه عين الإيمان ومفتاح تاريخ البشرية كلها. هذا هو التأكيد اللاهوتي لأسفار الأنبياء، أنَّ الله بكونه رب التاريخ والتدبير، فهو المُتحكِّم في كل مخارج التاريخ وتحرُّكاته لقصدٍ مُعيَّن. وفي صوتٍ واحدٍ يُعلِن الأنبياء أنَّ الهدف الذي نحوه يُوجَّه كل التاريخ، هو تأسيس ”ملكـوت الله“، أي حُكْم الله وسيطرته على كل الأرض: «ويكون الربُّ مَلِكاً على كل الأرض. في ذلك اليوم يكون الربُّ وحده واسمُه وحده» (زك 14: 9).
(يتبع)